بعد السابع من أكتوبر، كشفت الأكاديميا الإسرائيلية عن وجهها الحقيقي كجزء لا يتجزأ من المشروع الاستعماري، مثل بعض "المعاقل" التي كانت تغطي نفسها بالكثير من المساحيق الليبرالية. ولم يظهر ذلك فقط في قمع الحرية الأكاديمية، وحق التعبير، والملاحقات التعسفية للطلاب والمحاضرين العرب الفلسطينيين وفصلهم من الدراسة، بل أيضًا في التعبير عن موقف معادٍ للحراكات الطلابية العالمية المناهضة لحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، ودعوة إدارات الجامعات لقمعها بشتى الوسائل.
تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"
د. ميسون سكرية، المحاضرة في كلية لندن الملكية، راجعت بيانات رؤساء الجامعات الإسرائيلية الستة التي صدرت في النصف الأول من السنة التي شهدت الحرب المستمرة على غزة. وجاءت هذه البيانات ردًا على المخيمات الطلابية التضامنية مع الشعب الفلسطيني، التي انتشرت في جامعات الولايات المتحدة وخارجها.
هذه البيانات تضمنت إدانات ملحوظة للطلاب المتظاهرين، ووصفتهم بأنهم منخرطون في "عنف شديد ومعاداة للسامية" ويتبنون "عداءً لإسرائيل"، كما اتهمتهم بالتهديد والتسبب بالأذى الجسدي للطلاب والمدرسين الإسرائيليين واليهود.
في قراءتها، التي نُشرت باللغة العربية في العدد الأخير من مجلة "قضايا إسرائيلية" الصادرة عن مركز "مدار"، أشارت د. سكرية إلى أنه على مدى الأشهر الماضية، أظهر رؤساء الجامعات الإسرائيلية دعمهم القوي والحزبي للحرب التي تشنها دولتهم على غزة. وقد تأثرت بياناتهم الصادرة في 26 نيسان/ أبريل بشكل مباشر بالإدانة التي أطلقها رئيس الحكومة الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، تجاه المتظاهرين من طلاب الجامعات الأميركية قبل ذلك بيوم واحد.
حيث وصفهم نتنياهو بأنهم "غوغاء معادون للسامية" يدعون إلى "إبادة إسرائيل"، ويهاجمون "الطلاب اليهود" و"أعضاء هيئة التدريس اليهود"، على نحو يُذكّر بما حدث في الجامعات الألمانية في ثلاثينيات القرن العشرين.
وتواصل الباحثة في استجلاء نوع الخطاب الذي قبله رؤساء الجامعات الإسرائيلية، مشيرةً إلى إدانتهم لعبارات مثل "من النهر إلى البحر" باعتبارها "دعوة إلى إبادة دولة إسرائيل"، و"الانتفاضة" باعتبارها "تأييدًا للأنشطة الإرهابية ضد المواطنين الإسرائيليين". كما أدانوا أي خطاب يصور إسرائيل بأنها ظالمة، في حين رحبوا بـ"بيانات التضامن والدعم الواضح لإسرائيل"، التي يعتبرونها "في جوهرها بيانات تضامن مع الإنسانية والتنوير والتقدم".
وتنوه الباحثة في مقالها إلى أن رؤساء الجامعات الإسرائيلية لم يُعبّروا في بياناتهم عن أي قلق تجاه الفلسطينيين. وفي أحد البيانات، يرون أن "لا يمكن أن يكون هناك دعم للمذابح المتعمدة للسكان المدنيين"، ويدعون إلى "موقف موحد ضد العنف الهمجي المرتكب ضد السكان المدنيين".
لكن هذا يشير إلى هجوم حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وليس إلى الهجوم الإسرائيلي المستمر على غزة، والذي أدى حتى صدور البيان إلى مقتل أكثر من 34,000 فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال. كذلك، لم يصدر أي تعليق من رؤساء الجامعات الإسرائيلية حول تدمير الدولة الإسرائيلية لجميع الجامعات في غزة، أو قتل العشرات من زملائهم الأكاديميين في أنحاء غزة.
وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" المحاضرة في قسم التنمية الدولية في كلية لندن الملكية، د. ميسون سكرية، لإلقاء مزيد من الضوء حول الموضوع.
