في مقالة بعنوان "اليمين الاستيطاني وإستراتيجيات شراء العقارات الفلسطينية في القدس" نشرت على موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، تتناول الباحثة المقدسية ملكة عبد اللطيف، نشاط الجمعيات الاستيطانية المستندة إلى تيار الصهيونية الدينية، وهو من أبرز التيارات التي عززت مركزيتها في السنوات الأخيرة على الصعيدين السياسي والاجتماعي.
تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"
ويشير المقال إلى ما شهده هذا التيار من صعود كبير بعد عام 1967، بعد أن اعتُبرت الحرب في الخطاب الصهيوني الديني بأنها "حرب الخلاص"، واعتبر احتلال الأراضي الناتج عنها تحقيقا لنبوءة دينية، وكذلك يقوم هذا الفكر على وجوب عدم التنازل عن أي جزء من "أرض إسرائيل"، واعتبار الاستيطان فيها واجبا دينيا.
وتلفت الباحثة إلى تبني الجمعيات الاستيطانية العاملة في القدس هذا الفكر، إذ ينتمي معظم أعضائها وقادتها إلى تيار الصهيونية الدينية، كما أن قادتها هم من خريجي المدرسة الدينية "مركاز هراف" التي أسسها الحاخام أبراهام هكوهين كوك في القدس عام 1924، والتي خضعت لتأثير ابنه الحاخام تسفي كوك في الستينيات، واجتذب بدوره نسبة كبيرة من قادة "غوش إيمونيم" والحركات الاستيطانية.
وبعد بضع سنوات فقط من تأسيس حركة "غوش إيمونيم" عام 1974 عقب حرب تشرين 1973، التي نهلت تعاليمها من فكر الصهيونية الدينية وقادت مشروع الاستيطان في الضفة الغربية، كما يورد المقال، تأسست جمعية "عطيرت كوهانيم" عام 1978، وجمعية "إلعاد" عام 1986، اللتين اتخذتا من الاستحواذ على العقارات الفلسطينية في القدس وسيلة أساسية لتهويد المدينة، وشكلت الجمعيتان لاحقا النواة الصلبة للاستيطان داخل الأحياء الفلسطينية في القدس، بعد أن ازدادت سلطتهما وتوسع نفوذهما بفضل الدعم الحكومي والمؤسساتي الكامل، ممثلا بوزارة الإسكان وبلدية الاحتلال في القدس وحارس أملاك الغائبين.
كما يشرف على هاتين الجمعيتين الاستيطانيتين ("عطيرت كوهانيم" و"إلعاد")، قياديون ينتمون إلى تيار "الصهيونية الدينية"، ويرتبطون بعلاقات وثيقة مع النخب السياسية لهذا التيار، ومنهم وزراء حاليون في الحكومة الإسرائيلية، وهما تشكلان امتدادا عضويا لفكر "غوش إيمونيم" في قالب مؤسساتي معاصر يحظى بدعم قانوني ومادي من الدولة، التي يفوّضه بمهمات سيادية وتوسعية.
عبد اللطيف التي كانت قد كتبت رسالة الماجستير عن "النشاط الاستيطاني لجمعية العاد في القدس" في إطار قسم الدراسات الإسرائيلية بجامعة بيرزيت، تبرز دور الجمعيات الاستيطانية اليمينية في القدس كذراع أساسية للسيطرة على العقارات الفلسطينية وتوسيع رقعة الاستيطان في المدينة، وخاصة "إلعاد" و"عطيرت كوهانيم"، اللتين تنشطان في البلدة القديمة والأحياء المجاورة مثل سلوان والشيخ جراح، وتحظيان بدعم حكومي مباشر وغير مباشر، بالإضافة إلى تمويل خارجي من خلال شبكة شركات وهمية تسهل عمليات الاستحواذ على العقارات الفلسطينية.
وتشير إلى تعدد الأساليب والأدوات التي تنتهجها الجمعيات الاستيطانية لشراء هذه العقارات أو السيطرة عليها، وسعيها إلى توظيف كل الوسائل التي تمكّنها من تحقيق أهدافها؛ فبالإضافة إلى المنظومة القانونية والدعم المؤسساتي الذي تحظى به، فإن لها أيضا أدواتها وأساليبها الخاصة التي تشمل عمليات الشراء المباشر من خلال تقديم عروض مالية ضخمة لأصحاب العقارات، غالبا ما تتجاوز قيمتها السوقية بأضعاف، ناهيك عن أساليب التزوير وتزييف الوثائق وتزوير التواقيع ضمن إجراءات بيع صورية، فضلا عن تأسيس شركات وهمية تُستخدم كواجهة لإخفاء الهوية الحقيقية للجهة المستفيدة من العقار.
وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" الباحثة ملكة عبد اللطيف لإلقاء المزيد من الضوء حول الموضوع.
"عرب 48": علمت أنكِ كنت قد أعددت رسالة الماجستير أيضا عن الجمعيات الاستيطانية والدور الذي تلعبه في السطو على منازل الفلسطينيين وعقاراتهم في القدس، وخصوصا في البلدة القديمة وسلوان والشيخ جراح؟
عبد اللطيف: صحيح، درست الماجستير في الدراسات الإسرائيلية بجامعة بيرزيت وأعددت الرسالة عن جمعية "إلعاد" تحديدا، وهي إحدى الجمعيتين الرئيسيتين اللتين تتنشطان في مجال الاستيطان في قلب أحياء القدس، وخصوصا الأحياء التي ذكرت البلدة القديمة وسلوان والشيخ جراح، وهما تعملان بكل الأساليب المشروعة وغير المشروعة للسطو والسيطرة على أكبر عدد من منازل الفلسطينيين وبالتالي إخراجهم منها وإحلال مستوطنين من التيار الديني الاستيطاني الصهيوني، الذي تعملان لصالحه محلهم.
"عرب 48": في المقال ركزت كما يظهر من العنوان على ما أسميته "إستراتيجيات شراء العقارات الفلسطينية"، بكل ما تنطوي عليه من عمليات غش واحتيال وتلاعب ورشى لتبرير هدف السيطرة على العقارات الفلسطينية، علما أنه وكما نعرف فإن الموضوع يتعدى ذلك ويشمل استخدام أساليب "مخابراتية" وعنيفة، تتواطأ وتشارك فيها مؤسسات الدولة ذات الصلة لإخراج المقدسيين من منازلهم والسيطرة عليها؟
عبد اللطيف: المقال كورقة سياسات ركز على هذه الجزئية لكن دراسة الماجستير كانت أكثر شمولية، تناولت جمعية "إلعاد" بوصفها جمعية مجتمع مدني وكيف صارت جمعيات المجتمع المدني في إسرائيل تمارس أدوار المحو والإزالة، ليس فقط عن طريق الشراء بل بواسطة الإطار القانوني الداعم لهذه الجمعيات وبشكل خاص "حارس أملاك الغائبين" و"قانون الشؤون الإدارية والقانونية"، الذي يمنح لليهود فقط حق استرجاع أملاكهم التي فقدوها عام 1948 و"قانون أملاك الغائبين" الذي يحرم الفلسطينيين فقط من أملاكهم تحت هذه الذريعة.
وعادة ما يتم السيطرة على المنازل والعقارات الفلسطينية إما بادعاء أنها أملاك غائبين فلسطينيين وبالتالي يجب انتزاعها من ساكنيها وتحويلها لـ"حارس أملاك الغائبين"، الذي يحولها بدوره لهذه الجمعيات، وإما أنها أملاك يهودية ويجب استرجاعها ونزعها من ساكنيها الفلسطينيين وتحويلها أيضا إلى الجمعيات الاستيطانية. في الحالتين تلجأ هذه الجمعيات الاستيطانية لحارس أملاك الغائبين لتبرير السيطرة على هذه المنازل والعقارات، الذي يقدم بدوره كل الدعم المطلوب لتثبيت سيطرتها على هذه الممتلكات.
أستطيع أن أقول إن ما يسمى بـ"حارس أملاك الغائبين" كان من أبرز الدعائم التي أسست لهذه الجمعيات ووفرت لها المستند والدعم القانوني اللازم، إلى جانب دوائر وأذرع السلطة الأخرى مثل القضاء المنحاز والشرطة التي توفر لأفرادها الحماية وتشارك في عمليات السطو وإرهاب المقدسيين.
"عرب 48": في الشيخ جراح كان دور "حارس أملاك الغائبين" شديد الوضوح بوصفه هو من يضع يده على المنازل، بادعاء أنها أملاك يهودية وهو من يقوم، لأول وهلة، بتأجيرها أيضا للمستوطنين الذين كانوا قد أقدموا على السطو عليها بالقوة؟
عبد اللطيف: وفي سلوان أيضا، في حي بطن الهوى تحديدا يظهر هذا التواطؤ غير المكشوف لـ"حارس أملاك الغائبين" مع الجمعيات الاستيطانية، وقد كشفت اللجنة التي شكلتها الحكومة الإسرائيلية في تسعينيات القرن الماضي لفحص كل عمليات تمرير العقارات لأيدي الجمعيات الاستيطانية والتي تدعى لجنة "كلوغمان"، عن تواطؤ واضح لـ"حارس أملاك الغائبين" في عمليات سطو المستوطنين على المنازل الفلسطينية ودوره كختم مطاطي لإسباغ الشرعية القانونية على ممارساتهم.
