دعت الأستاذة المساعدة في القانون الدولي/القانون والتكنولوجيا في جامعة "أوبسالا" السويدية، د. ميس قنديل، إلى تحويل تدمير الاحتلال للبنية التحتية الرقمية في غزة إلى ملف قانوني متكامل قابل للمساءلة أمام المحاكم الدولية.
تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"
جاءت دعوة د. قنديل خلال مداخلة قدمتها في "منتدى فلسطين للنشاط الرقمي" الذي عُقد هذا الأسبوع تحت عنوان "اتّصال مقطوع: تأثير الحرب على الوصول إلى الإنترنت والحقوق الرقميّة الفلسطينيّة"، ونظمه المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي "حملة"، بالشراكة مع أكثر من 50 مؤسسة محلية ودولية.
وقد ناقش المؤتمر قطع الاتصال كأداة قمعٍ في سياق حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل، وتداعيات الانقطاع الرقميّ المفروض على قطاع غزة، وانعكاساته على التعليم والرعاية الصحيّة والدعم النفسيّ والتواصل الإنسانيّ، إلى جانب بحث سبل التصدي للرقابة الرقمية، والانتهاكات التكنولوجية، والتواطؤ المؤسسي مع سياسات الاحتلال والقمع.
وأشارت د. قنديل إلى أن تحضير هذا الملف يتم من خلال توثيق الأثر الإنساني للعزل الرقمي بالأدلة التقنية والشهادات الميدانية، والتعاون مع خبراء في القانون الإنساني لتحليل الانتهاكات وتصنيفها. كما يجب الضغط على الدول التي تحتضن شركات متورطة للمطالبة بتحقيقات ومحاسبة بموجب الولاية القضائية العالمية، وتحويل الانتهاك إلى سردية قانونية موثقة وقابلة للتقاضي.
وأضافت أنه يجب العمل على تحمّل إسرائيل مسؤولياتها القانونية عن الإبادة الرقمية في غزة وتدمير القطاع التكنولوجي، مشيرة إلى أن ما قامت به إسرائيل من شن هجمات متتالية على منشآت الاتصالات والأبراج والشركات، وقد أدى إلى مهاجمة جميع البنى التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وفرض إغلاق شامل، مما تسبب بأضرار مدنية مفرطة كان من المتوقع سلفًا أن يكون لها آثار غير متناسبة.
ودعت د. قنديل خلال مداخلتها إلى ضرورة أن تتحمل إسرائيل مسؤولياتها كقوة احتلالية في حماية البنية التحتية المدنية، ولا سيما قطاع الاتصالات والإنترنت، مؤكدة أن تدمير البنية التحتية الرقمية في غزة يشكّل انتهاكًا لاتفاقيات جنيف الرابعة.
وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" د. ميس قنديل لإلقاء المزيد من الضوء حول هذا الموضوع.

"عرب 48": لفت نظري استعمال مصطلحات مثل "التطهير المعلوماتي" على غرار "التطهير العرقي" و"الإبادة الرقمية"، وهي جرائم حدثت في غزة تجاه العالم الافتراضي أو الرقمي بموازاة الجرائم التي كانت تُرتكب تجاه المجتمع الغزّي في أرض الواقع، وهي وإن كانت جرائم قائمة بحد ذاتها، فإنها سهلت وعززت من جرائم "التطهير العرقي" والإبادة الجماعية التي تُرتكب ضد الفلسطينيين في قطاع غزة على الأرض؟
د. قنديل: ألحق استهداف شبكات الاتصالات والإنترنت بشكل واسع في غزة ضررًا مفرطًا بالمدنيين، وهو ما يُخالف مبدأ التناسب الذي ينص عليه القانون الدولي، والذي يمنع أي هجوم يتسبب في خسائر مدنية غير متناسبة مع الفائدة العسكرية المتوقعة.
وقد استخدمت إسرائيل قطع الإنترنت وتعطيل شبكة الاتصالات كسلاح حرب وعقاب جماعي، وهو بمثابة هجوم إلكتروني يؤدي إلى إيذاء المدنيين وعرقلة الإغاثة ويمنع الوصول إلى معلومات حيوية كالمعلومات عن المناطق الآمنة.
في ضوء ذلك، من المفترض ملاحقة إسرائيل أو الشركات المتورطة أمام المحكمة الجنائية الدولية أو بموجب الولاية القضائية العالمية في بعض الدول، ومن الضروري تحويل هذا الانتهاك إلى ملف قانوني متكامل، من خلال توثيق الأضرار وجمع الأدلة التقنية والشهادات عبر التعاون مع خبراء قانونيين، والضغط على الدول لمحاسبة الشركات المتورطة، وخلق حراك حقوقي منسّق يتجاوز الإدانة نحو التقاضي والمساءلة.
