"سقطت الآلهة من السماء عندما خانتهم الذاكرة"... هذا ما تُجزم به أساطير الآلهة الهندية عن قداسة الذاكرة وقوتها، فإذا ما أظلمت الذاكرة صبّت لعنتها على أهلها، هكذا يقول القدماء.
ما كان ليُحلينا إلى أدب قداسة الذاكرة لولا ذلك المُجسّم الممتد تحت نظر الحاج صالح راشد في مقر جمعية جِمزو الخيرية في مدينة الزرقاء الأردنية، الذي يُجسّد قريته المهجّرة جِمزو قبل نكبتها، من بابها إلى محرابها، دون أن يسقط من تجسيدها بيت أو حتى حائط واحد. لا يحاكي المُجسّم صورة فوتوغرافية عن القرية، إنما من صَلابة ذاكرة الحاج صالح، وصُلب حنينه لجِمزو، تيسّر له تذكّر كل حارة وبيت، شارع وزقاق فيها، وحتى المرافق العامة والبساتين والبيارات المحيطة بالقرية ظلّ يتذكرها، وقد هُجّر منها وهو على أبواب سن البلوغ.
إن قصة مُجسّم جِمزو في ذاكرة الحاج صالح، تطابق تمامًا حكاية خريطة القرية في ذاكرة أحمد الجمل من قبله، حيث تمكّن الجمل، وهو من مواليد جِمزو أيضًا، من رسم خريطة قريته من منفاه في أميركا بأدق التفاصيل: مواضع بيوتها، مواقع أحيائها وأراضيها، معتمدًا على ذاكرته حينما كان يرافق والده عيسى الجمل، مختار قرية جِمزو، الذي أُوكلت إليه قبل النكبة مهمة إحصاء سكان قريته أيام الانتداب البريطاني.
تحولت خريطة الجمل إلى مثار جدل عند عرضها قبل سنوات في معرض متحف "سبرتُس" في شيكاغو، بعد أن احتجّ ممثلو إسرائيل عليها بوصفها قطعة فلسطينية تشوّه سمعة إسرائيل وتُظهرها كقوة احتلال، بحسب ما كتب زياد منى في مقالته "خريطة جمزو: ذاكرة تتحدى همجية الاحتلال".
وأكثر من ذلك، فلدى الحاج صالح راشد إحصاء خاص به عن تعداد ذكور قريته جِمزو في عام النكبة، الذين بلغوا 780 ذكرًا، دون النساء والأطفال ما دون سن السادسة، أحصاهم جميعًا وبالاسم، دون أن يفلت وجه رجل واحد من ذاكرته التي ظلّت لعقود تحفظ كل وجوه قريته جِمزو. وإحصاء الحاج صالح يُثبّت العدد التقديري العام لأهل قرية جِمزو، الذي قُدر بنحو ألفي نسمة قبيل تهجيرهم في النكبة عام 1948.
من ذاكرة العِرقيات
على أكمة لا يزيد علوها عن وجه البحر أكثر من 160 مترًا، كانت تقع قرية جِمزو في موقعها بقضاء الرملة، إلى الشرق من هذه الأخيرة، وعلى مسافة واحدة تقريبًا من كل من اللد والرملة، أربع كيلومترات عن الأولى وأقل من خمس كيلومترات عن الثانية، كما كانت تحيط بها من الغرب أراضي قرية دانيال، أقرب القرى إليها، وكذلك خِربة الظهيرية. بينما من الشرق أحاطتها أراضي برفيليا وخِربة زكريا وخروبة، ومن شمالها قرى بيت نبالا والحديثة ودير أبي سلامة، ومنهن إلى الشمال كانت مستعمرة "بن شيمن" اليهودية، والتي أُقيمت على أراضي بيت عُريف، وكانت تُعرف المستعمرة باسم "كوبانية بيت عُريف". أما من الجنوب، فكانت تحدّها قرية عنابة.