"عرب 48": كما نعرف فإن محاولات السيطرة تلك كان يشوبها الكثير من عمليات التزييف والاحتيال التي تجري بتواطؤ من قبل "حارس أملاك الغائبين"، ولعل أبرز مثال على ذلك فضيحة "منزل عائلة المستشار الأسبق للحكومة الإسرائيلية ميخائيل بن يائير في الشيخ جراح"؟
عبد اللطيف: صحيح، إذا لم تكن كلها فإن غالبية البلاغات التي تصل إلى طاولة "حارس أملاك الغائبين"، والتي يتقرر بموجبها وضع اليد على العقارات الفلسطينية هي بلاغات مفبركة أو مزيفة، وبغض النظر عن كون القانون نفسه غير قانوني وغير شرعي، فإن الإجراءات نفسها لا تستوفي شروطه القانونية أيضا، بل إنه بمجرد أن يصل "الحارس" خبر بأن واحدة من الجمعيات معنية بعقار معين يذهب ويضع يده عليه.
وخلال البحث تنكشف لك الأيديولوجيا التي تقف وراء هذه الجمعية وتسيرها وكأنها تحدد أهدافها وكيفية عملها وتشكل الخيوط التي تربط كل جمعيات الاستيطان ومنظماته، فترى أن جمعية "إلعاد" تختص بسلوان ووادي حلوة، والآن بدأت تتوسع أكثر وصولا إلى الصوانة، حيث تقيم هناك مشروع ما يسمى "تصفية التراب المقدس" حيث يجلبون طلاب مدارس ويدعونهم للقيام بـ"تصفية التراب" بحثا عن بقايا الهيكل، وهو مشروع يندرج ضمن ما يسمونه مأسسة الوعي وتهيئة الإنسان لممارسة الدور الاستيطاني على الأرض لاحقا.
"عرب 48": معروف أن تلك الجمعيات والمنظمات الاستيطانية أقيمت أصلا لمهمة اختراق الأحياء الفلسطينية، بما تحويه من تحصينات مجتمعية يصعب اختراقها بقوى الدولة التقليدية، مثل الجيش والشرطة والقيام بالأعمال القذرة التي تخشى الدولة من القيام بها؟
عبد اللطيف: صحيح، إنها على غرار "شبيبة التلال" في الضفة الغربية، فهم من نفس المنبع الأيديولوجي المتمثل بالصهيونية الدينية، لكن ما يفعلونه بشكل مكشوف وفظ في الضفة الغربية يقومون به بشكل "مرتب" بما يراعي الإطار القانوني المعمول به في القدس.
أنا أمضيت حياتي في القدس وعملت كباحثة في "مركز وادي حلوة" الكائن في المبنى الملاصق لما يسمى "مدينة داوود"، ومن المؤلم أنك تسير خطوة في حي وادي حلوة فتجد منزلا عليه علم إسرائيل وتسير خطوة أخرى لتجد منزلا آخر، إنها أشبه ببقعة الزيت التي تتفشى وتتسع أكثر فأكثر لتغطي المساحة كلها.
إنه واقع ينبئك بمستقبل قاتم أكثر صعوبة، خصوصا عندما تسمع الناس يصفون جمعية "إلعاد" بأنها أخطبوط يمد أذرعه على كافة أنحاء الحي والبلدة، والموضوع لا يقتصر على الأساليب التي تتبعها بل إن تاريخ الجمعية يحكي هذا الشيء، فعندما كنت أعد رسالة الماجستير حصلت على تسجيل لدافيد بئيري مؤسس الجمعية، الذي كان يشغل نائب قائد وحدة المستعربين "دوفدوفان"، يقول فيه لزوجته إنه سيترك الجيش لكي يعيد اليهود إلى "مدينة داوود"، وقد أصبح هذا الهدف هو شعار الجمعية الذي يشتق منه اسمها.
