في مقاربة نفسية وثقافية للتجربة الفلسطينية وأدب ما بعد الاستعمار، يستكشف د. لؤي وتد العلاقة النفسيّة للفرد مع البيت، بمفهوم سيغموند فرويد عن "اللابيتية"، الذي يتحدث عن تحول المألوف إلى شيء غريب، والذي طوّره لاحقًا الباحث هومي بابا ليشمل مشاعر الفرد بالنزوح في الحالة ما بعد الاستعماريّة، حيث يصبح البيت، الذي كان على نحو تقليدي موضعا للراحة والانتماء، غير مستقر من خلال قوى الاستعمار وإرث النزوح والتهجير.
تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"
ويقول وتد، في دراسة أصدرها برنامج علم النفس التحرري في "مدى الكرمل" تحت هذا العنوان، إن "اللابيتية"، بما تعنيه من غربة واغتراب، تنسحب على الفلسطينيّين أجمع، أولئك الذين عانوا وما زالوا يعانون من الاحتلال، أو الذين يعانون من النفي أو التهجير أو الحرمان من الجنسية، أو تقاطعية جميع هذه الصور من العنف الاستعماري، حيث يقع مفهوم البيت والوطن لديهم في موضع مركب جدا؛ فهو موقع للحنين العميق والاغتراب اللابيتي في آنٍ واحد.
وتتناول الدراسة ثلاثة نصوص من الأدب ما بعد الاستعماري لتحليل كيفيّة تعبير هذه النصوص عن تجربة لابيتيّة الوطن، من خلال قراءات في النصوص الأدبيّة: "مكان صغير" لجامايكا كينكيد، و"ماتيـغـاري" لنغـوغـي وا ثيونغـو، و"عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني، والتي تعرض، برأيه، مفهوم اللّابيتيّة على نحوٍ مفصّل، وتسلّط الضوء على التنافر النفسي والسياسي الذي تعيشه المجتمعات المستعمَرة، بشتّى صور ومراحل الاستعمار.
وتعرض النصوص، كما يقول، للمجتمعات الذين جرى استعمار منازلهم أو احتلالها أو تحويلها إلى ركام بصورة لا رجعة فيها، وتقدم هذه الأعمال الأدبية الوطن مساحة مشبعة بذكريات الأمان والراحة، فيما تطاردها أشباح الفقدان وصدمة النزوح. بذا، لا يُستخدم مفهوم "اللابيتية" هنا كمصطلح جاهز يُسقَط على النصوص، بل يُستخلص منها بوصفه أداة تحليليّة تكشف آليات التحوُّل من البيت إلى اللابيت، ومن المألوف إلى ما يثير القلق، في لحظات تصدُّع الحاضر وانكسار الذاكرة.
وتركّز المقالة على السياق الفلسطيني، حيث يمتد التحليل إلى نطاق أوسع من أدب ما بعد الاستعمار، لإظهار كيف أن موضوعات اللابيتيّة والمنفى والسعي إلى السلام النفسي تتجاوز الحدود القوميّة. ويشير الكاتب إلى أنه، بالرغم من أنّه ليست كلّ النصوص التي قيد النظر فلسطينيّةً، لكن معالجتها للوطن والغربة توفر رؤية مهِمّة لتجربة الفقدان واللابيتية الفلسطينية على شتى جغرافيّاتها.
كما يسلط هذا النهج المقارن الضوء على الطرق التي يعمل بها النضال ما بعد الاستعماري من أجل الوطن والانتماء على المستويين الفردي والجماعي، مع تغيُّر الحدود بين المألوف والغريب باستمرار. ما يؤكده هذا التحليل أن الأدب لا يخدم فقط كشكل جمالي أو شاعري، بل كموقع للمقاومة، يعكس الديناميكيّات المعقّدة بين الأرض والهُويّة والانتماء في المجتمعات الفلسطينيّة.
ومن خلال التعامل مع ما هو لابيتي، من خلال الأطر الفرويديّة وما بعد الاستعمارية، تقدّم هذه الدراسة نهجا جديدا لفهم الكيفيّة التي بها يلخص التعبير الفنّيّ الصدمات النفسية والوطنية التي يعاني منها أولئك الذين يعيشون بين الاحتلال والتحرر. وهو يسعى، في نهاية المطاف، إلى إظهار كيف يمكننا تعريف مفهوم اللابيتية كأداة مفاهيمية قوية لفهم الصراعات النفسية التحرريّة في لب التجربة الفلسطينيّة.
وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" د. لؤي وتد لإلقاء المزيد من الضوء حول الموضوع.

"عرب 48": تناقش الغربة والاغتراب في الوطن وعن الوطن، من خلال استخدام مفاهيم علم النفس التي اجترحها فرويد وبابا، وتوظيف النصوص الأدبية المقارنة، التي تتوسطها عودة غسان كنفاني المفترضة إلى بيته في "عائد إلى حيفا"؟
د. وتد: مصطلح "اللابيتية"، الذي أناقش بواسطته الغربة والاغتراب عن الوطن عموما، بالتأكيد على الحالة الفلسطينية، من خلال توظيف نصوص أدبية عالمية، بينها نص غسان كنفاني "عائد إلى حيفا"، هو مصطلح طوّره فرويد ليصف بواسطته كيف يتحوّل الشيء المألوف في لحظة معينة إلى شيء مخيف ومرعب، والمصطلح له باللغة الألمانية عدة إسقاطات وعدة معانٍ: "المألوف"، و"البيتي"، و"نفي المألوف"، و"نفي البيتي".
فرويد يشرح كيف أن هناك أشياء أنت متعوّد عليها ومألوفة بالنسبة لك، على سبيل المثال طفولة الطفل هي شيء مألوف بالنسبة له، ولكن أحيانا تكون فيها صدمة (تراوما) معينة تبعث على الخوف، وعندها تكون العودة إليها مرعبة جدا بالنسبة للطفل.
هومي بابا، الذي ينتمي إلى تيار "بوست كولونيالية"، طوّر لاحقا مفهوم فرويد، ووظّفه في عملية فهم "ما بعد الاستعمار"، في علاقة البيت مع العالم، حيث مثّل الإنسان في وقوفه ما بين البيت والعالم ما بعد الاستعماري. وما فعلته أنا في مقالتي هو محاولة فهم "اللابيتية" من خلال الأدب، بمعنى أنه بدل توظيف الأدب كأداة للعلاج، أنا أقول: تعالوا نُوظّف الأدب كأداة لفهم علم النفس، لأن ما وُصف في الأدب كحدث، هو أساس وصف الشعور نفسه، بطريقة آمنة جدا بالنسبة لنا.
في سبيل ذلك، أخذت ثلاثة نصوص أدبية عالمية تحكي عن أوطان ما بعد استعمارية، بمفاهيم مختلفة، هي: "مكان صغير" لجمايكا كينكيد، التي كتبت عن جزيرة كانت تحت الاستعمار الفرنسي، و"ماتيغاري" لنغوغي وا ثيونغـو، وهو من كينيا، وعاش جزءا كبيرا من حياته في أميركا، و"عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني من فلسطين.
هذه الروايات تعرض مفهوم "اللابيتية" على نحوٍ مفصّل، وتسلّط الضوء على التنافر النفسيّ والسياسيّ، الذي تعيشه المجتمعات المستعمَرة، بشتّى صور ومراحل الاستعمار. أولئك أفراد المجتمعات الذين جرى استعمار منازلهم، أو احتلالها، أو تحويلها إلى ركام بصورة لا رجعة فيها، وتقدّم هذه الأعمال الأدبيّة الوطن كمساحة مشْبَعة بذكريات الأمان والراحة، فيما تطاردها أشباح الفقدان وصدمة النزوح.
"عرب 48": نستطيع أن نستشف من "عائد إلى حيفا" فعلًا، كيف تحوّل البيت المألوف إلى مكان غريب وصادم، يمكن تسميته فعلًا بـ"اللابيت"؟
د. وتد: رواية جامايكا كينكيد، "مكان صغير"، تصف بكل ألم وصدق كيف تحوّلت "أنتيغوا" من وطن مألوف إلى مساحة من العزلة والقطيعة، حيث يجسّد عمل كينكيد التنافر بين جمال الجزيرة، والصدمة التاريخيّة التي تحملها بسبب الاستعمار.
