في معالجتها لحل "الدولة الواحدة" من منظور اقتصادي تقول د. ليلى فرسخ في دراسة بعنوان "إعادة تصور التحرر الاقتصادي في فلسطين"، إن الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ عام 1974 على الأقل، اعتقدت بأن إنشاء دولة فلسطينية على أي جزء محرر من فلسطين هو السبيل الوحيد لإنهاء الاستعمار الإسرائيلي وضمان الازدهار الاقتصادي للفلسطينيين.
تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"
ووفق هذه النظرة فإن العدالة الاقتصادية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال القبول بالقرار الدولي بشأن تقسيم فلسطين، ومن ثم إقامة السيادة الوطنية على الضفة الغربية وقطاع غزة؛ بمعنى آخر، أن السيادة الفلسطينية هي وحدها القادرة على حماية الحقوق الاقتصادية الفلسطينية وتمهيد الطريق لتحقيق العدالة الاقتصادية والسياسية.
وتضيف الدراسة، أنه بعد توقيع اتفاقيات أوسلو في أيلول/ سبتمبر 1993 خططت القيادة الفلسطينية لبناء اقتصاد قوي في الضفة الغربية وقطاع غزة، يكون مستقلا عن إسرائيل وقادرا على الحفاظ على دولة فلسطينية مستقلة، لكن النتيجة بعد مرور ثلاثين عاما على إنشاء السلطة الفلسطينية في الأراضي المحتلة، كانت أن الاقتصاد الفلسطيني بات مجّزأ وُمنهكا وغير قابل للاستمرار.
لكن وعلى الرغم من تدفق ما يزيد على 40 مليار دولار أميركي من المساعدات فإن الفقر ازداد، واتّسعت أوجه التفاوت في الدخل إلى مستويات لم تكن معروفة قبل عام 1993، وفي الواقع أصبح اعتماد الاقتصاد الفلسطيني على هذه المساعدات متزايدا، ولا يزال تحت رحمة السياسات والقيود الاقتصادية الإسرائيلية، وفشل في إرساء أساس لدولة مستدامة قادرة على التمكين أو التحرر.
وتشير فرسخ في الدراسة التي نشرتها دورية عمران الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، إلى أن نمو الاقتصاد الرأسمالي الإسرائيلي بعد أوسلو مقابل عدم استدامة النمو الاقتصادي الفلسطيني، كان نتيجة لعملية سلام لم تنه الاستعمار الاقتصادي وتصر على فصل السياسة عن الاقتصاد، حيث تحول "الاقتصاد الفلسطيني" بعد اتفاقيات أوسلو إلى أرخبيل من الفضاءات الاقتصادية المتشابكة مع الجهاز الاستعماري الصهيوني بدلا من الانفصال عنه، على الرغم من محاولات إسرائيل فصل الفلسطينيين عن الإسرائيليين.
وترى أنه ربما من الأدق وصف الاقتصاد الذي انبثق عن نموذج التقسيم الذي أوجدته عملية أوسلو للسلام بأنه اقتصاد فصل عنصري؛ اقتصاد من أربعة مجالات جغرافية فلسطينية، رئيسة ومقيدة، ويتم تنظيمها من رأس المال اليهودي والمصالح الاستعمارية الصهيونية، أصبحت هذه الفضاءات الفلسطينية عمليا خزانا للعمالة أو "بانتستونات" غير قادرة على النمو بأي طريقة مستدامة ومعتمدة على دولة استيطانية تمييزية.
وتسوق الدراسة هذا الادعاء لتدعيم الحجة الاقتصادية لحل "الدولة الواحدة" وهي تفترض أن هذه الدولة تكون قادرة على أن توفر الحرية والعدالة للسكان جميعهم، الذين يعيشون في إسرائيل، بغض النظر عن خلفيتهم العرقية أو الطبقية أو الدينية، ومن شأن مثل هذه الدولة أن تضمن تلبية حقوق الفلسطينيين كلها، بما في ذلك حق العودة والمساواة والمواطنة.
كما أنها ستحمي في ذات الوقت حق المواطنين الإسرائيليين، من خلال الاعتراف بوجودهم الديمغرافي الذي يتساوى اليوم مع الفلسطينيين الذين يعيشون في فلسطين التاريخية، وتقبل بحقوقهم السياسية الفردية والجماعية، فبعد عملية مصالحة تاريخية، تضمن المؤسسات الديمقراطية لمثل هذه الدولة حقوق جميع مواطنينا، وتستطيع أن تكون مجدية اقتصاديا وعادلة، كما تقول.
