في مداخلة بعنوان "الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الرقابة خلال الحرب على غزة"، كانت قد نُشرت باللغة العربية في مجلة "قضايا إسرائيلية"، الصادرة عن مركز مدار للدراسات الإسرائيلية، يلتفت بروفيسور أحمد سعدي إلى ظاهرتين محددتين أفرزتهما الحرب على غزة، الأولى هي دور أنظمة الرقابة الحديثة في السيطرة على عدد كبير من السكان، كما يقول، والثانية هي ظهور تحالفات وتضامن بين مختلف السكان الذين ليس بينهم ظاهريًا سوى القليل جدًا من القواسم المشتركة، تجمع على سبيل المثال بين مجتمع المثليين بالفلسطينيين المتدينين وبين طلاب وموظفي الجامعات مع عمال شبكات المقاهي.
تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"
في تحليله للظاهرة الأولى يرى سعدي أن الحرب على غزة تشكل اختبارًا صادمًا لموثوقية أنظمة الرقابة الجماعية التي أصبحت منذ العام الأخير من القرن الماضي الأداة الرئيسة لإدارة السكان والسيطرة عليهم على مستوى العالم، وللذين يعتمدون عليها، مشيرًا إلى أن السهولة التي اجتاح بها مقاتلو حماس الجدار الإسرائيلي المتطور الذي يفصل المستوطنات الإسرائيلية عن غزة، بعثت برسالة واقعية إلى أولئك الذين يعتمدون على مثل هذه الأنظمة (مثل كوريا الجنوبية التي أقامت نظامًا مماثلًا على حدودها مع الشمال)، خاصة وأن إسرائيل جسدت لعقود نموذج الأمن النيوليبرالي.
ويلفت سعدي إلى أن هذا السياج كان يُفترض أن يمثل انتصار إسرائيل الكامل على الفلسطينيين في قطاع غزة، ويعزز من تحييد سكان غزة البالغ عددهم 2.23 مليون نسمة، والمحاصرون في المنطقة الأكثر كثافة سكانية على وجه الأرض، حيث تتمتع إسرائيل بسلطة سيادية على حياتهم، في حين تدير السلطة الفلسطينية الخاضعة باقي المناطق المكتظة بالسكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وتقيم علاقات مع إسرائيل والغرب، أما المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل فيتم احتواؤهم بشكل فعال من خلال مختلف القوانين وممارسات الرقابة، بما في ذلك دمجهم في هوامش النظام السياسي الإسرائيلي.
وتشير المقالة إلى أنه رغم وجود المراقبة، كشكل من أشكال السلطة، في جميع الأماكن، إلا أنها تشكل مسألة حياة أو موت للمستوطنين والمستعمرين، ونظرًا لغربتها عن البيئة المحيطة بها والدونية الديمغرافية، أصبحت الرقابة أداة رئيسة لإسرائيل لتأمين هيمنتها، خاصة منذ العام 1967 عندما سيطرت على عدد كبير من السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ويبدو أن فشل نظام المراقبة الإسرائيلي خلال حرب غزة لا يشكل ضربة لأنظمة الرقابة الحديثة فحسب، كما يقول سعدي، بل يسلط الضوء أيضًا على المخاوف بين النخب النيوليبرالية والمسؤولين عن مجمع الصناعات الرقابية فيما يتعلق باستدامة نموذج الرقابة الحالي، وربما يفسر ذلك جزئيًا شراستهم في الدفاع عن حرب الإبادة الإسرائيلية.