"أنتيغوا" التي ينبغي أن تُمثّل مكانا للانتماء لسكانها الأصليين، أصبحت، بدلًا من ذلك، مليئة بالهياكل الاستعمارية، الجسدية والنفسية، التي تُعطّل الشعور بالوطن. بالنسبة لكينكيد، تكمن "اللابيتية" في حقيقة أنّ سكان الجزيرة الأصليّين يجدون أنفسهم غرباء في أرضهم؛ إذ إن "وطنهم" قد تغير تغيرا عميقا بسبب قرون متواصلة من الاستغلال والاستعمار البريطاني. المناظر الطبيعية في أنتيغـوا، بجمالها الخلاب الذي يحظى بإعجاب السيّاح، تخدم كواجهة تُخفي الندوب العميقة التي خلّفها الاستعمار في الجزيرة، وتُحوِّل ما ينبغي أن يكون بيتا آمنا إلى مساحة مُريبة، وحيز لابيتي من الغربة.
أمّا في "ماتيغاري"، رواية الكاتب الكينيّ نغوغي وا ثيونغـي، فيتجلى مفهوم "اللابيتية" من خلال علاقة بطل الرواية ببيته ووطنه الذي عرفه من قبل، وبالمجتمع الذي يعود إليه بعد غياب طويل. "ماتيغاري"، المناضل من أجل الحرّيّة، الذي خرج من الغابة بعد هزيمة المستعمِرين الظالمين، يعود إلى أرضه متوقعا استعادة وطنه وحياة السلام، ومع ذلك، فإن البيت الذي تصوره لم يعُد موجودا. هذا البيت، هذا المنزل، الذي يرمز إلى مكان الانتماء، والأمن، والملكية، أصبح الآن محتلا من قِبل قوى جديدة، سيطرت على البلاد في أعقاب الحكم الاستعماري.
ويعكس هذا التحوُّل،الذي جرى للمنزل من مكان آمنٍ إلى مكان للاغتراب، مفهوم فرويد للابيتية، حيث يصبح المألوف غريبا، وهو ما يُزعزع إحساس الشخص بالهُويّة والانتماء. كما يعكس إحساس "ماتيغاري" بالنزوح داخل أرضه هذا التوتّر الغريب (اللابيتي)، لأنه لم يعُد قادرا على التعرُّف على العالـم الذي ناضل من أجله، وبدلا من ذلك، يواجه واقعا يحرمه من السلام الذي كان يأمل في تحقيقه.
بالمقابل، تحكي رواية غسّان كنفاني "عائد إلى حيفا" عن تجربة التطهير العرقي والتهجير التي عاشها الفلسطينيون، وما زالوا يعيشونها منذ النكبة. تُبلوِر فلسطين، الوطن عامة (البيت؛ الأرض؛ الهُويّة)، من كونه مألوفا يحنّ إليه الفلسطيني، إلى "لابيتية"، وغربة مثيرة للهلع، والفقدان، وعدم الانتماء. بهذا المعنى، فإن كل محاولة للعودة إلى "الوطن"، يصاحبها شعور بالخسارة، حيث إن المنزل، الذي كان مألوفا، قد اختفى، ولم يتبقَّ منه سوى ذكرى باهتة لما كان عليه.
تدور أحداث الرواية القصيرة حول زوجَيْن فلسطينيَّيْن، سعيد وصفية، اللذين يعودان إلى مدينة حيفا، بعد مرور عشرين عاما على تهجيرهما منها خلال نكبة عام 1948. يسافران لاستكشاف بيتهما القديم، وليسترجعا، ذهنيا على الأقل، ما تركاه وراءهما، ابنهما الرضيع خلدون، الذي اضطُرّا إلى تركه أثناء النزوح. عند وصولهما، يكتشفان أن البيت أصبح الآن بملكيّة عائلة يهودية ناجية من المحرقة، وأن ابنهما، الذي تُرِك، قد تولت تربيتَه هذه العائلة، وأصبح جنديا إسرائيليا يُدعى دوف.
"عرب 48": لكن في فلسطين، نحن نتحدث عن تجربة استعمارية ما زالت قائمة وجاثمة على صدور أهلها؟
د. وتد: صحيح، ولكن تجارب ما بعد الاستعمار لا تقل أثرا أيضا. ففي "ماتيغاري"، يُلقي المحارب سلاحه بعد طرد الاستعمار، ويعود ليرى وضع الوطن، وخلال عودته، يلتقي بالناس: فلاحين، مساجين، طلاب جامعات، نساء وأطفال، وفئات مختلفة من المجتمع، فيكتشف أنّ الاستعمار قد قضى عليهم من ناحية نفسية، وأنه، بالرغم من إنهاء الاستعمار، فإن الأخير قد دمر الناس من الداخل.
