جاء العدوان الإسرائيلي المدعوم بمشاركة أميركية مباشرة وغير مباشرة على إيران تتويجًا للضربات الحاسمة التي وجهتها إسرائيل لمركّبات محور المقاومة، وسط استمرار حرب الإبادة التي تشنها على قطاع غزة. وهي ضربات تمكنت من خلالها من تحييد حزب الله، والقضاء على قدرات سورية العسكرية، واحتلال جزء إضافي من أراضيها بعد سقوط نظام بشار الأسد، فيما اعتبرته - بلغتها - تقطيعًا لأذرع "الأخطبوط" تمهيدًا لضرب رأسه، وهو ما سُهّل بضوء أخضر أميركي للوصول إلى طهران.
تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"
وبعكس المتوقع من أن يقتصر الهجوم الإسرائيلي على منشآت الطاقة النووية الإيرانية، جاء شاملاً وطال، إضافة إلى هذه المواقع، القواعد والقيادات العسكرية والعلماء والمنشآت الإستراتيجية الإيرانية وأركان النظام، وحتى مبنى الإذاعة والتلفزيون. واستمر لمدة 12 يومًا، خُتم بالضربة الأميركية بطائرات "بي 2" العملاقة الحاملة للقنابل الضخمة "خارقة التحصينات" للمنشآت النووية الإيرانية الرئيسية الثلاث.
بالمقابل، وجّهت إيران ضربات صاروخية متتالية طالت المدن الإسرائيلية الرئيسية، واستهدفت مواقع عسكرية ومنشآت علمية وإستراتيجية، وأوقعت ضرباتها دمارًا غير مسبوق في العمق الإسرائيلي، وخلفت مشاهد جعلت المقارنة بين تل أبيب وغزة حالة واقعية.
وفي وقت يجمع غالبية المراقبين على أنه لا غالب ولا مغلوب في الحرب التي دامت 12 يومًا بين إسرائيل وإيران، نجحت القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية في تسويقها بأنها انتصار إسرائيلي - أميركي باهر، فيما ذهب بعض المحللين الإسرائيليين إلى المسارعة بمقارنتها بهزيمة عام 1967 التي أصابت الأنظمة العربية وكسرت ظهر التيار القومي العربي الرافض لإسرائيل، الذي قاده جمال عبد الناصر.

حول هذا الموضوع، حاورنا د. إبراهيم خطيب، المتخصص في إدارة النزاع والسياسات الشرق أوسطية.
"عرب 48": ذهب بعض المحللين الإسرائيليين إلى مقارنة الحرب على إيران، التي توّجت سلسلة الضربات التي زعزعت أركان محور المقاومة في فلسطين ولبنان وسورية، بالضربة القاصمة التي تلقاها التيار القومي بقيادة عبد الناصر في حرب 67، والتي أنهت عربيًا خطاب مقاومة إسرائيل وتقويض كيانها السياسي؟
د. خطيب: برأيي، إن ما حدث في الأشهر الأخيرة من ضربات، ترافقت مع استمرار الحرب على غزة، قامت بها إسرائيل في لبنان ضد حزب الله، وفي سورية، وفي اليمن، وأخيرًا في إيران، هو دلالة على رؤية إسرائيل بأن هذا المحور يشكل حالة تهديد عليها، ويجب التعامل معه من خلال ما أسمته "فصل الجبهات" والتعامل بشكل تدريجي مع كل جبهة على حدة. ويبدو أنها نجحت إلى حد معين في التقليل من قوة ودور هذا المحور.
لكن يجب التفريق بين عاملين أساسيين: الأول هو المحور كمجموعات منظمة مقاتلة مرتبطة بمحاربة إسرائيل ومقاومة دورها في المنطقة. والثاني هو التيار الشعبي المركزي المرتبط بنظرته لإسرائيل وباحتلال إسرائيل، وهذا التيار يرى أن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية والعربية غير شرعي ويجب مجابهة هذا الاحتلال.