وبالنسبة للمصطلحات، فإن "التطهير المعلوماتي" هو مصطلح مستحدث جديد نسبيًا مرتبط بالإنترنت والعالم الرقمي، وهو ليس مصطلحًا قانونيًا، ولكن يمكن استعماله لوصف الممارسات والعمليات التي تهدف إلى إزالة أو تقييد الوصول إلى المعلومات أو حتى محو السرديات والروايات التي تتعارض مع جهة معينة، يمكن أن تكون شخصًا أو شركة أو دولة، وفي هذه الحالة إسرائيل.
"الإبادة الرقمية" أيضًا ليست مصطلحًا قانونيًا، ولكنها على نسق التطهير المعلوماتي، تشير إلى سعي جهة معينة إلى محو الهوية الرقمية لمجتمع أو شعب معين، مثل حذف سجلات أفراده، وثائقهم، الأرشيف الخاص بهم أو صورهم، وهو ما تفعله إسرائيل والمتواطئون معها في هذا المجال.
وهذا يرتبط بقيام شركات وسائل التواصل الاجتماعي، مثلًا، بحذف كل السرديات المرتبطة بفلسطين، سواء كانت من فلسطين نفسها أو من خارج فلسطين ولكنها مؤيدة للقضية الفلسطينية، تحت دواعي مختلفة.
بهذا المعنى، فإن هذه الجرائم هي ليست فقط استكمالًا للجرائم الحاصلة على الأرض وهي "الإبادة الجماعية" و"التطهير العرقي"، بل محاولة لمحو آثار هذه الجرائم وإخفاء الأدلة التي تؤيد وقوعها. وإذا ما نظرنا إلى دعوى جنوب إفريقيا المقدمة إلى محكمة العدل الدولية في هذا السياق، نجد أن الوثائق والأدلة المرتبطة بهذه الإبادة كلها مصنوعة في غزة، بمعنى أن جميعها فيديوهات وتوثيقات من غزة نفسها.
ومن الواضح أن إسرائيل غير معنية بأن يكون هناك توثيق لجرائم الحرب التي تقوم بها خلال حرب الإبادة، بما يحمله ذلك من تداعيات على المستوى الدولي وعلى المستوى القانوني، ولذلك هي تقوم بالتوازي بـ"المحو المعلوماتي" و"الإبادة الرقمية" لعرقلة ومنع توثيق الجرائم الحاصلة على الأرض لإثبات وقوع جريمة حرب الإبادة.
"عرب 48": كيف جرت ترجمة هذه الأفعال على الأرض في غزة، وما هو أثرها على الناس هناك؟ بمعنى، الفعل التدميري الذي قامت به إسرائيل وما خلّفه من ضحايا كنتيجة مباشرة لقصف البنية التحتية للاتصالات ونتيجة لقطع الاتصالات وإغراق غزة في ظلام رقمي؟
د. قنديل: إسرائيل تمكنت من تنفيذ "المحو المعلوماتي" أولًا من خلال تدمير البنية التحتية المرتبطة بوسائل التواصل، وثانيًا من خلال منع نقل المعلومات وتشاركها نتيجة لذلك، وثالثًا بقطع الكهرباء، ما عطّل الأجهزة الإلكترونية التي يمكن بواسطتها نقل وتشارك هذه المعلومات مثل الحواسيب والهواتف الخليوية.
الناس في غزة لم يكن لديهم إنترنت، فقد كان هناك قطع كامل لكل شركات الإنترنت نتيجة تدمير بنيتها التحتية، ما عطّل وسائل التواصل الممكنة بين الناس، والتي تنبع أهميتها في ظروف الحرب ليس فقط لمعرفة أفراد العائلة الواحدة أماكن بعضهم البعض، بل للوصول إلى المعلومات التي تحدد المناطق الآمنة التي لا تتعرض للقصف والتي حددها جيش الاحتلال الإسرائيلي. ما يعني أن الهاتف المشحون والمتصل بالإنترنت هو سبيل نجاة بالنسبة للمواطن الغزي، وقطعه يعني قطع سبيل النجاة من الموت.
من جهة أخرى، في كثير من الأحيان كان جيش الاحتلال ينشر أوامر الإخلاء ومواقع المناطق الآمنة التي يُفترض الانتقال إليها عبر وسائل التواصل الاجتماعي مثل "فيسبوك" و"إنستغرام"، ما يعني أن فقدان الشبكة هو أيضًا فقدان لوسيلة إنقاذ الحياة والنجاة من الموت.
