ضربت بريطانيا مجددًا عرض الحائط بمطالب الشعب العربي، بواسطة اقتراح التقسيم الذي اعتبره المناضلون الذين شاركوا في الإضراب والثورة، صفعة مدوّية في وجوه الفلسطينيين وهدية مجانية لليهود، مما حدا بالمجموعات المسلحة إلى التأهب لاستئناف الثورة وانطلقت في جبال الجليل والسامرة والقدس والخليل، بينما كثفت اللجنة العربية العليا نشاطها ضد توصيات لجنة "بيل"، مما أثار حفيظة وغضب بريطانيا، خاصة بعد العودة إلى تشكيل اللجان الشعبية في القرى والمدن، التي كان الهدف منها هو تجديد العمل الجهادي ضد بريطانيا ومشروع الدولة اليهودية.
من أجل منع انطلاق الثورة الفلسطينية من جديد، قررت الحكومة البريطانية ضرب اللجنة العربية العليا بواسطة اعتقال من يقف على رأسها، ولذلك أرسلت قوة من الشرطة، في 17 تموز/ يوليو 1937، لتطوق دار اللجنة العربية العليا، من أجل اعتقال الحاج أمين الحسيني، الذي نجح في تفادي القوة الشرطية ولجأ إلى الحرم الشريف في القدس، واعتصم هناك حتى خروجه من البلاد سرًّا في 14 تشرين أول/ أكتوبر 1937.
ولما كانت اللجنة العربية قد طلبت إذنًا من السلطات بعقد مؤتمر عربي عام، وتم رفض هذا الطلب من قبل الحكومة، فقد اتفقت اللجنة العربية مع لجنة الدفاع عن فلسطين في سوريا، على عقد هذا المؤتمر في بلودان السورية، وذلك يوم 18 أيلول / سبتمبر 1937، بحضور أكثر من 450 مندوبًا من الأقطار العربية. أما قرارات المؤتمر فقد نصت على أن فلسطين جزء من الوطن العربي، وأن العرب يرفضون التقسيم، ويرفضون إقامة دولة يهودية في فلسطين، وأن العرب يطالبون بإلغاء الانتداب ووعد بلفور، ووقف بيع الأراضي لليهود. وطالب المؤتمر بريطانيا بالاستجابة لهذه المطالب وإلا فإن غير ذلك من شأنه قطع الصداقة بين العرب وبين بريطانيا.
هذه التحركات كانت تثير غضب بريطانيا، حيث كانت تنتظر الفرصة للانقضاض على اللجنة العربية العليا، وقد جاءتها هذه الفرصة عندما قام الثوار باغتيال حاكم لواء الجليل الجنرال "لويس أندروز" وحرسه في يوم الأحد الموافق 26 أيلول / سبتمبر 1937 في الناصرة، وذلك لأنه كان من أكبر الداعمين للحركة الصهيونية، وخاصة بناء المستعمرات بشكل سريع في فترة ثورة وإضراب سنة 1936، كردّ على التحرك العربي من أجل الاستقلال بواسطة تثبيت الوجود اليهودي في فلسطين، كذلك فإنه قدم أمام لجنة "بيل" شهادة لصالح الصهاينة و"حقهم" في وطن قومي في فلسطين. هذا الاغتيال أدى بالسلطة إلى اتخاذ خطوات لم يسبق لها مثيل، حيث اعتقلت أكثر من مئتي عربي خلال 48 ساعة، وقامت بإخراج اللجنة العربية العليا، واللجان القومية المحلية خارج القانون، وأقصى المفتي عن منصبه في رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى، ومنصبه في رئاسة لجنة الأوقاف. بعدها قامت السلطات باعتقال من أمكنها من أعضاء اللجنة العربية ونفيهم إلى جزر "سيشيل" وهم أحمد حلمي عبد الباقي والدكتور حسين الخالدي وفؤاد سابا، ويعقوب الغصين ورشيد الحاج إبراهيم. أما الباقون من أعضاء اللجنة فكانوا خارج البلاد ولذلك صدر بحقهم أمر منع دخولهم إلى البلاد وهم عزة دروزة وعوني عبد الهادي وألفرد روك وعبد اللطيف صلاح، بينما استطاع جمال الحسيني أن يهرب إلى دمشق. فيما ظل المفتي معتصمًا في الحرم القدسي ولذلك لم تستطع السلطات اعتقاله، حتى هروبه إلى خارج البلاد متنكرًا في منتصف تشرين أول / أكتوبر 1937، كما ذكر سابقًا.
توالت الأحداث بعد حل اللجنة العربية العليا في الأول من تشرين أول / أكتوبر ، حيث عم الإضراب العام في القدس في اليوم التالي، ثم امتد في اليومين التاليين إلى مناطق أخرى في فلسطين، حتى أصدر المفتي بيانًا يدعو فيه الناس إلى العودة إلى أعمالهم وإنهاء الإضراب، حتى هروبه من البلاد في 14 تشرين أول / أكتوبر إلى لبنان، والذي كان اليوم الذي انتهت فيه حالة الهدوء النسبي، حيث ابتدأ رجال الثورة بتنفيذ عمليات ضد منشآت حكومية ومستعمرات صهيونية، منها هجوم على حافلتين لليهود في منطقة القدس، وإطلاق النار على الأحياء اليهودية في القدس من جميع الجهات، وتنفيذ هجوم على مطار اللد وإضرام النار في منشآته، وإتلاف جزء من خط أنابيب نفط العراق، وقطع خطوط الهاتف، وتدمير سكك حديدية، وإطلاق نار على دوريات شرطية وغيرها.
هذه الأحداث كانت مؤشرًا على عودة الثورة من جديد، فأعلنت حالة الطوارئ، وأقيمت المراكز الشرطية، وصار الجيش يدخل القرى فيعاقب أهلها ويعيث فيها فسادًا كبيرًا.
استمرار الثورة وتنظيم قياداتها
اعتقد الفلسطينيون أن الإضراب والثورة عام 1936 قد حققا أهدافهما، قبل أن تصدر توصيات لجنة "بيل"، ولكن ما أن صدرت هذه التوصيات حتى عرفوا أن بريطانيا قد خدعت العرب مرة أخرى، تمامًا كما فعلت طوال سنين عديدة. ولهذا كان لا بد من الضغط مرة أخرى على الحكومة لعلّ هذه تنصف العرب وتتنازل عن مشروع الدولة اليهودية في فلسطين، مما أدّى إلى استمرار أحداث العنف ضد الدولة ومؤسساتها، وحلفائها الصهاينة الذين كانوا في أوج بنائهم لدولتهم الموعودة.