على صعيد هذا التيار، بمعنى التيار الذي يُسمى اصطلاحًا بالمقاومة والممانعة، هناك جزئيتان مركزيتان: الجزئية الأولى هي كون هذا المحور، خصوصًا عندما نتحدث عن حزب الله، والحوثيين في اليمن، ومجموعات العراق، كان لها دور في مقاومة إسرائيل. لكن في الوقت نفسه، كان لها أدوار داخلية في العالم العربي، وهي أدوار تركت أثرًا على صعيد القبول الشعبي لهذه التيارات، بناءً على ما حدث خلال فترة الربيع العربي وما بعدها.
هذا يعني أن حالة الانقسام في سورية مثلًا على دور إيران وحزب الله، وحالة التعامل مع أنصار الله الحوثيين في اليمن، ليست مرتبطة بفلسطين، وإنما ترتبط بالشؤون الداخلية لهذه الدول.
"عرب 48": ولكن إسرائيل لعبت على وتر هذا الانقسام ونجحت في تجييره لصالحها؟
د. خطيب: إسرائيل نجحت في تجيير بعض من الرأي العربي ضد هذه القوى بناءً على الواقع الداخلي في الدول العربية، لكن ليس بالضرورة أن تكون قد نجحت في ضرب فكرة مجابهة إسرائيل التي تحتل أراضي فلسطينية وعربية، واستخدام كل الأدوات الممكنة لإنهاء هذا الاحتلال.
في هذا السياق، يمكن الإشارة إلى استطلاعات الرأي في العالم العربي، كـ"المؤشر العربي" وغيره، التي تؤكد أن الرأي العام العربي ما زال رافضًا للاحتلال الإسرائيلي ولفكرة التطبيع مع إسرائيل. وهذا دليل على أنه، إذا كانت هناك ضربات عسكرية قد أثخنت أو أوجعت هذه التيارات كقوى منظمة في العالم العربي والإسلامي، فإنها لم تكن بالضرورة قد ضربت فكرة مقاومة إسرائيل ومجابهتها على أساس احتلالها، وهذا التيار ما زال قائمًا في المكيال الشعبي ويحظى بحضور كبير.
ربما تكون قد حدثت بعض التحولات المرتبطة بأولويات بعض الدول العربية، مثلًا في حالة سورية المرتبطة بالواقع الداخلي، حالة الحرب أو الثورة وما أعقبها من واقع اقتصادي وسياسي هش وضعيف، وكذلك الواقع في لبنان وحالة الانقسامات والوضع الاقتصادي الصعب. ولكن هذه التحولات ليست بالضرورة ناتجة عن تراجع القضية الفلسطينية أو ضعفها لدى الرأي العام في هذه الدول.
ولكن لا يمكن أن ننكر أن هناك حالة ضعف عربي عام، جزء منها مرتبط بأن النظام الرسمي العربي لم يكن جاهزًا للوقوف أمام هذا التمدد الإسرائيلي، كاحتلال مناطق من سورية، وحالة الحرب في غزة، واستمرار شلال الدم هناك دون تحريك ساكن. وهذا مرتبط بالواقع الرسمي العربي الهش والحسابات الداخلية لبعض الأنظمة العربية، وهو محصلة تراجع في الدور العربي الداعم للقضية الفلسطينية الذي شهدته السنوات الماضية.
"عرب 48": السؤال هو، هل الضربات التي تلقاها هذا المحور، والحديث عنه كسلسلة واحدة وليس عن إيران فقط، كسرت ظهره ويمكن مقارنتها بحرب 67، ومن شأنها أن تؤدي إلى النتيجة نفسها، أم أنها ساهمت في إضعافه فقط؟
د. خطيب: لا شك في أنها كانت ضربة قاسية، قد تؤدي إلى مراجعة حسابات أو أولويات هذا المحور، فعلى المدى القصير ستعمل إيران وأذرعها أو حلفاؤها في المنطقة على إعادة ترميم الأضرار وإعادة بناء الصفوف الداخلية.