أحاطت بقرية جِمزو الوديان التي كانت تنحر سهولها قادمة من تلالها، منها وادي شلال البيارة من شمالها، وكان مروًى لأهالي جِمزو ولقطعانهم. ثم وادي اللد الذي يقع غربي جِمزو، فيما الوادي الذي يفصل القرية عن مدينة الرملة كان يُسمى بوادي "الجُرف". وفي جنوب - غرب القرية كان يمر وادٍ يُعرف باسم "الزمبيل"، وبحسب الحاج محمد الزق في مقابلة معه عن قريته على موقع فلسطين في الذاكرة، فقد كان الزمبيل واديًا مانعًا، أي يمنع جريان مائه الهادر في الشتاء الناس من قطعه. وظلّ الجمازوة إلى ما بعد نكبتهم يتأسّون على حياة ابن قريتهم كامل محمد إبراهيم، الذي سحبته مياه وادي الزمبيل، و"ياما هذا الأخير سحب من جمزو ناس" يقول الزق.
كانت جِمزو تُعتبر قرية "عِرقية من العِرقيات" على حد تعبير الحاج الزق في مقابلته، لأنها واقعة عند العِرق الذي كان يفصل الجبل عن السهل، أي على الحدّ ما بين المناطق الجبلية والسهل الساحلي، وتُعرف القرى التي كانت تقع عند أقدام الجبل وعلى حافة السهل الساحلي بالعِرقيات. ولم تكن جِمزو في موقعها بمنأىً عن ريح الصِبا البحري في كل صباحٍ من أيام الصيف، يُسمّيه أهالي جِمزو نسيم البر والبحر أو الصِبا العليل الذي لطالما انتظره فلاحو قرى الساحل على بيادرهم لذري غلال حبوبهم، بحسب ما يروي عطية النجار في كتابه قرية جِمزو: دراسة عامة، الأرض، السكان، التراث والذاكرة.
ولما كان لجِمزو حصة في هوى المتوسط وساحله، فإن اسم القرية "جِمزو" يعتقد بعض أهاليها أن مردّه لشجرة الجميز الساحلية التي كانت تكثر فيها في مرحلة ما من تاريخها، بحسب ما يعتقد الحاج صالح راشد في مقابلته. غير أن النجار في كتابه يذكر أكثر من رواية لتسمية القرية ومعناها، منها: أن جِمزو قرية قديمة من عهد الرومان، واسمها يعود لبطريرك روماني كان اسمه "جِمزا"، وقد وردت القرية باسمها Gimza في خرائط قديمة فعلًا، علمًا أن الخالدي في كتابه كي لا ننسى يقول "بأن لا ذكر لجمزو في أيام الرومان إلا في المصادر التلمودية".

وفي رواية أخرى ثالثة تتضمّن ادعاءً صهيونيًا مبطّنًا في ردّ اسم القرية إلى الإرث التوراتي في المنطقة، تقول إن الاسم مشتق من التعبير العبري بصيغة سؤال "كام زو؟" سأله أحد ملوك مملكة يهوذا القديمة، ويعني "كم تساوي هذه؟"، في إشارة إلى القرية والمنطقة المحيطة بها، وراح التعبير من يومه اسمًا للقرية. غير أننا نميل للرواية الثانية المتصلة بالإرث الروماني واشتقاق اسم القرية من الاسم الأصل "جِمزا" الذي ورد في الخرائط القديمة، خصوصًا وأن بعض المدن والقرى على الساحل الفلسطيني قد حملت أسماء تعود للعهد الروماني.
في الشكل والتشكيل
تآلفت بيوت قرية جِمزو وتألّفت من الحجارة والدبش والطين، إلى أن وصل عددها عام النكبة إلى نحو 300 بيت، بينما شقّت شوارع القرية، وكان أشهرها الشارع العام الذي يربط جِمزو بمدينة اللد من غربها، حيث كان يمر ببيوت شمالي القرية ومنها شرقًا إلى القرى الجبلية مثل برفيليا والبُرج وغيرها، كما لهذا الشارع تفرّعات توصل بباقي حارات القرية، الشرقية والغربية.