أما الحكومة فقد قابلت الثورة المتجددة بالقمع والتنكيل، ولكن الثوار قابلوا العنف السلطوي بعنف وشدة مما أدّى إلى أكثر من 100 قتيل من رجالات السلطة وأضعاف ذلك من الجرحى، خلال الأشهر الثلاثة من الثورة، أي حتى نهاية عام 1937، رغم أن الثورة تركزت في هذه الفترة في لواء نابلس، وفي المنطقة الشمالية خاصة في قضائي عكا وصفد، وفي جبل الخليل. كذلك كان عدد الثوار قليلا، ولذلك فقد لاقوا صعوبات جمّة من قبل بعض مخاتير في قرى معينة، ولم يتلقوا المساعدة والدعم الكافيين من السكان، كما حصل معهم في ثورة الإضراب عام 1936.
في هذه المرحلة، كانت أغلب المجموعات المسلحة الفلسطينية صغيرة وعدد أعضائها لا يتجاوز الخمسة عشر ثائرًا، كلهم من الفلاحين تقريبًا، ويقف على رأسهم قائد من الذين برزوا في المرحلة الأولى من الثورة عام 1936. وهكذا انطلقت الثورة وكل القيادات السياسية البارزة موجودة خارج فلسطين ولا تستطيع العودة إليها، وكان على الثوار أن ينظموا أنفسهم في الميدان بدون مساعدة من أصحاب الخبرة العسكرية، أمثال فوزي القاوقجي الذي رفض قبول طلب المفتي بأن يصبح القائد العام للثورة، كما حصل في المرحلة الأولى من الثورة. فما كان من القيادة الميدانية إلا أن نظمت نفسها في مناطق، وقامت بتقسيم هذه المناطق بين المجموعات المسلحة. أما أبرز القيادات الميدانية فهم:
عبد الرحيم الحاج محمد (أبو كمال)، من قرية ذنابة قضاء طولكرم، والذي يعتبره الكثيرون القائد الأعلى للثورة. وقد كان قائد فصيل تحت إمرة القاوقجي في ثورة 1936، وهرب معه إلى سوريا حتى انطلقت الثورة من جديد، فعاد إلى البلاد ليشارك فيها. كان عدد رجاله يصل إلى مئتي ثائر، توزعوا على 12 فصيلًا.
كذلك برز عارف عبد الرازق (أبو فيصل)، وهو من طيبة بني صعب. وكان أيضًا قائد فصيل تحت إمرة القاوقجي، وكان من أشد المتحمسين له. عاد إلى فلسطين في شهر أيار / مايو 1938، ونشط في منطقة بني صعب في المثلث الجنوبي، وكان منافسًا لعبد الرحيم حاج محمد على منصب القائد العام للثورة.
أما يوسف أبو درّة (أبو العبد)، وهو من سيلة الحارثية، فلم يكن قائدًا معروفًا في السنة الأولى للثورة، ولكنه كان قد برز بشكل كبير في الثورة المتجددة، وكان قائدًا لمنطقة حيفا وجنين ومرج ابن عامر ووادي عارة، بعد أن خلف القائد الشيخ عطية عوض من بلد الشيخ، والذي استشهد في معركة اليامون في مطلع عام 1938. ويجدر الذكر أن يوسف أبو درّة كان من العصبة القسامية.
في منطقة الرملة واللد، كان القائد هو الشيخ حسن سلامة (أبو علي)، وهو من قرية قولا قضاء الرملة. كان عضوًا في مجموعة أبو النجم من قلقيلية، وسجن عام 1937، ولكنه نجح في الهرب، وانضم إلى عارف عبد الرازق الذي عينه قائدًا على فصيل في منطقة اللد والرملة، وهنا أصبح قائدًا للمنطقة المذكورة.
في منطقة القدس والخليل، كان عبد القادر الحسيني قائد هذه المنطقة، وهو من الذين برزوا بشكل كبير في عام 1936، وجدد نشاطه مع انطلاق الثورة من جديد، حتى بلغ عدد رجاله خمسمائة مقاتل. عين الحسيني عبد الحليم الجولاني (أبو منصور) قائدًا لمنطقة الخليل، الذي عمل بشكل شبه مستقل تقريبًا بسبب الصعوبات في تواصله مع باقي المجموعات الثورية. من الجدير ذكره هنا أن عبد القادر الحسيني كان الوحيد من بين قادة الفصائل والمناطق الذي ينتمي إلى عائلة كبيرة، وهو الوحيد الذي حصل على ثقافة جامعية.
في منطقة شفاعمرو كان القائد هو خليل عيسى (أبو إبراهيم الكبير)، وكان عضوًا في العصبة القسامية.
في منطقة الجاعونة والجليل الأعلى كان القائد هو عبد الله الأصبح من الجاعونة. وفي منطقة صفد عبد الله الشاعر وهو من صفد. في منطقة طبريا وما جاورها كان القائد هو توفيق الإبراهيم، وكان من قرية إندور.
أما اللجنة العربية العليا، فقد قامت بتأسيس اللجنة المركزية للجهاد في دمشق وبيروت، وكان أعضاؤها هم: محمد عزت دروزة (السكرتير)، وإسحق درويش، والشيخ حسن أبو السعود، وأكرم زعيتر، ومعين الماضي. وعملت هذه اللجنة حتى انتهاء الثورة عام 1939، وكان عملها الأساسي هو إرسال السلاح والذخيرة والمال وغيرها للثوار.
الثورة تتعرض لمشاكل وإشكالات متعددة
كان الاختلاف الأساسي بين المرحلة الأولى للثورة عام 1936 عن المراحل الأخرى للثورة المتجددة، بان قياداتها كانت من المثقفين في المدن، الذين التفوا حول اللجنة العربية العليا، أما الآن فإن القيادة السياسية موجودة في الخارج، وليس باستطاعتها السيطرة المباشرة على الأمور في الميدان كما حصل سابقًا، ولذلك كان من الصعب التأثير وتوجيه المجموعات والفصائل المسلحة، حسب خطة مدروسة ومنظمة، بل إن هذه المجموعات كانت تعمل بشكل مستقل تقريبًا. وكان كل قائد منطقة مسؤولًا مسؤولية كاملة عن العمليات والتصرفات التي يقوم بها أعضاء تنظيمه، بدون أي إمكانية للمحاسبة على الأخطاء المرتكبة.
