استعادة الأثر (1/2): غزّة العثمانيّة في سيرة حمدي عبد الرحمن الحسيني (6)

كانت أوّل مصيبة أصابت غزّة بعد ولادة صاحب السيرة، هي جائحة الكوليرا "الهوا الأصفر" بعد ثلاث سنوات من ولادته في سنة 1902، حيث ضربت الكوليرا عدّة مدن وقرى فلسطينيّة منها غزّة والخليل وقراهما...

استعادة الأثر (1/2): غزّة العثمانيّة في سيرة حمدي عبد الرحمن الحسيني (6)

حمدي عبد الرحمن الحسيني (أرشيفية)

(هذه المادّة السادسة، وهي من جزءين وهذا الأوّل منها، من سلسلة بعنوان: استعادة الأثر: غزّة في كتب اليوميّات والمذكّرات والسير". ننشرها تباعًا على شكل مقالات تتضمّن قراءات في كتب يوميّات ومذكّرات وسير ذاتيّة خطّها غزيّون، أو كتبت من غزّة على مدار القرن الماضي ومطلع القرن الحادي والعشرين).

"لئن سلبوك عمّتك انتقامًا

فقد عرفوا جلالك في بهاكا"...

بيت من قصيدة نظمها الشاعر على الريماوي، يوم أعدم الأتراك مفتي غزّة، أحمد عارف الحسيني، عمّ صاحب السيرة، شنقًا عند باب الخليل في القدس يوم 1/1/1917، بعد أن ساقوه للمدينة ومعه ولده الضابط في الجيش العثمانيّ مصطفى أحمد عارف الحسيني من غزّة، بتهمة دعم ثورة الشريف حسين على الأتراك في الحرب العالميّة الأولى. كان صاحب السيرة، حمدي عبد الرحمن الحسيني، لم يتجاوز سنّ البلوغ بعد، حين كانت أعواد المشانق تنصب على أبواب مدينته غزّة مشدودة حبالها برقاب الغزيّين المعارضين لظلم وتجبّر الأتراك في حينه. وهي سيرة عرفتها كلّ مدينة عربيّة من مدن بلاد الشام خلال الحرب العظمى كما كانت تسمّى.

تعتبر سيرة حمدي عبد الرحمن الحسيني من ثلاثة أجزاء، بقلم المؤرّخ الفلسطينيّ الغزيّ سليم المبيض، والصادرة في غزّة عام 2019، من أبكر السير وأهمّها المدوّنة عن مدينة غزّة وتاريخها منذ مطلع القرن العشرين بدءًا بأواخر الحكم العثمانيّ على المدينة. والحسيني صاحب السيرة، من مواليد عام 1899م في قلب مدينة غزّة العتيقة، وفي حيّ الدرج منها تحديدًا، ذلك الحيّ الّذي بالكاد يمكن لأقلام المؤرّخين تذكّره اليوم، بعد أن جاء الدهر بويلاته وملماته المتكرّرة على غزّة المدينة، وأهلها منذ الحرب العالميّة الأولى وانكسار الأتراك فيها، مرورًا بنكبة عام 1948 والهجمة الديمغرافيّة الّتي عرضت لها غزّة على أثرها، وصولًا إلى حرب الإبادة الجارية حتّى اللحظة على البشر والحجر وكلّ أثر فيها.

لأسرة معروفة، عرفت بحضورها في مدينتي القدس وغزّة وثقلها الدينيّ والعلميّ وكذلك النضاليّ فيهما، ينتمي حمدي للحسينيّة. وقد نزل الحسينيّون حيّ الدرج في بؤرة أو ربوة مرتفعة كان يطلق عليها الغزيّون بعاميّتهم اسم "فوق المدينة"، ليس لفوقيّتها الطوبوغرافيّة فحسب، إنّما لفوقيّة حيّ الدرج ومن فيه اجتماعيًّا ومعيشيًّا بحسب صاحب السيرة. كما كان ذوو حمدي أثرياء وملاكًا للأرض، وكان منهم في غزّة رجال دين ودعاة، ومفتون وقضاة، وأئمّة مساجد وخطباء، ولمّا فتح حمدي الحسيني عينيه كان أبوه عبد الرحمن يشغل منصب قاض شرعيّ في مشيخة الإسلام في الأستانة.