كان هذا الحوار مع د. ليلى فرسخ أستاذة العلوم السياسية في جامعة ماساتشوستس الأميركية في بوسطن، د. ليلى فرسخ، لإلقاء المزيد من الضوء حول هذا الموضوع.
"عرب 48": لفت نظري أنك تطرقين مسألة "الدولة الواحدة" من الباب الاقتصادي، وهو ما ذكرني بمعارضي "التسوية" ودعاة الدولة الواحدة "الأوائل"، الذين كانوا يسوغون ذلك بالحجة الاقتصادية المتمثلة بعدم وجود مقومات لبناء اقتصاد دولة مستقلة في الضفة والقطاع؟
د. فرسخ: كتابي الأول كان عن "العمالة الفلسطينية في إسرائيل"، وفي هذا السياق فإن الأيادي العاملة الفلسطينية في إسرائيل، بالرغم من أنها غير كبيرة الحجم على المستوى العام، إلا أنها مهمة جدا في قطاعات معينة خصوصا قطاع البناء، فإذا حسبنا عمال الضفة وغزة، في حينه، السبعينيات والثمانينيات، وأضفنا لهم عمال الـ48 تصل النسبة إلى ما يقارب 70% من العاملين في هذا القطاع.
هذه النسبة بقيت حتى بعد أوسلو وبعد أن قننت إسرائيل من دخول العمال الفلسطينيين من قطاع غزة بالذات، كما وصل عدد العمال الفلسطينيين من الضفة الغربية قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر إلى ما يقارب 200 ألف عامل، وقد كانت تلك نقطة مهمة بالنسبة لي في إظهار اعتماد الاقتصاد الإسرائيلي على الاقتصاد الفلسطيني أو على العمال الفلسطينيين، وإن هناك تشابكا اقتصاديا بالرغم من أن اقتصاد إسرائيل أكبر بكثير من الاقتصاد الفلسطيني، لكن من يبني البيوت الإسرائيلية، خاصة وأن المشروع الصهيوني يستديم بفكرته على بناء المستوطنات، وهو يعتمد على أيدي عاملة فلسطينية وبالتالي يصعب الانفصال بين الفلسطينيين في الضفة الغربية والاقتصاد الإسرائيلي.
هذا علما أن ما يحدث على أرض الواقع يشير إلى أن الاقتصاد الإسرائيلي قوي وغير معتمد بالمجمل على الاقتصاد الفلسطيني، لكن في ذات الوقت فإن المشروع الأساسي المتمثل بالمستوطنات يعتمد على الأيدي العاملة الفلسطينية، وهناك نوع من التشابك غير المتساوي طبعا، ومن هنا جاءت الفكرة أن أي مشروع يقوم على مبدأ الدولتين لن يمر لأن إسرائيل لا تريد له أن يمر، ولهذا السبب فهي قامت بخنق كل إمكانية لتكوين اقتصاد فلسطيني مستديم أو مستقر، ونرى أنه بعد 30 سنة من أوسلو ما زال الاقتصاد الفلسطيني معتمدا على الاقتصاد الإسرائيلي وتابعا له.
"عرب 48": المخطط كان وما زال إلحاق الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي لمنع الوصول إلى استقلال اقتصادي يقود إلى استقلال سياسي، وهو ما ترجم في الاتفاقيات الاقتصادية الملحقة باتفاق أوسلو؟
د. فرسخ: صحيح، لكن إسرائيل حاولت بعد أوسلو من تقليل الاعتماد على الأيدي العاملة الفلسطينية من الضفة والقطاع وتقليل الحاجة إلى السوق الفلسطيني، وخصوصا أن الاتفاق فتح أمامها أسواقا جديدة هائلة، واليوم يقتصر الاعتماد على السوق الفلسطيني على بعض القطاعات الاستهلاكية مثل الغذاء والشراب وغيرها، بمعنى أنها نجحت في ذلك إلى حد بعيد لكنها فشلت في إيجاد بدائل للأيدي العاملة الفلسطينية الرخيصة والمتوفرة، ونحن نرى اليوم تعطل قطاعات اقتصادية معينة وخاصة قطاع البناء بسبب حظر دخول العمال الفلسطينيين من الضفة الغربية بسبب حالة الحرب.