وهكذا توسعت الفصائل والمناطق بشكل كبير بدون وجود قيادة مركزية واحدة، مما أدى إلى أن يقوم بعض قيادات المناطق بالعمل بشكل مستقل، دون العودة حتى إلى قائد المنطقة التي ينتمون إليها، ومثال على ذلك هو عبد الله الأسعد الذي عمل تحت قيادة عبد الرحيم الحاج محمد، ولكنه كان يتصرف على هواه في أغلب الأحيان.
كذلك نشبت خلافات بين قيادات مناطق مهمين، كالخلاف الذي دبّ بين عبد الرحيم الحاج محمد وعارف عبد الرازق، حيث إن عبد الرحيم الحاج محمد كان قد نصب نفسه قائدًا أعلى للثورة، ولكن عارف عبد الرازق لم يقبل بهذا، واعتبر نفسه القائد الأول للثورة. واستمر الخلاف بينهما فترة طويلة، فتدخل محمد الصالح (أبو خالد) قائد منطقة طوباس-جنين، وهو قسامي سابق، حتى يحاول حلّ الخلاف، ونجح في النهاية بتنظيم مؤتمر أو اجتماع كبير لبعض من رؤساء المناطق من أجل تقريب وجهات النظر، وكان ذلك في 13 أيلول / سبتمبر 1938 في قرية دير غسانة في منطقة رام الله، وحضر هذا المؤتمر أكثر من 1500 مجاهد، ولكن بريطانيا التي عرفت بتنظيم هذا الاجتماع، قامت بإرسال طائراتها لقصف المجتمعين، وقتل منهم عدد غير معروف وعلى رأسهم محمد الصالح، صاحب فكرة الاجتماع.
مشكلة أخرى واجهتها الثورة، وهي محكمة الثورة، والتي تأسست على يدي فوزي القاوقجي في المرحلة الأولى للثورة، وكان يقف على رأسها عبد القادر يوسف عبد الهادي، ولكنها لم تنشط تقريبًا في هذه المرحلة. أعيد إحياء محكمة الثورة في المرحلة الثانية للثورة، بل تحولت إلى محكمة تفصل في كل القضايا المدنية والاجتماعية بين الناس، وليس فيما يخص الثوار أنفسهم، وطلبت قيادة الثورة من الناس عدم التوجه إلى المحاكم الحكوميّة بل إلى المحكمة العربية. كان التجاوب كبيرًا لدرجة أن المحكمة لم تستطع أن تصمد في وجه كل القضايا المعروضة عليها مما جعلها تعيد بناء نفسها، وتوكل القضايا الصغيرة لمحاكم محلية في القرى، أما القضايا الكبيرة فبقيت من شأن المحكمة المركزية، ولكن هذه واجهت مشاكل لم يعمل حسابًا لها من قبل، حيث إن قرارات المحكمة أصبحت متعلقة تمامًا بقيادات المناطق، لعدم وجود قوة شرطية لتنفيذ القرارات. أدّى هذا إلى أن يصبح أمر القضاء في أيدي قيادات المناطق أنفسهم، فتحولوا إلى قضاة وصاروا ينفذون القرارات بواسطة رجالهم، وبهذا كثرت الأخطاء والتجاوزات مما أثر سلبيًا على الثورة والتأييد الجماهيري لها.
أما من الناحية المالية وتمويل الثورة، فقد حاولت اللجنة المركزية في الخارج تنظيم ذلك، لمنع المجموعات المسلحة من فرض الإتاوة أو التشليح، ولذلك قامت بطباعة وصولات بأكثر من مليوني ليرة فلسطينية، قيمة كل وصل منها هو ليرة واحدة. وكان المتبرع يحصل على سند دفع حتى لا تعود العصابات بمطالبته بالدفع مرّة أخرى للثورة. أما أموال التبرعات، فقد كانت ترسل إلى المناطق حسب عدد أعضاء التنظيم، من أجل شراء الأسلحة ودفع مبلغ شهري لكل مقاتل، وقدره أربع ليرات فلسطينية. وهنا وقعت مشاكل بسبب أن الوصولات لم تسجل كما يجب، وكذلك فإن قسمًا من الأموال التي كانت ترسل إلى المصابين والمتأثرين من القمع البريطاني، كانت تصل في كثير من الأحيان إلى رؤساء المناطق بغرض استعمالها في شراء الأسلحة وأمور أخرى بدل إرسالها إلى عنوانها الصحيح.
كانت إحدى نقاط ضعف الثورة هي قلّة السلاح ورداءته، فقد كان أغلبه مكوناً من بنادق تركية وألمانية الصنع من مخلفات الحرب العالمية الأولى، ولم يكن مع الثوار أسلحة حديثة، بل إن أغلب البنادق كانت عتيقة، جمعت على أيدي مهربي الأسلحة من كل مكان تصل يديهم إليه. أما الذخيرة فكانت قديمة حتى درجة فساد الرصاص بحيث لا ينفجر 30 إلى 40 في المئة منه.
الثورة في أوج قوتها
ورد في تقرير عسكري بريطاني في شهر آب / أغسطس 1938، "إن الثوار قد أحرقوا جميع محطات القطار بين اللد والقدس، والمحطات الواقعة بين اللد والحدود المصرية، وأنهم هاجموا بئر السبع، والخليل، وبيت لحم، وأريحا، ورام الله. وتم إحراق مكاتب البريد ومراكز الشرطة في أغلب هذه البلدان. واستطاع الثوار الحصول على كميات كبيرة من الأسلحة والذخيرة. وأعلن البيان ان الحكومة فقدت سيطرتها على مناطق واسعة في البلاد.
كذلك برع الثوار في معارك الكرّ والفرّ، بل إنهم كانوا يختفون كإبرة في كوم قش، كما ورد على لسان الصحف البريطانية والصهيونية. أما وزير المستعمرات فاعترف بقوة ونشاط الثوار وجرأتهم، وأن المجموعات المسلحة فعالة في جميع أنحاء البلاد، وأنهم يقومون بمقاومة فيها بأس واستماتة، وتثير الحماس لدى كل العرب في البلاد العربية.
