في خيمة نزوح صغيرة بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة، تجلس المسنة ياقوت العواودة، وفي عينيها ذاكرة مثقلة بالحروب والمآسي، تمتد من نكبة عام 1948 وحتى حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة على غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"
وفي عامها الثاني والثمانين، تجد ياقوت نفسها نازحة للمرة الثانية خلال هذه الحرب، وكأن التاريخ يعيد فتح جراحها، لتعود ذاكرة التشريد من جديد.
واليوم الخميس، يحيي الفلسطينيون الذكرى الـ77 للنكبة، في ظل الحرب على غزة، وتصعيد متواصل في مخيمات الضفة الغربية.
وتقول ياقوت، التي كانت طفلة آنذاك، إنها هربت مع عائلتها من مدينة بئر السبع إلى قطاع غزة سيرًا على الأقدام.
وتستعيد تفاصيل التهجير تحت شمس قاسية، ودموع تسيل على وجهها الصغير، وهي تفر من مجازر لا تزال محفورة في ذاكرتها.
اليوم، وبعد أكثر من سبعة عقود، تعود المأساة من جديد. كانت تعيش في مخيم البريج حين باغتها القصف الإسرائيلي فجرًا، فاضطرت للفرار نحو مخيم النصيرات القريب.
وتقول: "فجأة سقطت الصواريخ فوق رأسنا، وطلبوا منا الإخلاء، فخرجنا بسرعة، ولم نأخذ شيئًا معنا".
وفي منزل شقيقتها الذي لجأت إليه مؤقتًا، لم تكن النجاة ممكنة. فبعد شهر فقط، طال القصف المكان وأصيبت بجراح خطيرة أدت إلى بتر ساقها.
وتروي العواودة بصوت خافت ما حدث، كأنها تتحدث عن امرأة أخرى: "قالوا لي سأذهب إلى مصر للعلاج، لكنني خفت أن يكون ذلك هجرة، وأنا لا أريد أن أخرج إذا لن أعود".
رغم كل ما مرت به، لا تنسى النكبة الأولى. تتحدث عن تسليم الانتداب البريطاني لفلسطين، ومجزرة دير ياسين التي كانت نقطة التحول.

وتقول بغضب ومرارة: "لولا دير ياسين، ما قامت إسرائيل. كانوا يشقّون بطن الحامل ويتراهنون: الجنين ولد أم بنت؟! أي بشر هؤلاء؟!".
ومجزرة دير ياسين وقعت في 8 نيسان/ أبريل 1948، حين هاجمت عصابات صهيونية القرية الواقعة غربي القدس، وقتلت معظم سكانها، وألقت بمن تبقّى من الأطفال والنساء في حي المصرارة في القدس.
وبعد أسابيع، أُعلن عن قيام دولة إسرائيل في منتصف أيار/ مايو، بعد تهجير نحو 800 ألف فلسطيني من قراهم ومدنهم.
وتشير التقديرات الفلسطينية إلى أن أكثر من 531 قرية ومدينة دُمّرت وهجر سكانها خلال النكبة.
وترفع ياقوت طرف ثوبها لتغطي ركبتها المبتورة، وتقول: "لا مقارنة، عام 48 كانت نكبة، لكن ما يحصل اليوم إبادة وتدمير شامل بحق البشر والشجر والحجر".
تضيف: "هاجرت ثلاث مرات. من بئر السبع للبريج، ومن ثم للنصيرات، ثم إلى المستشفى. لم أشعر أبدًا أن لنا مكانًا ثابتًا، حتى الخيام ضربوها!".
وتروي كيف بدأت الحياة بعد الهجرة الأولى في بيت من طين ثم من صفيح، لكنها لم تكن حياة، بل مجرد انتظار للعودة.
وعن المستقبل، تبتسم بمرارة وتقول: "إلى أين سنذهب؟! غزة دُمّرت، وكل العالم ضدنا، لأننا فقط حاولنا الدفاع عن أنفسنا".
وفي رسالة إلى العالم العربي، قالت: "يا عرب، فلسطين قطعة من بلاد العرب، والقدس ليست لنا فقط، بل لكل المسلمين".
وأضافت: "نعيش ذكرى النكبة تحت وابل الرصاص والقصف. هذه النكبة أصعب وأقسى وأبرد. نحن ننزف مرتين، من جرح 48، والجرح الحالي الذي لن يندمل".
وتتزامن شهادة العواودة مع تقرير أصدره جهاز الإحصاء الفلسطيني في الذكرى الـ77 للنكبة، جاء فيه أن نحو 154 ألف فلسطيني وعربي استشهدوا منذ عام 1948، بينهم أكثر من 64 ألفًا منذ بداية انتفاضة الأقصى عام 2000.
وأشار التقرير إلى أن أكثر من 52 ألفًا و600 استشهدوا في الحرب على غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، إضافة إلى أكثر من 11 ألف مفقود.
وفي الضفة الغربية، استشهد 964 فلسطينيًا منذ بدء العدوان، وأصيب نحو 7 آلاف، واعتقل أكثر من 17 ألفًا.
ويقدّر عدد الفلسطينيين حول العالم بـ15.2 مليون نسمة حتى منتصف عام 2025، أي ما يعادل نحو عشرة أضعاف عددهم إبّان النكبة.
وخلال العدوان على غزة، دمّر الاحتلال أكثر من 68 ألفًا و900 مبنى، وتضرر نحو 110 آلاف مبنى بشكل كبير، وفق التقرير ذاته.
وأشار إلى أن سكان القطاع يُجبرون مرارًا على الفرار من بيوتهم، ليتحوّلوا إلى لاجئين داخل الخيام والمدارس، محاصرين بين جدران الفقر والحرب.
التعليقات