"عرب 48": من المفاجئ أن الجامعات الإسرائيلية لا تكتفي بقمع وكمّ أفواه طلابها ومحاضريها بشكل مخالف لكل الحريات الأكاديمية والقيم الليبرالية التي طالما تشدقت بها، بل تتدخل لحث الجامعات الأجنبية على قمع مظاهر الاحتجاج المناهضة لحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة. كيف تفسرين ذلك؟
سكرية: رؤساء الجامعات الإسرائيلية أصدروا ستة بيانات حتى شهر نيسان الماضي، عبّروا فيها عن موقف ليس فقط مؤيدًا وداعمًا للحكومة الإسرائيلية وحرب الإبادة التي تشنها على الشعب الفلسطيني في غزة، بل هو موقف يتجاوز حتى موقف رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو.
حتى في بيانهم الأخير الذي صدر بعد إدانة محكمة العدل الدولية لإسرائيل بارتكاب إبادة جماعية، ظلوا ملتصقين وداعمين لوجهة نظر الحكومة الإسرائيلية، وهاجموا الحراكات الطلابية المناهضة للحرب على غزة، واتهموا كل من يقف مع السردية الفلسطينية، من طلاب ومحاضرين، بالإرهاب، وهم يعلمون أن هذه تهمة يحاكم عليها القانون في الدول الغربية.
خطابهم لم يختلف عن خطاب نتنياهو حتى بعد مضي ستة أشهر على الحرب، وبعد أن قامت إسرائيل بإبادة 32 ألف فلسطيني. وما زالوا يطالبون الجامعات الأميركية بقمع الحراكات، ويدعون إداراتها إلى اتخاذ إجراءات غير تقليدية ضد منظمي المخيمات، ويتهمونهم بمعاداة السامية وكراهية اليهود.
هذا الموقف بدد الشك الذي كان يساور البعض بأن الجامعات الإسرائيلية تختلف في موقفها عن موقف حكومتها، وأنها "معاقل ليبرالية" تلتزم بالحرية الأكاديمية وحق التعبير عن الرأي. وأثبتت أنها تتطابق في مواقفها مع موقف الحكومة الإسرائيلية، وأنها تدافع عن الإبادة الجماعية، وعن نظام الفصل العنصري، وعن قمع الطلاب والمحاضرين في الجامعات الغربية، وأنها جزء عضوي من الكيان السياسي الإسرائيلي.
"عرب 48": هل يمكن القول إن هذه الجامعات كشفت عن وجهها الحقيقي بعد أن تخلت عن المساحيق الليبرالية التي تجملت بها؟
سكرية: من المعروف أن دور الجامعات هو معارضة السياسة السائدة، والوقوف ضد السلطة والظلم والدولة عندما تذهب إلى الحرب، وليس أن تكون بوقًا للدولة. خاصةً في وقت أصبح فيه معروفًا أن الدولة تقوم بحرب إبادة جماعية، وهي تحاكم وتتلقى إدانات بهذا الشأن من محكمة العدل الدولية.
في الوقت الذي يُفترض فيه أن تلعب الجامعات دورًا ناقدًا ومعارضًا لسياسات الحكومة، انحازت الجامعات الإسرائيلية بشكل كامل لموقف حكومتها، ودعمتها، إضافة إلى استغلال مكانتها لتوفير الغطاء الأخلاقي لجرائمها ولحرب الإبادة الجماعية التي تشنها ضد الشعب الفلسطيني. هذا الموقف كشف الوجه الحقيقي لهذه الجامعات وأسقط الانطباع الذي كان لدى البعض حول حيادها، وهو انطباع كانت تغذيه مشاركة بعض الأكاديميين البارزين من اليسار الصهيوني في صفوف كوادرها. هؤلاء الأكاديميون، بدورهم، وقعوا في فخ رواية حكومتهم بعد السابع من أكتوبر.
لقد رفض هؤلاء الأكاديميون، حتى على المستوى الشخصي، الانضمام إلى العرائض التي تدين حرب الإبادة على قطاع غزة، وظلوا يتذرعون بهجوم السابع من أكتوبر، رغم انكشاف زيف الرواية الإسرائيلية حول قتل الأطفال واغتصاب النساء.
"عرب 48": في المقابل، إدارات الجامعات الأجنبية، الأميركية والبريطانية، تذرعت بـ"الحياد المؤسسي" لقمع هذه الحراكات. ما هو تعليقك على ذلك؟
سكرية: على الرغم من هذا الموقف الذي تبنته هذه الجامعات حيال حرب الإبادة على غزة، فإن الغالبية العظمى من الجامعات الأميركية والبريطانية أدانت هجمات السابع من أكتوبر. كما أنها ذكرتنا بأن حركة حماس تُعدّ، وفق قوانينها، "منظمة إرهابية"، وأن أي تماثل معها أو مع غزة قد يُعتبر تجاوزًا للقانون.