بحلول شهر آب / أغسطس 1938، كانت الإدارة المدنية في المدن الرئيسية قد انهارت بشكل كبير، وصارت الحكومة تشك بتورط الشرطيين العرب بدعم الثوار. كذلك استطاع الثوار أن يستولوا على مدن كثيرة في فترات معينة، من أجل تحويل الوضع إلى ثورة شاملة في كل أنحاء فلسطين.
وحتى تل أبيب لم تسلم من هجمات الثوار خاصة في ساعات الليل، وكان الثوار يسيرون فيها أحيانا لإثارة الرعب في قلوب ساكنيها. أما طبريا، ذات الأغلبية اليهودية، فتعرضت لهجوم كبير قتل وجرح فيه أكثر من مائة يهودي، وقام الثوار بغزو أحياء طبريا وحرق المحال التجارية، وتطويق الحامية البريطانية المرابطة بجانب المدينة، مما أدى إلى استدعاء المندوب السامي إلى لندن لاستيضاح هذا الأمر.
كما أن الثورة كانت قد نجحت في احتلال بعض المدن والمناطق خلال فترات قصيرة، ومن هذه المدن نابلس، وجنين، وطولكرم، والقدس القديمة. وبلغت قوة الثورة وتلاحم الناس معها إلى درجة عالية جدًا، عندما قرر أهالي المدن التنازل عن الطربوش وتعويضه بالكوفية والعقال، وذلك لأن السلطات كانت تبحث وتلاحق الفلاحين الذين كانوا يرتدون هذا الزي، فأصبح الزي الرسمي لجميع أهالي فلسطين، بل إن الكثيرين أبقوا عليه حتى بعد انتهاء الثورة.
أمّا أعداد المقاتلين، فقد وصلت إلى 10 آلاف مقاتل، منهم 3000 مقاتل متفرغ في الجبال الذين يحصلون على رواتب من قيادات المناطق عن طريق اللجنة المركزية للجهاد، و 1000 من فدائيي المدن، و 6000 من مقاتلي الفزعة، الذين يحملون السلاح عندما تنشب المعارك والصدامات مع الجيش البريطاني، أو من أجل تنفيذ عملية كبيرة تحتاج إلى عدد كبير من الثوار.
أما بريطانيا فكانت تقدر بأن عدد مقاتلي الفزعة وصل إلى 15،000 ثائر، بينما لم يتجاوز عدد المقاتلين المتفرغين الألف وخمسمائة ثائر فقط.
اليهود يحاربون الثورة بالتعاون مع الإنجليز
كما كان يحدث في كل انتفاضة فلسطينية ضد الاستعمار البريطاني أو الصهيوني، منذ بداية القرن حتى بداية الثورة الفلسطينية الكبرى، حدث الشيء نفسه خلال هذه الثورة الشاملة مع ال"ييشوڤ" اليهودي، حيث كان هو المستفيد الأول والأخير من هذه الثورة، فقد استطاع خلالها من تطوير قواه العسكرية، وتنشيط اقتصاده على حساب العرب، وزيادة عدد القادمين الجدد. حدث كل ذلك من خلال استغلال الدعم البريطاني الذي كان مباشرًا في كثير من الأحيان، أو غير مباشر في أحيان أخرى بواسطة غض النظر عن أعمال أو ممارسات كان اليهود يقومون بها ويمارسونها ضد العرب عسكريًا أو ديموجرافيًا أو اقتصاديًا.
تفيد الإحصائيات الصهيونية أن عدد اليهود القتلى عام 1936 نتيجة المرحلة الأولى من الثورة، هو 91 شخصًا، وعدد الجرحى يقارب الألف، نتيجة لحوالي ألفي هجوم نفِّذ ضد تجمعات يهودية في المدن والمستعمرات المختلفة.
عندما انطلقت الثورة مجددًا عام 1937، ابتدأ اليهود في تنظيم أنفسهم عسكريًا من أجل صد الهجمات العربية على تجمعاتهم، بل إنهم انتقلوا إلى مرحلة مكافحة الثورة العربية بالتعاون مع الحكومة البريطانية، رغم أن قيادات صهيونية عدّة كانت تطالب بما يسمّى بسياسة ضبط النفس، وعدم الهجوم على العرب، لأن السلطة البريطانية القويّة باستطاعتها تدبر أمرها مع الثوار العرب لوحدها.
كان تنظيم "ايتسل" المنشق عن "الهجاناة" أكثر المطالبين بتنفيذ عمليات هجومية ضد العرب، وهذا ما حصل فعليًا. في 6 تموز / يوليو 1938، وضع أعضاء التنظيم قنبلة في السوق العربي في حيفا، مما أدّى إلى وقوع عشرات الضحايا العرب. ثم نفذ التنظيم عملية مشابهة في القدس في 16 تموز / يوليو، ومرة أخرى في حيفا في 25 تموز / يوليو، وفي يافا في 25 آب / أغسطس، وغيرها.
أما تنظيم "الهجاناة" فقد أسس ما سمي بالهائمة، وهي عبارة عن مجموعة مكونة من بضعة مقاتلين تهاجم العرب خارج أسوار المستعمرات. وابتدأت المجموعة الأولى في القدس في صيف عام 1936، ومن هناك انتشرت إلى مناطق أخرى، بحيث صارت تضم أكثر من ثمانين محاربًا موزعين على مناطق عدة في وسط وشمال فلسطين.
وثق تنظيم "الهجاناه" تعاونه مع السلطات البريطانية، بواسطة تشكيل وحدات شرطية يهودية وظيفتها محاربة الثوار، بينما كان الهدف المعلن من تأسيسها هو الدفاع عن المستعمرات اليهودية. فصار اليهود ينضمون إلى شرطة الانتداب، وبذلك يحصلون على سلاح مرخص وقانوني من قبل السلطة، وكان اسمها الرسمي "شرطة المستوطنات اليهودية" أو "النواطير" (جمع ناطور)، وضمت في داخلها أكثر من 1،300 شرطي في حزيران / يونيو 1936، و 3،000 شرطي في نهاية السنة نفسها، بينما وصل عدد النواطير إلى 22،000 مسلح قانوني في نهاية الثورة عام 1939. وكان هؤلاء بمثابة غطاء قانوني لآلاف أخرى من أعضاء تنظيم "الهجاناه".