"عرب 48": كتابك الثاني كان عن "الدولة الواحدة"؟
د. فرسح: كتابي الثاني حمل عنوان "تفكيك مشروع فكرة الدولة الفلسطينية، حق تقرير المصير ما بعد منظومة التقسيم"، وكما هو معروف فقد أدى قرار التقسيم 181 من عام 1947 إلى قيام دولة إسرائيلية وكان هناك أمل أن يتم تحقيق قيام دولة فلسطينية ولذلك اعترفت به منظمة التحرير الفلسطينية عام 1988، علما أن أوسلو لم يأت على ذكره بل اعتمد على قرار 242 والأرض مقابل السلام وحصر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في ما بعد عام 1967 دون أن يتطرق لنكبة 48.
بمعنى أنه حدد سقف الحد الأقصى الذي من الممكن أن يصل إليه الفلسطيني هو 22% من أرض فلسطين وليس 46% كما نص عليه قرار التقسيم 181، وبالرغم من ذلك فإن إسرائيل خلال 30 سنة من توقيعه منعت أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية، من خلال تكثيف إقامة المستوطنات والشوارع الالتفافية والحواجز والإغلاقات، وهو ما أعاق تطور اقتصاد وطني فلسطيني.
والنتيجة أن أوسلو قام بتغيير هيكلية التبعية لإسرائيل، فقبل أوسلو كانت التبعية الاقتصادية مبنية على الأيدي العاملة، حيث كان 40% من مجمل العمال الفلسطينيين يعملون في إسرائيل، وبعد أوسلو قللت من العمالة، واتبعت الاقتصاد الفلسطيني من خلال الإغلاقات وسياسة التجارة مع السماح للمعونات الأجنبية في إبقائه على قيد الحياة.
كما جعلت الاقتصاد الفلسطيني يعتمد على قطاع البنوك والقروض التي أصبحت هي التي تحرك هذا الاقتصاد، وهو ما لم يكن قبل عام 1993 حيث كان هذا الاقتصاد يعتمد على عائدات العمالة في إسرائيل، وباختصار فإن ما حدث هو تغيير شكل التبعية الاقتصادية فقط.
"عرب 48": كذلك الأمر بالنسبة للتبعية السياسية وشكل الاحتلال أيضا؟
د. فرسخ: صحيح، ما حاولت قوله في المقال المذكور هو أن أي حديث عن فكرة الدولة المستقلة واقتصاد فلسطيني مستقل هو ضحك على الذقون، لأن الموجود قد تعزز أكثر بعد أوسلو بأن هناك اقتصادين، اقتصاد إسرائيلي كبير مع ناتج قومي إجمالي بقيمة 500 مليار دولار مقارنة باقتصاد فلسطيني مع ناتج وطني 17 ألف دولار، اقتصاد إسرائيلي مع ناتج قومي للفرد بقيمة 50 ألف دولار سنويا مقابل 2800 دولار للفرد إن لم يكن أقل في الاقتصاد الفلسطيني، هذه هي الحقيقة.
لذلك ما أقوله في مقالي وطروحاتي عامة إن الحديث لا يجري عن اقتصادين مختلفين بل عن اقتصاد واحد ووحيد بين النهر والبحر، وهو اقتصاد يهيمن عليه رأس المال الإسرائيلي وهو مجزأ إلى خمسة أجزاء، القطاع اليهودي الإسرائيلي وهو صناعي متطور مندمج بالاقتصاد الدولي، قطاع الضفة الغربية المعتمد على المديونية والعمالة الفلسطينية في إسرائيل، واقتصاد قطاع غزة المحاصر الذي كان اقتصادا مبنيا على اكتفاء ذاتي بإنتاجية منخفضة جدا، وقطاع القدس الشرقية المعزول عن محيطه الاقتصادي المتمثل بالضفة الغربية وتجري محاولات دمجه بالحيز الإسرائيلي مع درجة مواطنة أقل، وقطاع مناطق 48 وهو قطاع مندمج كليا مع القطاع اليهودي الإسرائيلي ولكن نسبة البطالة فيه أعلى من نسبة البطالة اليهودية ونسبة الفقر أعلى أيضا، إلا أن المهم فيه أنه بدا يمتلك أيدي عاملة بكفاءة عالية تدخل لقطاعات مهمة مثل الطب والصيدلة وحتى التكنولوجيا، وهناك اندماج فردي وليس جماعيا أو قوميا بالاقتصاد الإسرائيلي.