وفي سياق الحديث عن استعمال تقنية الذكاء الاصطناعي في حربها على غزة، يشير سعدي إلى حدوث ذلك في منعطف حاسم لنموذج الرقابة والسيطرة الحالي، وأن إسرائيل مضت قدمًا بدمج أدوات الذكاء الاصطناعي في آلتها الحربية، وذلك على الرغم من أن هذا الدمج موضع نقاش واسع بين السياسيين والخبراء والقادة العسكريين، وأن إسرائيل استخدمت أدوات كانت تختبرها لبعض الوقت، وبالتالي أدت دورها كمختبر لتقنيات الرقابة والقمع الجديدة، وأنها امتنعت في هذا الصدد عن التوقيع على المعاهدة التي تدعمها الولايات المتحدة، والتي تهدف إلى تعزيز الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي في الحرب.
وعن تأثير هذه التقنيات، يقول السعدي إن هذه الأنظمة غيّرت معنى الحرب، وبدلاً من قتل مقاتلي حماس في ساحة المعركة، يتم قصفهم في منازلهم مع عائلاتهم وربما مدنيين آخرين، الذين يُعتبرون أضرارًا جانبية، ووفقًا للأنظمة، يُسمح بقتل كأضرار جانبية معقولة ما يصل إلى 20 مدنيًا إلى جانب كل ناشط صغير من حماس وحوالي 100 مدني مع كل قائد من حماس. وعلاوة على ذلك، فإن استخدام القنابل "الغبية" الرخيصة بدلاً من القنابل الذكية لتوفير الموارد في اغتيال صغار العملاء يزيد من احتمال حدوث "أضرار جانبية".
وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" بروفيسور أحمد سعدي لإلقاء المزيد من الضوء حول الموضوع.
"عرب 48": ما زالت الحرب الإلكترونية التي تخوضها إسرائيل ضد شعوبنا وطلائعها المقاومة على أشدها، حيث تجلت بشكل سافر في عملية تفجير أجهزة "البيجر" التي أدت إلى قتل العشرات وإصابة المئات من أنصار حزب الله في لبنان، وسط استمرار عمليات القصف التي يتم اختيار أهدافها بواسطة الذكاء الاصطناعي وتوقع عشرات الضحايا في غزة. لكن دعنا نبدأ بالرقابة التكنولوجية التي فرضتها إسرائيل على غزة قبل الحرب وتحدثت عنها في مداخلتك؟
سعدي: لا شك أن الرقابة هي ظاهرة قديمة قدم البشرية ومعناها الاهتمام ومتابعة تفاصيل الفرد أو مجموعة من السكان بهدف مراقبة سلوكياتهم وتغييرها. فالمراقبة قائمة في السجن والمدرسة وعيادة الطبيب، حيث تُكتب المعطيات ويتم مراجعة التوقعات والتغيرات.
في السياق الاستعماري تتم مراقبة السكان، النمو السكاني، الحالة الصحية، العمل والمواقف السياسية للسكان الواقعين تحت الاستعمار، وعادة ما يتم ذلك للتحكم بسلوكهم ومواقفهم، وحديثًا جرى توظيف الوسائل التكنولوجية المبتكرة بكثافة لتحقيق هذا الغرض، وكانت إسرائيل واحدة من الدول "الرائدة" في هذا المجال.
وقامت إسرائيل على امتداد الشريط الحدودي مع قطاع غزة ببناء "السياج الذكي"، الذي أُطلق عليه اسم الجدار الحديدي، واستغرق بناؤه ثلاث سنوات ونصف وتميز بحاجز بارتفاع 6 أمتار مدعومًا بأجهزة استشعار متطورة ورادارات وغرف قيادة وتحكم وأبراج مراقبة وأنظمة أسلحة يتم التحكم فيها عن بُعد ومعدات كشف وجدار تحت الأرض وحواجز بحرية.
وقد استخدمت إسرائيل 140 ألف طن من الفولاذ والحديد في بنائه، وعند الانتهاء من المشروع في كانون الأول عام 2021 صرح بيني غانتس، وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، بأن "الجدار، وهو مشروع مبتكر ومتقدم تكنولوجيًا، يحرم حماس من إحدى القدرات التي حاولت تطويرها وهي بناء أنفاق لمهاجمة إسرائيل، وإنه يضع جدارًا حديديًا وأجهزة استشعار وخرسانة بين المنظمات الإرهابية وسكان جنوب إسرائيل".