وبحسب ما ورد لدى النجار في كتابه عن حمائل القرية، فإنها كانت تنقسم في أصولها إلى القبائل القيسية واليمنية، وقد طال الصراع القيسي–اليمني القرية إسوة بباقي المدن والأرياف الذي شهدته البلاد خلال القرن التاسع عشر. ومما يذكره النجار أن القيسية في جِمزو كانوا يُعرفون باسم "القرارية" لأنهم أول من استقر في القرية أو هكذا ادعوا، بينما الحمائل اليمنية كان يُطلق عليهم تسمية "الغُربية" في إشارة إلى قدومهم إلى القرية بعد "القرارية" القيسيين، وفي معجم هذه التسميات ما يُحيل إلى أثر هذا النزاع القبلي التاريخي على تشكيل ذاكرة القبائل والحمائل في جِمزو والبلاد عمومًا. كما أشار صاحب الكتاب إلى أسماء الفروع المنتمية إلى القيسية، منها: النجار، الحج، ذيبة، عبد القادر، آل حسان، آل أيوب، آل كنعان، آل عساف ودار عواد. بينما فروع اليمنية كانت: الدبشة، القزعة، الزق، آل خليل – آل شحادة، آل عيسى "الجمل"، آل عوض الله، دار عمرو، وآل الشايب.
في القرية جامع وحيد ظلّ يجمع الجمازوة في صَلاتهم وصِلاتهم التراحمية حتى حين جاء عليه زلزال سنة 1927 وهدم جزءًا كبيرًا منه، إلا أن أهالي القرية أعادوا بناؤه، خصوصًا وأن الجامع في موقعه شمالي القرية كان يأوي مقام "الحج أحمد"، أشهر مشايخ جِمزو في تاريخها، حيث جعلت معجزة يوم تشييعه من قبره مزارًا يتبرك منه أهالي القرية، حيث يروي الحاج محمد الزق وكذلك الحاج صالح راشد في مقابلتيهما قصة نقلاها عن معمّري القرية، بأن جثمان الحج أحمد يوم دفنه تعذّر على مشيعيه حمل نعشه باتجاه مقبرة القرية، إلا باتجاه قرية دانيال، وقد شيّعه أهالي جِمزو إلى قرية دانيال حيث مقام النبي دانيال، ثم عادوا به إلى جامع القرية وواروه الثرى فيه.

لاحقًا، صارت عائلة الحج أحمد هي المرتبطة بأفرادها ضرب العدة وحمل البيارق في موسم النبي صالح وفي المناسبات الدينية والاجتماعية كذلك. ولجِمزو ذاكرة اتصلت بالتصوف والطرق الصوفية منذ مراحل مبكرة، ففي القرية كانت زاوية للمتصوفة، وواحدة من أهم معالم القرية التاريخية، على الطريقة "الخلوتية الجامعة الرحمانية"، مكونة من غرفة كبيرة واحدة، وموقعها في وسط القرية. وبحسب صاحب كتاب قرية جِمزو...، فإن مؤسس الزاوية في جِمزو كان الشيخ العارف بالله تعالى عبد الرحمن الشريف الحسيني، وهو شيخ على الطريقة الخلوتية، توفي سنة 1888م، مما يعني تأسيس الزاوية في جِمزو في أواسط القرن التاسع عشر. بينما في أربعينيات القرن الماضي، كان من يقوم على الزاوية ويُقيم فيها الشيخ عبد الرحمن الشريف – شيخ الطريقة – وأخوه الشيخ راتب الشريف، وتعود أصولهما إلى مدينة الخليل. مع العلم، وبحسب الحاج محمد الزق في مقابلته، فإن الزاوية أُلحقت بمدرسة القرية، والتي تأسست هذه الأخيرة في عشرينيات القرن العشرين.
حين مرّ الرحالة إدوارد روبنسن بالرملة وقضائها عام 1838، أشار إلى جِمزو معتبرًا إياها أقرب لأن تكون بلدة من كونها قرية. وجِمزو كانت قرية عامرة طوال تاريخ الحكم العثماني في البلاد، وعند نكبتها عام 1948 كانت تُعتبر من القرى "الوافية"، أي الكبيرة نسبيًا، حيث تجاوز تعدادها الألفي نسمة، فيما كانت أراضيها تمتد على امتداد ترابيها الجبلي منه والسهلي مسافات على الجهات الأربع إلى حيث أبعد مما يصل نباح الكلب. ظلّت جِمزو تقوم على أنقاض سير دفينة غابرة، بينما ذاكرتها لم تكن عابرة، فالقرية كانت حيّة مسكونة بحكايا المهمّات والملمّات معًا.
التعليقات