كانت أوّل مصيبة أصابت غزّة بعد ولادة صاحب السيرة، هي جائحة الكوليرا "الهوا الأصفر" بعد ثلاث سنوات من ولادته في سنة 1902، حيث ضربت الكوليرا عدّة مدن وقرى فلسطينيّة منها غزّة والخليل وقراهما، ومدينة اللدّ والرملة كذلك، وقيل بأنّ الوباء قد جاء على نصف السكّان في حينه. بينما مصيبة صاحب السيرة الشخصيّة كانت في وفاة أبيه وأمّه في أسبوع واحد من عام 1909 ولم يتجاوز سنّ العاشرة بعد.

الشيخ شكري الحسيني وهو الأخ الأكبر لحمدي، كان أوّل من رافق هذا الأخير مودّعًا إيّاه في الكتاب، لتبدأ السيرة العلميّة لصاحب السيرة من كتاب جامع الشيخ فرج في حيّ الدرج. وتذكّر السيرة، يوم تخرّج صاحبها طفلًا من الكتاب المشاهد الطقوسيّة الّتي كان متعارفًا عليها في غزّة المدينة عندما يتخرّج أطفالها من الكتاب، وحفظهم القرآن الكريم وبعض مسائل الحساب، حيث حمل البيارق وأنشد الأناشيد، ورشّ التمر والزبيب على الأطفال، بينما حمدي تجلسه أمّه فوق كرسيّ خشبيّ يعتمر طربوشًا ومن حوله نساء الحيّ، في انتظار أن تبدأ إحداهنّ تلاوة القرآن الكريم وقصّ قصّة المولد النبويّ الشريف.

من كتاب الشيخ فرج إلى المدرسة الرشديّة في غزّة، والّتي أصبحت تسمّى مدرسة الرملة بعد نكبة عام 48، حيث بات طالبًا فيها وبعهدة أخيه الشيخ شكري بعد وفاة والديهما. كان ذلك في عام 1909، حين بدأ حمدي تعليمه الابتدائيّ فيها، في مناخ يدوّي فيه هتاف أولاد المدرسة في ظلّ ورائحة البارود الّتي ظلّت منبعثة من رفح جنوبًا، بعد أن دكّتها قوّات البحريّة البريطانيّة بالنار والدخان من أجل ترسيم حدود غزّة الجنوبيّة من رفح حتّى طابا قسريًّا سنة 1906. ثمّ إلى المدرسة التبشيريّة، الّتي التحق بها صاحب السيرة بعد أن أنهى تعليمه الابتدائيّ. كانت المدرسة التبشيريّة من أول وأشهر مدارس مدينة غزّة العثمانيّة في اعتمادها على النظام الحديث منذ مطلع القرن العشرين، وهي مدرسة بروتستانتيّة عرفت بـ "المعمداني" كانت تتبع للإرساليّة الإنجليزيّة، وأقيم فيها وقتها المستشفى الإنجليزيّ أيضًا، الّذي صار يعرف لاحقًا بالمستشفى الأهليّ، وهو نفسه المعمدانيّ الّذي قصفه جيش الاحتلال، وارتكب فيه أكبر وأبشع مجزرة في بداية حرب الإبادة الجارية على القطاع.

فرض تعلّم اللغة التركيّة على طلّاب غزّة في المدرسة التبشيريّة في ظلّ مناخ سياسيّ هيمن فيه النزعة القوميّة الطورانيّة على السلطة العثمانيّة الّتي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة قبيل الحرب، وذلك إلى حدّ بحسب صاحب السيرة أرغم فيه طلّاب المدرسيّة على ترديد النشيد الطورانيّ – التركيّ في طابور الصباح. وقد تشكّل وعي حمدي الحسيني السياسيّ ومعه كثيرون من أبناء غزّة في هذه المرحلة، الأمر الّذي دفع به وببعضهم بالالتحاق والتنظّم في حزب اللامركزيّة الّذي تأسّس فرعه في غزّة سنة 1912 حيث في ظلّه بدأ يتشكّل مناخ معارضة الغزيّين والعرب عمومًا للأتراك وحكمهم.