في نهاية عام 1937، قامت "الهجاناه" بتأسيس ما سمي "سرايا الحقول" التي اعتمدت على شرطة النواطير، بحيث حولتها إلى مؤسسة عسكرية منظمة، بحيث أن سبعة إلى ثمانية شرطيين كونوا معًا فرقة، وكل أربع فرق كهذه شكلت ما يسمى قسمًا بالمفهوم العسكري. حتى آذار / مارس 1938 ضمت سرايا الحقول ما يزيد عن ألف جندي مقاتل، بدعم بريطاني بالعدّة والعتاد، وإن كان الدعم في بعض الأحيان نزيرًا بسبب أن الحكومة وضعت كل قوتها في شرطييها وجنودها من أجل قمع الثورة، ولكنها لم تبخل عليهم بالتدريب العسكري المهني، الذي رفع مستوى النواطير اليهود العسكري والتقني.
لم يتوقف التعاون الصهيوني البريطاني هنا، بل إن الحكومة أوكلت إلى الضابط البريطاني "أورد تشارلز ڤينچيت" الذي وصل إلى البلاد بعد منتصف عام 1937، محاربة الثوار العرب بالتعاون مع "الييشوڤ" اليهودي، فقام هذا بتأسيس ما سمي بسرايا النار او الفرق الخاصة الليلية، التي كان الهدف منها مهاجمة الثوار ليلًا، بدل من محاربتهم نهارًا كما كانت تفعل ذلك الفرق البريطانية الأخرى.
في 13 تموز / يوليو 1937 تم تأسيس الفرقة الليلية الأولى في مستعمرة "عين حارود"، وبعدها أقيمت فرق أخرى في "تل عمال"، و"أفيكيم"، و"أييلت هشاحر"، و"حنيتا". كانت هذه الفرق تضم جنودًا بريطانيين وأعضاء من سرايا الحقول اليهودية. المهمة الأولى التي أوكلت لهذه الفرق هي حراسة أنبوب النفط الممتد من العراق إلى حيفا، والذي استهدفه الثوار العرب في كثير من الأحيان، وقد هاجمت إحدى فرق الليل قرية دبورية في 10 تموز / يوليو 1937، وفي المعركة التي نشبت مع الثوار جُرح "ڤينجت" بيده وكلتي رجليه، ونجا من الموت بصعوبة.
استمر "ڤينچيت" في تطوير فرقة وتجنيد المزيد من اليهود إليها، بل إنه نظم دورة الضباط اليهود الأولى في شهر أيلول / سبتمبر 1938، وهكذا ابتدأ في "إقامة الأسس للجيش الصهيوني"، كما وصف ذلك بنفسه.
ويجدر بالذكر هنا، بأن جهاز مخابرات "الهجاناة" المسمى "الشين يود"، كان يعمل بشكل وثيق مع القسم العربي في المخابرات البريطانية، وكان يزوده بمعلومات قيمة عن الثوار ومجموعاتهم المسلحة.
اليهود يستفيدون من الحالة
في عام 1938، قامت بريطانيا باستدعاء الضابط "سير تشارلز تيغيرت" إلى فلسطين من أجل المساعدة في إخماد الثورة. قام "تيغيرت" بدراسة الوضع في البلاد، ثم قدم تقريرًا إلى السلطات مفاده أن الحدود مع سوريا ولبنان مفتوحة وتشكل بذلك رئة للثورة، إذ إن الأسلحة تأتي من وراء الحدود، وحتى الدعم بالمقاتلين من الدول العربية، ولذلك يجب على السلطة البريطانية إغلاق هذه الحدود بشكل مطلق، عن طريق إقامة حاجز على طول الحدود، ومن ثم تسيير فرق على طول الحدود لحماية الجدار من التخريب، وإقامة قلاع شرطية على الخط الفاصل بين فلسطين وسوريا ولبنان، تضم في داخلها قوات عسكرية وتجهيزات تمكنها من مهاجمة الثوار الذين يقتربون من الجدار.
تبنى حاكم الجليل "إلِن كيركبرايد" مقترح "تيغيرت"، وعندما قرر بناء الجدار استدعى إليه المسؤول عن شركة البناء اليهودية "سوليل بونيه"، وسأله ان كانت الشركة قادرة على بناء المشروع، ولما كان الجواب إيجابيا ابتدأ العمل فورًا في بناء سياج عريض من الأسلاك الشائكة، يمتد على مسافة 75 كم، من الحمة الواقعة شرق بحيرة طبريا، حتى تل القاضي، ومنه على طول الحدود مع لبنان إلى رأس الناقورة. اشترك في بناء الجدار ألف عامل يهودي وثلاثمائة حارس وانتهى العمل خلال ثلاثة أشهر، وكان لهذا الجدار تأثير كبير على استمرارية الثورة.
اقتصاديًا، استغل اليهود الثورة من أجل تشغيل عمال يهود فقط، وحتى نهاية العام 1938، زاد إنتاج البيض لدى اليهود ب 37٪, والحليب 34٪, وإنتاج الخضراوات 52٪. كذلك تم بناء محطة إنتاج الكهرباء "ريدينچ" في تل أبيب في عامي 1937-1938. وتم بناء مطارين لتحسين المواصلات، كذلك تم تأسيس شركة طيران باسم "أڤيرون"، وتطوير ميناء في تل أبيب ليكون عوضًا عن ميناء مدينة يافا العربية.
أما بالنسبة للقادمين الجدد، فقد قام اليهود بزيادة عدد السفن المحملة باليهود، رغم أن بريطانيا كانت تريد تقليل عدد القادمين الجدد، وخلال السنوات 1938-1939 فقد وصلت إلى فلسطين 16 سفينة محملة بما يقارب ال 17،000 يهودي، وهو أكثر ب 6،000 من العدد المسموح به قانونيًا.
أما نجاح "الييشوف" الأكبر خلال الثورة فهو بناء عدد كبير من المستعمرات في وقت قصير جدًا، فيما سمي بمستعمرات "سور وبرج" والتي كانت تقام بين عشية وضحاها. وكانت البداية في مستعمرة "تل عمال" في 10 كانون أول / ديسمبر 1936، عندما قام سبعون من أعضاء المستعمرة، برفقة ثلاثين حارسًا، ببناء المستعمرة الأولى من طراز "سور وبرج"، حيث قام المستوطنون ببناء سور من خشب مزدوج وبينهما صرار من أجل تحمل إطلاق النار، بحيث يكون السور مربعًا طول ضلعه 35 مترًا، وداخل الأسوار تم بناء برج عالٍ للمراقبة، كذلك تم بناء جدار من الأسلاك الشائكة حول الأسوار الخشبية، لمنع اقتراب أي ثائر فلسطيني إلى أسوار المستعمرة. تم البناء خلال يوم واحد، وبعد إتمامه بقي في المستعمرة عشرات المستوطنين اليهود، وبهذا تمت إقامة المستعمرة الأولى من هذا النوع، وبعدها بشهر تقريبًا أقيمت مستعمرة "سدي ناحوم" بنفس الطريقة ونفس الوقت القصير.