"عرب 48": ربما تقصدين القول إن إسرائيل لتكريس هيمنة اقتصادها قامت بتفكيك وتفتيت الاقتصاد الفلسطيني، أسوة بالجغرافية السياسية الفلسطينية بين غزة والضفة والقدس ومناطق 48؟
د. فرسخ: صحيح، ولكن عمليا على الأرض هناك اقتصاد واحد من يحركه ويرسم حدود تطوره وفرص العمل هو رأس المال اليهودي الإسرائيلي، وبرغم أنك إذا فكرت في "دولة واحدة" يتوجب عليك تغيير هذه الهيكلية الاستعمارية ولكن في كل الأحوال لا تستطيع أن تسميها هيكلية ذات دولتين لأنها ليست كذلك.
الواقع أنه لا يوجد اقتصاد وطني فلسطيني لأن الاقتصاد الوطني بحاجة إلى تشابك على كل الأصعدة وهذا غير قائم، في ظل سياسة التفكيك والتفتيت التي لم تعد في ظلها حتى الضفة الغربية ذاتها وحدة جغرافية واحدة بل تحولت إلى "كانتونات"، لذلك يمكن اعتبار ما هو موجود بمثابة نشاط اقتصادي في الضفة ونشاط اقتصادي في غزة وهكذا دواليك، وعلينا الكف عن الضحك على أنفسنا والحديث عن اقتصاد وطني فلسطيني يقود إلى دولة مستقلة.
ورغم أن الشعب الفلسطيني قطع طريقا طويلة في ترسيخ الحقوق السياسية الفلسطينية المتمثلة بالحق في تقرير المصير في إطار دولة مستقلة، وهو حق بات محل إجماع العالم وإن كان الحديث يجري على مساحة 22% من مساحة فلسطين، إلا أنه وخلال تلك السنوات نجحت إسرائيل، وخصوصا في الثلاثين سنة التي مرت على اتفاق أوسلو، من تفكيك وتفتيت المساحة التي يفترض أن تقوم عليها هذه الدولة، جغرافيًا واقتصاديًا وسياسيًا، لتجعل من عملية إقامتها شبه مستحيلة.
لكنها وهي تقوم بذلك خلقت واقع دولة فصل عنصري - أبارتهايد بين البحر والنهر، لتعيد من حيث لا تدري إلى الواجهة حل "الدولة الواحدة" الذي طرحه الفلسطينيون عام 1971، وإن كان ذلك بصيغ جديدة مختلفة ومتباينة مثل صيغة "الدولة ثنائية القومية" التي تحدث عنها د. عزمي بشارة منذ عام 1999 أو "الكونفدراية"، أو حق تقرير مصير لشعبين في وطن واحد، وذلك إلى جانب الطرح الأصلي المتمثل بالدولة العلمانية الديمقراطية التي يعيش فيها اليهود والمسيحيون والمسلمون بمساواة تامة.
وقد ناقشت في كتابي سالف الذكر التحديات التي تواجه الفلسطينيين عند تحويل فكرة الدولة الواحدة إلى مشروع سياسي فلسطيني، أهمها أن الدولة هي إطار قانوني يحمي جميع مواطنيه بغض النظر عن اثنيتهم أو قوميتهم، والأمر الثاني أن القومية يجب أن تكون قومية سياسية وليست إثنية.
لكن في كل الأحوال فإن ذلك يتطلب التخلص من الصهيونية كمشروع استعماري ومن ثم تحويل دولة الفصل العنصري التي إقامتها إلى دولة يتساوى فيها الجميع بما في ذلك المجموعة اليهودية الإسرائيلية التي أنتجتها.
د. ليلى فرسخ: باحثة فلسطينية في مجال الاقتصاد السياسي. تعمل كبروفيسور في العلوم السياسية بجامعة "ماساتشوستس" في بوسطن، وهي متخصصة في مجالات سياسات الشرق الأوسط والسياسية المقارنة والسياسة في الصراع العربي الإسرائيلي ونشرت العديد من الكتب والمقالات في مجالها.
التعليقات