يروي الحسينيّ بحسب سيرته، عن الأبلاخية، وهي منطقة ساحليّة غزيّة كانت على شاطئ البحر، تعوّدت بعض عائلات المدينة الاصطياف فيها كلّ عام، ومنها عائلة حمدي، حيث كان أخوه الشيخ شكري يملكون بيتًا فيها تعوّد حمدي التردّد عليه. وممّا يرويه، أنّ زوجة أخيه قد طلبت ذات ليلة من ابنتها في الأبلاخية أن تجمع الغسيل من على سطح البيت، ولمّا صعدت البنت ومعها فانوس يلوح في يدها ليلًا انتبه عناصر المفرزة التركيّة من خفر السواحل إلى ضوء الفانوس يلوح فظنّوا بأنّ هناك شخصًا ما فوق سطح منزله يقوم بإرسال إشارات ضوئيّة للأسطول البريطانيّ والفرنسيّ المتخفّي في عرض البحر. داهم الأتراك بيت الشيخ شكري في نفس الليلة مع غياب هذا الأخير عنه، وبعد حملة تفتيش للبيت كادت أن توقع بحمدي الحسيني؛ لأنّه تعوّد ترك بعض منشورات حزبه اللامركزيّة في كتب مكتبة أخيه الشيخ، غادر عناصر المفرزة، دون أن يجدوا شيئًا، ومع ذلك صدر قرار بحقّ الشيخ شكري وزوجته وأسرته بنفيهم من غزّة إلى مدينة دمشق، حيث كانت سياسة النفي التركيّ على أشدّها في تلك المرحلة، وقد تمّ نفي عشرات الغزيّين من وجهاء ومعارضي الحكم التركيّ في المدينة وقتها.

ولمّا اندلعت الحرب العظمى سنة 1914، ثمّ تلاها ثورة الشريف حسين على الأتراك في سنة 1916، حيث انضمّ مفتي مدينة غزّة السيّد أحمد عارف الحسيني إلى ثورة الشريف ومعه ولده مصطفى الضابط في الجيش التركيّ. ثمّ غادرا معًا مدينة غزّة باتّجاه رفح ثمّ إلى سيناء تواريًا عن أعين الأتراك لدى إحدى القبائل البدويّة فيها، غير أنّه تمّ إلقاء القبض عليهما في صباح اليوم التالي. أعادهما عناصر الجيش التركيّ لمدينتهما غزّة وجرى تجريسهما عقابًا لهما على مرأى أهالي المدينة في وضح نهارها، ومن ثمّ اقتيدا معتقلين إلى مدينة القدس، وهناك حكم عليها بتهمة الخيانة بالإعدام. أعدم مصطفى الابن أوّلًا رميًا بالرصاص لكونه ضابطًا في الجيش التركيّ، بينما أعدم أبوه السيّد أحمد عارف الحسيني شنقًا عند باب الخليل بعده بأيّام.

يتذكّر حمدي الحسيني تلك الأيّام الّتي كانت تنتصب فيه عيدان مشانق الأتراك عند مدخل مدينة غزّة الشرقيّ، أمام مدرسة الرشديّة وبالقرب من الجامع العمريّ الكبير. وبعد أيّام على شنق مفتي المدينة في القدس، كان الحلفاء قد استولوا في يوم العاشر من كانون الثاني/يناير 1917 على رفح، ثمّ تقدّم الحلفاء شمالًا مستخدمين سكّان رفح دروعًا بشريّة، وبعد معارك ضارية مع الأتراك استمرّت لشهور سقطت دير البلح في الخامس من نيسان/أبريل 1917. لتتكوّن غزّة المدينة على موعد مع أكبر عمليّة تدمير لعمرانها وتهجير لسكّانها على مدار تاريخها. وذلك بعد أن أمر جمال باشا السفّاح أهلها بإخلائها خلال الحرب، لاتّخاذ المدينة قاعدة متقدّمة للدفاع عن فلسطين وبلاد الشام. ترك حمدي الحسيني مدينته غزّة مع أهلها، متوجّهًا برفقة عمّه المفتي محمّد سعيد الحسيني إلى قرية بيت دراس في ريف غزّة الشماليّ، ولاحقًا سيتمّ نفي حمدي الحسيني إلى القدس ثمّ إلى دمشق إلى أن حطّ به مقام النفي في مدينة قونيّة التركيّة، ليطوي من ذاكرة سيرته السيرة العثمانيّة لمدينته غزّة.

التعليقات