لكن السؤال المركزي هو ما إذا كان هذا المحور محورًا ثابتًا، وكما هو معروف، فإنه على مدى عمر القضية الفلسطينية، كانت التيارات المساندة للقضية والمرتبطة بها، والتي ترفع شعار مجابهة إسرائيل ومقاومتها، متغيرة ومتبدلة. بمعنى أن هذا المحور ليس بالضرورة محورًا ثابتًا، بل هو متبدل ومتغير.
"عرب 48": الحديث هو عن المحور الراهن الذي تقوده إيران، ونحن نعي أنه حتى لو تمكنت إسرائيل من إخراج إيران ومحورها من ساحة المواجهة، كما فعلت مع مصر، فإن دولًا وقوى أخرى ستتصدى لمجابهة إسرائيل ومقاومتها. ولكننا نحاول أن نستجلي ماهية الضربة والنتيجة التي ستؤدي إليها؟
د. خطيب: التبدلات ودخول قوى وانخراط دول أخرى في هذه المجابهة لا يتوقف فقط على نتيجة الحرب، وإن كانت قد أخرجت هذا المحور من ساحة المواجهة مع إسرائيل، فإن حدوث ذلك سيحفّز قوى ودولًا أخرى على ملء الفراغ.
الآن، في سياق ما يحدث راهنًا، قد تكون هناك حالة من التراجع في المحور الذي تقوده إيران في الفترة القريبة، بما يرتبط بأولويات إيران في هذه المرحلة. وأعتقد أن أولويات إيران مرتبطة بالمشروع النووي، وإعادة صياغة رؤيتها لدورها في المنطقة.
هذا بالضرورة سيترتب عليه حالة من التراجع لهذا المحور، وإعادة الحسابات والتعامل مع المستقبل في الفترة القريبة. علمًا أنه يجب التفريق بين الحالات المختلفة لمركّبات هذا المحور؛ فحالة حزب الله، الذي يرتبط ارتباطًا عضويًا بإيران – بمعنى أن جزءًا من هذا الارتباط هو ديني ومذهبي، وجزءًا آخر سياسي – تختلف عن حالة حماس، التي هي تيار فلسطيني وجزء من الحالة الفلسطينية، وبالتالي علاقتها مع هذا المحور لا تتأثر بضرب إيران كما هو حال حزب الله والتيارات الأخرى في العراق وسورية.
هذا مع العلم أن حماس تلقت هي الأخرى ضربة قاصمة خلال هذه الحرب، علمًا أن المؤشرات تبدي أنها ما زالت قادرة على استخدام القوة والصمود أمام العدوان الإسرائيلي. ولكن على المستوى الكلي، سيكون هناك حالة من التراجع، وإعادة بناء رؤية وقدرات هذا المحور في المرحلة المتوسطة، بينما سيكون تركيز إيران في المرحلة القريبة على الملف النووي وعلى دورها، خصوصًا أن الضربة كانت موجهة أساسًا لإيران بسبب ملفها النووي.
"عرب 48": السؤال الأخير هو: ما مدى تأثير ضرب هذا المحور على مسألة التطبيع والاتفاقيات الإبراهيمية مع إسرائيل، التي عاد الحديث عنها في الآونة الأخيرة؟
د. خطيب: من الطبيعي أن تحاول إسرائيل والولايات المتحدة استغلال هذه الضربات وإضعاف المحور، لمحاولة إدخال بعض الدول العربية إلى دائرة التطبيع، وذلك من خلال ثلاث أدوات أساسية:
الأداة الأولى، أن القوة هي الجزء الأساسي لإدارة هذه المنطقة، وإسرائيل هي التي تملك القوة، وبالتالي من يريد أن يحافظ على نفسه وعلى حضوره عليه أن يكون متصالحًا ومطبعًا معها.