خلال عام 1937، استطاع اليهود بناء 16 مستعمرة من هذا النوع، وفي عام 1938 أقيمت 16 مستعمرة أخرى، أما في العام الأخير للثورة فقد تم بناء 19 مستعمرة من نوع "سور وبرج"، وبهذا كان العدد الإجمالي لهذه المستعمرات 52. وقد تم بناء المستعمرة الأخيرة في 31 تشرين أول / أكتوبر عام 1939، وهي مستعمرة "كفار ووربورغ".
إضعاف الثورة من الداخل، فصائل السلام
عدم وجود قيادة سياسية مركزية محليّة، وتركيبة فصائل الثورة التي عملت على شكل عصابات مسلحة منطقية، أغلب أعضائها من الفلاحين الغير مدربين عسكريًا، وشحّ الموارد التي حصل عليها الثوار بسبب الحاضنة القروية الفقيرة التي تتأثر بالإشاعات والأقاويل الفارغة أحيانًا، بفعل التخلف وقلة الوعي، والضغط البريطاني العسكري المتزايد، كل هذا أدّى إلى وقوع الثورة في أخطاء جسيمة، ولو أنها كانت في مرات عديدة بسبب المندسين بين عناصر الثورة، ومن أخطر الأخطاء التي مارسها الثوار، هي التصفيات الجسدية التي ابتدأت في نهايات عام 1938، في المنطقة الواقعة بين طولكرم حتى غرب قرى رام الله.
كانت التصفيات التي صدرت أوامرها من بعض قيادات الثورة، موجهة في الأساس ضد العملاء وأعداء الثورة، ولكن الأسباب المذكورة أعلاه أدت شيئًا فشيئًا إلى حدوث أعمال قتل ونهب وحرق بيوت، لشخصيات لم تكن خائنة للثورة، ولم تساعد السلطات البريطانية ضد الثورة، بل لأن هذه الشخصيات كانت معارضة أو لم تستطع توفير الدعم الكافي للمجموعة المسلحة التي طالبتها بذلك، خاصة إذا كانت الشخصية مختارًا لقرية معينة أو زعيمًا لعائلة. هناك الكثير من الأمثلة على هذه الأخطاء، ولا مجال لذكر أمثلة منها في هذه العجالة، وذلك لكثرتها وانتشارها على نحو واسع، حتى إلى مناطق أخرى خارج منطقة طولكرم حتى رام الله.
ولأن المجتمع الفلسطيني هو مجتمع قبليّ، أدت هذه التصفيات إلى ردود فعل من طرف المقتولين، حتى وإن كانت التصفية بفعل خيانة واضحة أو مبطنة، وكم بالحرّي عندما كانت بفعل خطأ أو مكيدة أدت إلى إعطاء الأوامر بتصفية الشخص المقصود. كانت عائلة المقتول أو أولاده أو إخوته يتحولون إلى أعداء لقائد الفصيل الذي نفذ العملية، وبشكل تلقائي يصبحون في الجانب الآخر للثورة، حتى وإن لم يتعاونوا بشكل مباشر مع الحكومة البريطانية.
من جهة أخرى، كانت المعارضة الفلسطينية لجماعة الحاج أمين الحسيني، بقيادة فخري النشاشيبي، تعدّ العدّة لثورة مضادة بعد أن انسحاب النشاشيبي من اللجنة العربية العليا في تموز / يوليو 1937 بعد محاولة تصفية فخري النشاشيبي المحسوب على المعارضة. وفي 12 تموز / يوليو دعا إلى بيته في القدس، بعض مخاتير قرى المنطقة، وأعلن أمامهم أن هناك حاجة للتصدي لجماعة المفتي الذين يوجّهون جل أعمالهم العسكرية ضد رجالات المعارضة، وليس ضد بريطانيا واليهود، كما ادعى في كلمته الموجهة إلى ضيوفه. وبعد استجابة البعض إلى دعوته، ابتدأ النشاشيبي في تكوين عصابات مسلحة في منطقة القدس ورام الله، وحتى شهر أيلول / سبتمبر 1937، صارت تعمل في منطقة رام الله عدّة عصابات تابعة للمعارضة.
استمر النشاشيبي في مشروعه ضد المفتي وجماعته، وسرعان ما اجتمع في شهر آذار / مارس 1938 مع فخري عبد الهادي من عرابة، الذي كان قائد فصيل ثوري عام 1936، وحارب مع القاوقجي وكان بمثابة نائب له، ودعاه النشاشيبي إلى الانضمام إلى المعارضة، حيث إن عبد الهادي كان قد اختلف مع اللجنة المركزية للجهاد. وافق عبد الهادي على أن يعود إلى فلسطين، ولكن بشرط موافقة الحكومة البريطانية وإصدارها عفواً عنه، التي رفضت بدورها ذلك، مما أدّى إلى فشل فكرة النشاشيبي إلى حين.
بعد هذا اللقاء بثلاثة أشهر، تدخل القنصل البريطاني في دمشق، وقرب إليه فخري عبد الهادي، واتفق معه أن ينضم نفسه ويعود إلى فلسطين لمحاربة فصائل الثورة. بعدها قام عبد الهادي بالاتفاق مع بعض معارضي المفتي أن ينضموا إليه ويسافروا معه في رحلته إلى فلسطين، ومنهم: محمود الماضي، وأسعد كنج، وأحمد سلامة من عارة، وشكيب وهاب.
في 27 أيلول / سبتمبر 1938، عبر فخري عبد الهادي نهر الأردن مع مجموعة من مرتزقة القنصل البريطاني في دمشق، ووصل إلى قريته عرابة جنين بعد عدة أيام، وهنا استقبل بحفاوة من بعض سكان القرية، وأصبحت هذه مركزًا لعملياته ضد فصائل الثورة، ومن ثم تم تسمية العصابات المسلحة المعارضة للثورة بفصائل السلام. وكانت بعض الشخصيات الفلسطينية المعارضة تدعم هذه الفصائل مثل: أحمد الشكعة، وسليمان طوقان، وطاهر المصري.