وفي "مكان صغير"، تجد جمايكا كنكيد أن المستعمر قد قضى على كل مؤسسات الدولة، لأنه جاء ونفذ البيروقراطية والمفاهيم الديمقراطية الخاصة به على دولة لم تمر بسيرورة تطوير الديمقراطيّة. فترى أن الفساد ينتشر في كل مكان في البلد، وتشاهد تفشي السرقة والنهب، والإجرام ينهش في جسد الوطن، وأن الشباب ضائع، والمكتبات ضائعة، والناس بعيدة عن الثقافة.
وتعكس الروايتان آثار الاستعمار المدمرة على المجتمعات والدول المستعمَرة.
أما غسان كنفاني، في "عائد إلى حيفا"، فهو يقدم لنا حالة استعمارية ما زالت قائمة، وكيف تؤثر علينا بشكل مباشر، في اللحظة التي "يعود" فيها الفلسطيني إلى بيته، فيجد غربة في البيت نفسه. وهذه الغربة، أو الاغتراب، أو "اللابيتية"، التي يراها سعيد وصفية في بيتهما في حيفا، هي الغربة ذاتها التي يراها ماتيغاري في بلده، الغربة ذاتها التي تراها جمايكا كينكيد في بلدها.
غسان كنفاني طوّر الفكرة في "عائد إلى حيفا"، فهو يكتب فصلا يسميه "عائد إلى يافا"، حيث يعود الفلسطيني إلى بيته في يافا، ليجد فلسطينيا آخر يسكن في بيته؛ فيه تتجلى عبقرية كنفاني، الذي يُظهر مستوى "اللابيتية"، حيث يحصل الصراع بين الفلسطيني والفلسطيني، قبل أن يدرك الاثنان أن الصراع الحقيقي ليس بينهما، وأن الاثنين يعيشان حالة "لا بيتية"؛ في الوطن وخارج الوطن، في زيارة الوطن، وفي الصمود في الوطن.
"عرب 48": أنت تنقل هنا صورة أو صورا للغربة والاغتراب عن الوطن بأسلوب أدبي، بأقلام كبار الكتّاب، وما يُسمّى بمصطلحات علم النفس باللابيتية، هو ليس فعلا ماديا فقط، بل إن آثاره المعنوية والنفسية تبقى فاعلة في مجتمعات ما بعد الاستعمار، وآثارها لا تُمحى بزواله؟
د. وتد: في الأعمال الثلاثة المذكورة، يصبح البيت سواء أكان البيت المادي، أم الأرض، أم الامة نفسها موقعًا للغربة، حيث عطّلت القوى الاستعمارية الشعور بالانتماء والأمن، الذي يُمثّله البيت تقليديا.
في "ماتيغاري"، يعكس بحث بطل الرواية عن منزله المفقود نقدا أوسع للاستعمار الجديد، حيث يطغى الاستغلال المستمرعلى الوعد بالحرية. وبالمثل، في "مكان صغير"، تستكشف كينكيد كيف يكشف واقع ما بعد الاستعمار في "أنتيغوا" عن ندوب الاستعمار العميقة، ما يُحوّل الجزيرة إلى مكان للصدمة التاريخيّة التي ما زال يعاني منها السكان الأصليون.
وفي "عائد إلى حيفا"، يُصوّر كنفاني، بشكل مؤثر، الاغتراب الشخصي والجماعي لدى الفلسطينيين العائدين إلى منازلهم، عودة غير عادية، ليجدوها قد تغيرت على نحو لا رجعة فيه بعد النكبة. وفي كل حالة من الحالات، تنشأ اللابيتية من التوتر بين ما يجب أن يكون مألوفًا، البيت، والتحولات المقلقة التي يمر بها، بسبب إرث الاستعمار.
د. لؤي وتد: باحث في علم الاجتماع وناقد في ثقافة الأطفال والشباب، متخصص في أدب الأطفال والسياسات الثقافية، زميل بحث في منتدى EUME، وباحث ما بعد الدكتوراه ضمن منحة منيرفا في جامعة برلين الحرة.
التعليقات