وعندما أشرنا إلى أنهم يتبنون وجهة النظر الإسرائيلية، وأن التاريخ لم يبدأ في السابع من أكتوبر، وعلى وقع مشاهد المجازر التي ترتكبها إسرائيل في غزة، لجأوا إلى الحياد المزعوم. في حين أن هذه الجامعات كانت قد أدانت بشكل رسمي الاحتلال الروسي لأوكرانيا، بل واستقبلت محاضرين من الجامعات الأوكرانية.
"عرب 48": نعرف أن موقف إدارات الجامعات تلك يعود إلى نفوذ اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، وخاصة من خلال الاستثمارات والتبرعات التي تُغدق على الجامعات المرموقة؟
سكرية: من المفارقات أن تخضع جامعات مرموقة مثل جامعة كولومبيا، التي تمتلك "وقفًا ماليًا" بمليارات الدولارات، لابتزاز اللوبي الصهيوني. يفترض أن تجعلها هذه الموارد المالية مستقلة. نعرف أن جميع هذه الجامعات مثل هارفارد وبراون وبرينستون تمتلك "وقفيات" ضخمة من هذا النوع.
في بريطانيا، أيضًا، أصبحت الجامعات تعتمد بشكل متزايد على الدعم الذي تحصل عليه من الشركات متعددة الجنسيات مع تقدم مسار الخصخصة. ومن "تحليل للقوة" أجريته في الجامعة التي أعمل فيها، وجدت أنهم يستثمرون في شركات لها علاقات مع نظام الأبارتهايد في إسرائيل. من بين هذه الشركات، تبرز شركة "إنفيديا"، وهي شركة ذكاء اصطناعي قامت بتصميم "سوبر كمبيوتر" لإسرائيل، حيث استُخدم الذكاء الاصطناعي بشكل كبير في الحرب على غزة.
هناك أيضًا شركة "أوراكل"، وهي شركة "كمبيوتر" تتعاون مع إسرائيل، وشركة "توفلا" المملوكة لصهيوني مؤيد لإسرائيل. كما توجد مؤسسات غير ربحية تتبرع للجامعة وتقوم ببناء مبانٍ فيها، مثل مؤسسة "وينيستون" التي تبني في الجامعة العبرية وتغدق عليها بالتبرعات. بالإضافة إلى ذلك، فإن خريجي الجامعة المؤيدين بغالبيتهم لإسرائيل يلعبون دورًا في هذا الدعم.
نحن نتحدث عن رأسمال منظم يتغلغل في مفاصل الاقتصاد ومواقع القوة، وعندما يدخل، تحرص الجامعات على الحفاظ عليه بأي ثمن.
"عرب 48": يبدو أن الحراكات قد خفّت حدتها في الآونة الأخيرة. هل نجحوا في قمعها؟
سكرية: يمكن القول إن الحراك شهد تحولًا بسبب عدة عوامل، أولها القمع الذي تعرض له. على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، تم اعتبار معاداة الصهيونية نوعًا من التحرش، كما اعتبرت الصهيونية "هوية محمية" بموجب القانون، والمس بها يعد شكلا من أشكال التمييز العنصري الذي يعاقب عليه القانون.
كما أن جميع الجامعات الأميركية أصدرت بيانات أكدت فيها أنها لن تتسامح مع مظاهر معاداة الصهيونية ومعاداة السامية. كذلك، شددت هذه الجامعات من إجراءات الدخول والخروج منها وإليها. فجامعة كولومبيا، على سبيل المثال، تحولت إلى ما يشبه السجن المغلق، حيث لا يمكن الدخول إليها إلا بإذن مسبق.
كل ذلك يؤكد أنه بينما تتظاهر الجامعات الغربية بحياد مشكوك فيه إلى حد كبير، فإن علاقاتها البحثية والتدريسية والمؤسسية والتمويلية والمعاشات التقاعدية التي تربطها بشراكات مع المؤسسات الداعمة للاحتلال والفصل العنصري والإبادة الجماعية في فلسطين تكشف لنا قصة مختلفة. هذا يفسر أيضًا علاقاتها الوثيقة مع الجامعات الإسرائيلية التي تنخرط في دعم مباشر وحزبي للدولة الإسرائيلية، التي تقوم بما وصفته محكمة العدل الدولية بأنه "إبادة جماعية معقولة".
التعليقات