عملت فصائل السلام جنبًا إلى جنب مع الجيش البريطاني في قمع الثورة، وفي أغلب الأحيان بشكل منفصل، خاصة في منطقة جنين - طولكرم - نابلس بقيادة فخري عبد الهادي، ومنطقة القدس والخليل تحت قيادة فخري النشاشيبي. وأصبح لها خلال فترة قصيرة، شأن كبير في محاربة فصائل الثورة، بسبب انضمام العديد من القرى إليها، مستغلة لذلك أخطاء الثورة من تصفيات وغيرها، وبواسطة توزيع الأموال وشراء الذمم. كذلك كان البعض ينضم إليها على أنها فصائل تناضل من أجل الحرية والاستقلال، كفصائل الثورة الأخرى، حيث إنها كانت تصدر بيانات ثورية تدعو فيها إلى النضال ضد المحتل البريطاني، ورغم ذلك فإنها لم تستطع أن تضم السواد الأعظم من الثوار، بل إن قسمًا كبيرًا من الثوار أو حتى العائلات التي صارت تطالب بإنهاء الثورة، لم تقم بالانضمام لفصائل السلام، بل بقيت في إطار المعارضة المحايدة.
كان تأثير فصائل السلام كبيرًا، حيث إن عصاباتها كانت قد قامت بمصادرة الآلاف القطع من أسلحة الثوار، خلال فترة عملها، أي من تشرين أول / أكتوبر 1938 حتى نهاية الثورة، كذلك كانت تساعد الإنجليز في مداهمتهم وتفتيشهم وحتى احتلالهم من جديد للكثير من القرى الفلسطينية، بل إنها ساعدت الجيش في ملاحقة الثوار، وإرشاده إلى مواقع المناضلين، ونصب الكمائن والاشتراك في الحملات العسكرية ضد الثوار.
العمليات التي قامت بها فصائل السلام، والانقسام الذي أحدثته داخل فصائل الثورة، جعلتها من أهم الأسباب الداخلية لاضمحلال الثورة وإضعافها، حتى نهايتها الفعلية في أواخر عام 1939.
اضمحلال الثورة ونهايتها
في 29 أيلول / سبتمبر 1938، وقعت معاهدة ميونيخ بمشاركة بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، ونصت هذه على ضم منطقة السوديت الواقعة في تشيكوسلوفاكيا إلى ألمانيا النازية، وبذلك غُيِّبَ شبح الحرب الكبرى التي كانت ستنشب إذا قامت ألمانيا باحتلال هذه المنطقة. بعد المعاهدة مباشرة قررت بريطانيا أن تتفرغ لمناطق التوتر في أرجاء الإمبراطورية، وعلى رأسها فلسطين والتي تشتعل فيها الثورة العربية الفلسطينية، ولذلك تمت دعوة المندوب السامي "هارولد مكمايكل" إلى لندن من أجل التشاور بشأن أمر هذه الثورة. وعلى أثر هذه المشاورات تقرر بوجوب القضاء على الثورة بأسرع وقت ممكن، وبضرورة فتح قناة دبلوماسية مع العرب للتخفيف من التوتر والاحتقان، وكان هذا في الخامس من أكتوبر / تشرين أول 1938.
خلال فترة قصيرة من هذا الاجتماع، توجهت قوات كبيرة من الجيش البريطاني إلى فلسطين، حتى وصل قوامها إلى 18 كتيبة مشاة، وكتيبتي فرسان، وكتيبة مدرعات، وكتيبة مدفعية بما يضم كل الوحدات التابعة لها، بالإضافة إلى الوحدات الليلية الخاصة، التي ذكرت أعلاه، وقوات الخفارة اليهودية، ناهيك عن قوات الشرطة، بحيث وصل عدد الجنود الكلي أكثر من خمسين ألفًا، وعدد الشرطيين أكثر من عشرة آلاف.
بعد رجوع "مكمايكل" إلى البلاد، اتفق مع الجنرال "روبرت هاينينغ"، قائد الجيش البريطاني في فلسطين على الأمور التالية: الحدّ من المكالمات إلى خارج البلاد، وزيادة المراقبة على حركة السيارات العربية في الطرقات، وإجبار العرب على إصدار رخص سياقة جديدة، وإصدار بطاقات هوية لكل السكان، وإخراج الشرطيين العرب القدامى إلى التقاعد. ولتنفيذ هذه الخطوات تقرر تعيين ضباط عسكريين كمتصرفين على المناطق المختلفة، بينما يتحول المتصرفون الحاليون إلى مستشارين للضباط. كذلك أعطيت كل الصلاحيات اللازمة للجنرال "هاينينغ" من أجل إعلان أنظمة الطوارئ وتنفيذها.
من هنا، ابتدأت حقبة جديدة من تعامل بريطانيا مع الثورة، وذلك بمزيد من القمع والبطش، وكانت هذه الحقبة متزامنة مع الشعور العام لدى الفلسطينيين بالتعب من ثورة لم تحقق أي إنجازات حتى تلك اللحظة، رغم التضحيات الكبيرة التي قدمها الثوار والناس العاديون على حدّ سواء، بسبب العقوبات الجماعية التي كانت تنفذها بريطانيا، ضد سكان البلد الذي تبدأ أو تخرج منه نشاطات الثوار، أو البلد الذي يلوذ إليه أي من أعضاء فصائل الثورة. كذلك كانت فصائل السلام قد بدأت بالتأثير على مجريات الثورة، هذا بالإضافة إلى الخلافات الداخلية الأخرى بين فصائل الثورة المختلفة، وفوضى القيادة والخلاف بين اللجنة المركزية للجهاد الموجودة في دمشق، وبين القيادات المحلية الميدانية.