الجزء الثاني مرتبط بحالة الابتعاد من قبل بعض العرب في المنطقة، كما ذكرنا سابقًا، عن المحور الذي تقوده إيران، لارتباط ذلك بملفات داخلية لا علاقة لها بالقضية الفلسطينية، التي تحظى بحالة من الإجماع في العالم العربي. ونخص هنا حالة حزب الله في لبنان، وإيران في سورية، واستغلال إسرائيل والولايات المتحدة لحالة الانقسام تلك، واللعب على وتر التخويف من النفوذ و"الخطر الإيراني" وضرورة الاحتماء بإسرائيل والولايات المتحدة.
الجزء الثالث هو الابتزاز السياسي الذي تمارسه الولايات المتحدة، وإدارة ترامب خصوصًا، في ربط بعض الصفقات السياسية بالتطبيع مع إسرائيل، مستغلة الوضع الهش لبعض الدول، أو تلك التي يرتبط بقاء أنظمتها بالولايات المتحدة. بمعنى: رفع العقوبات مقابل التطبيع مع إسرائيل، كما في حالة سورية، أو صفقات أسلحة مقابل التطبيع، وحماية مقابل التطبيع، وهكذا.
طبعًا، هذا لا يلغي الحالة الشعبية العامة المناهضة للتطبيع مع إسرائيل، والإرادة العربية الرافضة له، وهو ما سيجعل تمريره صعبًا، خصوصًا في سورية ولبنان.
"عرب 48": والسعودية؟
د. خطيب: هذا مرتبط بمستوى الضغط الأمريكي الذي يمكن أن يتشكل على السعودية للتطبيع، وبالتالي أعتقد أنه، رغم ربط إدارة ترامب لبعض الملفات بالتطبيع، فإن لدى السعودية أوراق مساومة يمكن أن تستخدمها في هذه المرحلة لصد هذا الضغط وعدم الذهاب نحو التطبيع. خاصة وأن الولايات المتحدة، وإن كان يهمها التطبيع والعلاقة مع إسرائيل، لديها ملفات لا تقل أهمية، مرتبطة بالملف الاقتصادي والاستثمارات، وبالتالي يمكن أن توفر السعودية للولايات المتحدة ما لا تستطيع إسرائيل توفيره.
هناك أوراق ضغط بأيدي السعودية لا تجعلها عرضة للابتزاز من قبل الإدارة الأمريكية، وهي تستطيع توظيفها في الحفاظ على مكانتها واستقلالية موقفها، في رفض التطبيع، ومناصرة الشعب الفلسطيني، ودعم حقوقه الوطنية.
إبراهيم خطيب، أستاذ مساعد في إدارة النزاع في معهد الدوحة للدراسات العليا. بمنهجيات كمية وكيفية وعابرة للتخصصات، تتناول أبحاثه حل النزاعات، وتحول النزاعات، والسياسات في الشرق الأوسط، والصراع العربي الإسرائيلي، وصراعات العالم العربي. أكمل د. خطيب درجة الدكتوراه في العلوم السياسية عام 2018 من جامعة هومبولت في برلين. تتناول رسالة الدكتوراه الخاصة به العلاقة بين تصور الهوية والصراع في سياق الصراع العربي الإسرائيلي.
بين عامي 2018 و2020، انتقل إلى مرحلة ما بعد الدكتوراه، وأجرى أبحاثه في جامعتي أكسفورد وهارفارد. في عام 2018-2019، أجرى أبحاث ما بعد الدكتوراه في دراسات الشرق الأوسط في كلية أكسفورد للدراسات العالمية والمناطقية بجامعة أكسفورد. وفي عام 2019-2020، كان الدكتور خطيب زميلًا في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة هارفارد، حيث أجرى عدة أبحاث.
أسس الدكتور خطيب في هارفارد مجموعة بحثية تهتم بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي. كما نشر عدة مقالات في مجلات مختلفة.
التعليقات