وحتى دستور الجمعية الذي طلبته من مسجل الجمعيات يتحدث عن "تعزيز أواصر العلاقة بين القدس وبين اليهود" وتحديدا "مدينة داوود"، ودافيد بئيري لم يفرض نفسه غصبا على المجتمع الفلسطيني فقط بل دخله بطريقة قذرة، وهو يفخر كيف زار وادي حلوة لأول مرة على هيئة "مستعرب"، إذ كان يلعب دور المرشد السياحي ودخل إلى أحد المنازل الفلسطينية هناك، ثم تكررت الزيارة واستطاع أن يوقع بهذا الفلسطيني وابتزازه وأخذ اعتراف منه بأن أحد الشركاء في ملكية منزله هو "لاجئ" ينطبق عليه قانون أملاك الغائبين، ثم توجه إثر ذلك إلى "حارس أملاك الغائبين" الذي وضع يده على هذا المنزل الذي ما زال بئيري يسكنه حتى اليوم.
تلك الأساليب استخدمتها جمعية "إلعاد" على نطاق واسع في الاستيلاء على المنازل، وهي أساليب تعتمد البحث والتحري وتقوم على الحيلة والغش والخداع وتنتهي بالتضليل والتزوير والتزييف وتواطؤ المؤسسات الرسمية وعلى رأسها "حارس أملاك الغائبين"، في السطو على المنازل واحتلالها من قبل المستوطنين بعد إخراج أصحابها منها.
"عرب 48": أساليب "مستعربين"؟
عبد اللطيف: كانت تلك الأساليب بما تنطوي عليه من دهاء وخبث وانحطاط وعنف صاعقة بالنسبة للفلسطينيين، وصلت حد محاولة اختراق الأحوال الشخصية والدخول في خلافات الزوج وزوجته، واستغلال حالات الشقاق والطلاق بين الزوجين، وهي تفاصيل شديدة الحساسية يستبعد الإنسان أنهم قد يدخلون بها.
وكما تعرف فإن الحياة صعبة في القدس وفي المقابل هم يمتلكون مبالغ طائلة ولا يدخرون أساليب ترغيب وترهيب، لا تحدها حدود أخلاقية أو قانونية، ناهيك عن أن عمليات الشراء في حال اللجوء إليها كانت تتم عن طريق سلسلة سماسرة فلسطينيين قبل أن تصل في نهايتها إلى المستوطن، ثم أنهم لا يستعجلوا إشهار عملية البيع والشراء التي يتم الكشف عنها بعد مرور أشهر أو أكثر.
"عرب 48": ما هو عدد المنازل الواقعة تحت سيطرة المستوطنين في سلوان؟ وهل هناك تقاسم مناطق نفوذ وأدوار بين الجمعيات الاستيطانية خصوصا "إلعاد" و"عطيرت كوهانيم"؟
عبد اللطيف: لا توجد إحصائيات دقيقة، إذ أن الجمعيتين تعملان في سلوان. "إلعاد" في وادي حلوة و"عطيرت كوهنيم" في بطن الهوى، وهما كأنهما "وصي" على أملاك يهود اليمين التي تأوي على، حد زعمهم، ما يقارب 380 عائلة فلسطينية في بطن الهوى يتهددها خطر الإخلاء.
مساحة سلوان 5600 دونم يسكنها اليوم حوالي 60 ألف فلسطيني و3000 مستوطن، وهو رقم كبير نسبيا، ووفق المعطيات الأخيرة فقد نجح المستوطنون بالسيطرة على 87 منزلا في السنوات الأخيرة، في حين أن معطيات جمعية "إلعاد" نفسها من سنة 2009 تفيد بوجود 79 عائلة يهودية في سلوان والبلدة القديمة، بينما نشرت الجمعية بأنها استطاعت خلال شهر واحد (أيلول/ سبتمبر 2014)، بالسيطرة على 25 شقة في سلوان.
"عرب 48": وهم لا يكتفون بالسيطرة على المنازل بل يقيمون مشاريع من أجلها أن تغير وجه المنطقة بالكامل؟
عبد اللطيف: وهذا هو الأخطر ربما، فهذه المشاريع تسعى إلى تغيير وجه المدينة، وهي لا تقتصر على "المزرعة الاستيطانية" و"مدينة داوود" و"مركز التراث"، و"زراعة القبور الوهمية" وغيرها من محاولات زراعة تاريخ يهودي مصطنع في أركيولوجيا الأرض الفلسطينية، فهناك مشروع "التلفريك" الذي سيربط هوائيا بين جبل الزيتون والحرم القدسي الشريف الذي يسمونه "جبل الهيكل"، والذي سيغير في حال إنشائه الجغرافية الفلسطينية للقدس أيضا.
* ملكة عبد اللطيف: باحثة فلسطينية وطالبة دكتوراة في جامعة بنسلفانيا، حاصلة على درجتي ماجستير في القانون والدراسات الإسرائيلية من جامعة بيرزيت.
التعليقات