في 10 تشرين أول / أكتوبر 1938، دخل الجيش إلى بيت لحم، وسيطر عليها وطرد الثوار منها. في 19 تشرين أول / أكتوبر استطاع الجيش احتلال القدس القديمة من الثوار، مما أدّى إلى انسحاب الثوار من المدينة. ثم جاء دور يافا والخليل ونابلس، بحيث فرض الجيش سيطرته على هذه المدن حتى نهاية السنة، وقبل بدء السنة الجديدة كانت المحكمة الثورية في يافا قد ألغيت وانتهى نشاطها. كانت إنجازات الجيش هذه، بالإضافة إلى بدء تنفيذ تعديل قوانين الطوارئ وتسلم الجيش للإدارة المدنية منذ بداية تشرين ثانٍ / نوفمبر 1938، تعد بداية النهاية للثورة، حيث إن الحكومة العسكرية تحولت من الدفاع إلى الهجوم، وانهمكت منذ الآن في قمع القرى المختلفة واحتلالها من جديد للقضاء على فصائل الثورة كافة.
بعد تعديل قوانين الطوارئ، أصبحت حيازة بضع رصاصات أو قطعة سلاح واحدة، كفيلة للحكم بالإعدام على حاملها، مما أدّى إلى سجن أكثر من ألفين لفترات طويلة أو مؤبدة، وشنق حوالي 150 فلسطينيًا. كذلك تم نسف وتدمير حوالي خمسة آلاف منزل في مناطق عدة، بل وتدمير أحياء بكاملها، كما حدث في جنين بسبب قتل حاكم المنطقة البريطاني. هذا وشمل التدمير البيارات والبساتين التي كانت تطلق منها النيران، أو وقوع أحداث على مقربة منها.
أما الاعتقالات، فكانت تتم بسبب وبدون سبب، حتى بلغ عدد المعتقلين أكثر من خمسين ألفًا، بحيث كان يتم اعتقال عشرات ومئات من نفس القرية وبشكل عشوائي لمجرد مرور أو وجود ثوار فيها. وكثر استعمال سلاح حظر التجول، الذي كان يشمل كل ساعات الليل، بل وأحيانا كل اليوم ما عدا ساعتين لقضاء الحاجات، وكان أحيانا يمتد الحظر شهرًا أو شهرين بدون انقطاع، وفي حالة معينة استمر لمدة 140 يومًا في مدينة صفد.
كان للجدار الحدودي الذي أوصى ببنائه الجنرال "تيغيرت"، كما ذكر سابقًا، أكبر الأثر في تقليل وصول الأسلحة والذخيرة إلى الثوار، وتوقف تحويل الأموال إلى الثوار من دمشق، مما أدّى ببعض الفصائل لفقدان عناصر أساسية منها، مما اضطرّ قيادات رئيسية مثل عارف عبد الرازق، ويوسف أبو درّة، وحتى عبد الرحيم الحاج محمد، للانسحاب إلى خارج البلاد حتى لا يتعرضوا إلى الاعتقال من قبل السلطة، وكان ذلك في نهاية كانون أول / ديسمبر 1938 وبداية كانون ثانٍ / يناير 1939. لكن اللجنة المركزية للجهاد طالبت هذه القيادات المهمة بالعودة إلى فلسطين، وتولي زمام الأمور من جديد، وعينت عبد الرحيم الحاج محمد قائدًا عامًا للثورة.
عاد عبد الرحيم الحاج محمد إلى فلسطين بالفعل، ولكنه تعرض لكمين بريطاني في ليلة 26 آذار / مارس 1939، مما أدّى إلى استشهاده في منطقة جنين بعد أن بلغ عنه بعض من عائلة إرشيد المعارضة، والتي كان لها حساب قديم مع عبد الرحيم الحاج محمد، بسبب أن جماعته كانوا قد قتلوا أفرادًا من العائلة في عام 1938، بسبب خلاف كان بينها وبين رجالات الثورة. وهكذا فقدت الثورة قائدها العام مباشرة بعد تعيينه بشكل رسمي على يد اللجنة المركزية للجهاد.
بعد استشهاد عبد الرحيم الحاج محمد، حاولت اللجنة في دمشق تعيين قائد عام للثورة مكانه، بعد حصول خلافات بين رؤساء الفصائل الآخرين، وبالفعل تم ذلك في بداية نيسان / أبريل 1939، عندما تم تعيين أجود محمد حسن أبو بكر قائدًا عامًا للثورة. ورغم حصوله على كل الوثائق من اللجنة المركزية للجهاد، إلا أن قسمًا كبيرًا من قادة فصائل الثورة لم تقبل بأن يكون قائدًا عليها، خاصة عارف عبد الرازق الذي لم يقبل أصلًا بعبد الرحيم الحاج محمد قائدًا عامًا للثورة، ولهذا لم يقبل بأبي بكر، لأنه اعتبر نفسه القائد الأعلى للثورة. لما رأت اللجنة المركزية للجهاد في دمشق إن هذا التعيين لم يكلل بالنجاح، أعلنت في 14 نيسان / أبريل أنها ستعين رشيد بك، الذي كان ضابطًا في جيش شرق الأردن، لكن ذلك لم يكن مقبولًا على عبد الحميد المرداوي، الذي كان قائد أكبر فصيل من جماعة عبد الرحيم الحاج محمد، بل إنه هدد بقتله إن تم تعيينه. بعد ذلك بأربعة أيام، أي 18 نيسان / أبريل، أعلن عن تعيين خليل العيسى (أبو إبراهيم الكبير) قائدًا عامًا للثورة. بعدها بأسبوع أعلن عن تعيين عبد الرحمن خطاب من سخنين في هذا المنصب، ثم أعلن أن الحاج أمين الحسيني معني بتعيين عز الدين الشوّا من غزة، قائدًا عامًا للثورة.
هذه الفوضى كان لها تأثير كبير على همّة الثوار، ناهيك عن الاحتراب الداخلي خاصة مع فصائل السلام، وشدة بطش الجيش البريطاني، الذي أدى بسكان القرى والمدن إلى الرجوع إلى شؤونهم الخاصة، بعد فقدان الأمل من تحقيق أي إنجاز عسكري للثورة ضد جيش الحكومة.
ليس هناك تاريخ معين ومعروف لنهاية الثورة رسميًا، حيث بقيت بعض الفصائل تقوم بعمليات ضد الجيش واليهود حتى نهاية صيف عام 1939، وحتى بداية الحرب العالمية الثانية، والتي طغت أخبارها على كل شيء آخر، بل إن فرنسا صارت ترفض وجود قيادات فلسطينية تعمل ضد حليفتها بريطانيا، داخل مستعمراتها وطالبت بحلّ اللجنة المركزية للجهاد. حتى نهاية شتاء 1939-1940 كانت الثورة قد خمدت بالكامل.
التعليقات