ومع اكتمال بناء هذا الجدار أصبحت غزة محاصرة من كل الجهات وتخضع لمراقبة بواسطة أجهزة مختلفة، منها الأقمار الصناعية، المنطاد، الطائرات بدون طيار والطائرات العادية، إضافة إلى أجهزة التنصت على أجهزة الاتصال والكاميرات المنصوبة على الحدود وأجهزة الاستشعار الموجودة على الجدار.
هذا إضافة إلى المراقبة والتحكم بأهل غزة عن طريق المعونات التي تدخل جميعها عن طريق إسرائيل، وهو ما يجعلها تتحكم بكميات الغذاء والدواء والكهرباء والماء وغيرها من الأساسيات وتسيطر على كافة أوجه حياة أهل غزة.
"عرب 48": عملية السابع من أكتوبر أطلقت أيدي إسرائيل في استعمال كل تقنيات القتل الحديثة، أو بالأحرى، توظيف هذه التقنيات في عمليات القتل الجماعي الذي تمارسه في قطاع غزة، ومنها "الذكاء الاصطناعي"؟
سعدي: الذكاء الاصطناعي في الحرب هو ظاهرة جديدة، والهدف من استعماله هو تمكين بعض الآلات أو الروبوتات من القيام بعمليات عادة ما يقوم بها البشر، ولكن بشكل آلي أو بشكل مصطنع من خلال أرقام إحصائية وغيرها تحاول بناء نوع من البيئة الشبيهة بالبيئة الطبيعية.
ولهذا الاستعمال أبعاد من أهمها أن المعطيات ليست دائمًا معطيات حقيقية، وهناك فرق بين المعطيات وبين الواقع، الهدف الآخر لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الحرب هو تقصير ما يسمى بسلسلة القتل، أي المسافة الفاصلة بين إعلان هدف أو التفكير بهدف معين من أجل القضاء عليه وبين القضاء عليه فعليًا.
على سبيل المثال فإن الذكاء الاصطناعي يقصّر الحيز الفاصل بين التفتيش عن شخص يُعتبر أنه شخص معادٍ وتعقبه عن طريق الهاتف أو هواتف أشخاص آخرين بواسطة الصور وغيرها، وبين قتله فعليًا بشكل أوتوماتيكي، ولكن هذه العملية تؤدي إلى أخطاء كبيرة ويطغى فيها الكم على الكيف.
وقد استخدمت إسرائيل في حربها على غزة حتى الآن ثلاث تقنيات رئيسة من الذكاء الاصطناعي، هي: البشارة (Gospel)، أين أبي (Daddy's Where) والخزامى (Lavender). يعمل كل منها على جانب معين من توليد الأهداف. الأول يجمع بيانات عن المباني التي يُفترض أنها تُستخدم من قبل أشخاص ينتمون إلى حماس أو الجهاد الإسلامي. والثاني ينبه إلى هدف يقترب من مبنى معين، بينما يستخدم الثالث بيانات من مصادر مختلفة (وسائل التواصل الاجتماعي، صور، بيانات تم الحصول عليها من الهاتف الخلوي، وما إلى ذلك) لتحديد الاحتمال الإحصائي بأن شخصًا ما هو ناشط في حماس.
"عرب 48": يعزو الكثير من المراقبين الأعداد الكبيرة للضحايا في صفوف المدنيين الفلسطينيين إلى الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في تحديد الأهداف؟
سعدي: تجري محاولات من قبل العديد من دول العالم لتقييد ومراقبة استعمال الذكاء الاصطناعي في الحرب، بسبب المشاكل التي يولدها هذا الاستعمال ولا سيما الزيادة في أعداد القتلى بين المدنيين. علاوة على أنه لا يمكن للبشر إعطاء الآلة صلاحية اتخاذ القرار في مصير البشر أو تقرير حياة إنسان آخر، لأن هذا الأمر مناقض لكل القوانين الأخلاقية وقوانين الحرب.