"عرب 48": من الواضح أن عمليات القصف التي استهدفت البنية التحتية للاتصالات، بما في ذلك الخطوط الأرضية والأبراج، تسببت في سقوط ضحايا لا يمكن حصر أعدادهم ضمن قائمة الشهداء الطويلة. ومن جهة أخرى، فإن الضرر الناجم عن تدمير بنية الاتصالات وقطع الإنترنت يمنع وصول الناس إلى الأماكن الآمنة، ويعيق وصول الطواقم الطبية وفرق الإغاثة إلى الأماكن المنكوبة، ما يؤدي إلى سقوط المزيد من الضحايا.
د. قنديل: صحيح، هناك ثمن مزدوج يُدفع نتيجة لذلك، وفي الحالتين الحديث عن إزهاق أرواح، إما بالقصف المباشر وتدمير البنية التحتية، أو بمنع وإعاقة وصول الفرق الطبية إلى مواقع القصف لإنقاذ من يمكن إنقاذه.
من هنا، فإن القانون الدولي ينظر إلى الموضوع من زاويتين: الأولى هي الدمار الإنساني، أي القتلى والجرحى والمفقودين، والثانية هي الضرر الناتج عن الأفعال، وكيف يمكن تعويضه.
في ما يتعلق بالقانون الدولي الإنساني، عادة ما يُلجأ إلى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في قضايا أوسع، مثل استهداف المدنيين أو البنية التحتية المدنية. لكن هناك أيضًا ما يُسمى بـ"قانون المسؤولية الدولية"، الذي يُحمّل الدولة التي ترتكب هذه الجرائم مسؤولية التعويض عن الضرر الناتج عن أفعالها غير المشروعة، سواء تجاه الأفراد العاديين أو الكيانات القانونية، ويشمل ذلك جبر الضرر والتعويض والترضية.
وفي هذه الحالة، فإن على إسرائيل بصفتها دولة محتلة، إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل التدمير، أي أنها ملزمة بإعمار غزة، ليس فقط لأنها مَن دمرت البنية التحتية والعمرانية واستهدفت المدنيين، بل أيضًا لأنها الدولة المحتلة التي تترتب عليها التزامات قانونية تجاه الإقليم المحتل وسكانه.
وحتى في حال تعذر إعادة الإعمار، فإنه يتوجب على إسرائيل تعويض الضرر المادي. وقد تم إعداد تقارير حول مبالغ التعويض الهائلة، والتي تشمل الخسائر في الأرواح، الأموال، والعمران. ووفق الأعراف الدولية، يمكن أن يتم التعويض بالاعتراف بالانتهاك أو التعبير عن الأسف، لكن ذلك يتطلب أولًا صدور قرار من محكمة العدل الدولية.
"عرب 48": سؤالي الأخير هو حول تواطؤ شركات التكنولوجيا العالمية، مثل مايكروسوفت وغوغل وغيرها، مع إسرائيل في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، وعدم تعاونها في إنقاذ غزة أو تقديم المساعدة الممكنة.
د. قنديل: الاتفاقية الدولية المتعلقة بالإبادة الجماعية لا تتحدث عن مسؤولية الدول فقط، بل تشمل أيضًا مسؤولية الأفراد والشركات. بمعنى أن وقف الإبادة الجماعية التي تنفذها دولة ما هو واجب يقع على عاتق الدول الأخرى، وكذلك الأفراد والشركات حول العالم. وهذه الأطراف تتحمل مسؤولية منع استمرار هذه الإبادة.
وفي هذه الحالة، فإن الشركات التي تواطأت وسهلت ولم تمنع استمرار حرب الإبادة على غزة تتحمل مسؤولية جنائية تمامًا مثل الدولة التي تنفذ هذه الجريمة.
د. ميس قنديل: هي أستاذة مساعدة في القانون الدولي/ القانون والتكنولوجيا في جامعة أوبسالا، السويد، ولديها أكثر من 15 عامًا من الخبرة في المنظمات والمؤسسات الوطنية والدولية لحقوق الإنسان، وخبرة واسعة في القانون الدولي الإنساني وقضية فلسطين. تركّز أبحاثها على: قضية فلسطين والقانون الدولي، وتأثيرات التكنولوجيا الجديدة على حقوق الإنسان وحقوق الإنسان في الفضاء الإلكتروني (الحقوق الرقمية) فيما يتعلق بالمعايير الإلكترونية والأمن السيبراني. حصلت على شهادة الماجستير في القانون الدولي من جامعة بيتسبرغ في الولايات المتحدة الأميركية، ودكتوراه في القانون الدولي الإنساني (مع التركيز على فلسطين) من جامعة فريبورغ في سويسرا.
التعليقات