في الحرب، هناك أعراف تحكم طرفيها؛ فمثلًا، الجندي ليس قاتلًا بطبيعته ولذلك لا يتم محاربة الجنود بعد انتهاء المعارك. ومن أعراف الحرب أن كل طرف من الأطراف المتحاربة يتمتع بفرصة لمهاجمة الطرف الآخر. فالإنسان يضع حياته على المحك في نفس الوقت الذي يحاول فيه قتل إنسان آخر، ولهذا هناك من الناحية الأخلاقية نوع من التوازن بين الطرفين.
استعمال الذكاء الاصطناعي والآلات الأوتوماتية في الحرب يناقض قيم وأعراف الحرب تلك، المبنية على قاعدة أنه لا يجوز القتل ما لم يُعرّض الإنسان نفسه للخطر. وعند استعمال الأجهزة الآلية، فإن أحد الطرفين لا يعرّض نفسه للخطر، وعندها تتحول المعركة من مواجهة بين طرفين، رغم أنها غير متوازنة في معظم الأحيان، إلى مجزرة لا تتيح للطرف الآخر فرصة الرد.
"عرب 48": هل أدى استعمال هذه الآليات إلى تغيير خارطة الاصطفافات التقليدية في العالم، كما ذكرت؟ وهل ظهرت اصطفافات جديدة إثر الانقسام الذي ظهر حول الحرب على غزة؟
سعدي: صحيح، فقد أظهر هذا الانقسام عمال وطلاب يؤيدون الفلسطينيين، مقابل طبقات حاكمة من اليمين واليسار تؤيد إسرائيل. وبرز تضاؤل الفوارق بين حزبي العمال والمحافظين في بريطانيا، والجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة في تأييدهم لإسرائيل.
الاصطفافات التقليدية، والانقسام بين جنوب عالمي وشمال عالمي، باتت أقل وضوحًا. على سبيل المثال، نرى الهند تقدم لإسرائيل أسلحة، بينما دول مثل إسبانيا وإيرلندا تؤيد الفلسطينيين. هذا يعكس طبيعة التحالفات المتغيرة في العالم النيوليبرالي.
مفهوم مصطلحات "يسار" و"يمين" تغير أيضًا؛ ففي الولايات المتحدة، أصبح الحزب الديمقراطي هو حزب الشركات الكبرى، وبايدن واحد من أبرز الأشخاص الذين يمثلون هذه الشركات. لذلك، فإن تصنيف "يسار" و"يمين" يبدو تصنيفًا قديمًا ومناقضًا للفكر النيوليبرالي السائد اليوم.
"عرب 48": ما هو دور المنصات الإلكترونية في هذا السياق؟
سعدي: هناك فئات وأشخاص يقعون تحت الرقابة من قبل غوغل، فيسبوك، إنستغرام وغيرها من المنصات. وهناك فئات وأشخاص آخرون يربحون من هذه التقنيات ويزيدون من أموالهم وسيطرتهم بفضلها. تقنيات التعقب هذه تزيد من سيطرتهم، بالإضافة إلى استعمال المنصات الإلكترونية لزيادة عمليات الشراء وتعظيم الاستغلال الاقتصادي.
من هنا، نشهد نشوء تحالفات جديدة في العصر النيوليبرالي وفي العالم الذي يسمى "العالم الرقمي". لم تعد السلع الأغلى هي السلع التقليدية مثل الأحذية والملابس، بل أصبحت المعلومات هي المادة الأساسية للتجارة والربح.
بروفيسور أحمد سعدي: باحث زائر كبير في كلية العلوم الاجتماعية التابعة لتحالف جامعات الرور في جامعة إيسن، ألمانيا.
التعليقات