العرب الدروز والحركة الوطنية الفلسطينية حتى ال-48..*/ سعيد نفاع

-

العرب الدروز والحركة الوطنية الفلسطينية حتى ال-48..*/ سعيد نفاع
كان هرتسل يعارض بشدة أية محاولة للتسلل التدريجي إلى فلسطين، إذ أن خطته كانت تقضي بالحصول على ميثاق من السلطان العثماني عبد الحميد، يُمنح اليهود بموجبه الحق في إقامة مستوطن يهودي في فلسطين يتمتع بحكم ذاتي، ولكن جهوده باءت جميعها بالفشل، على الرغم من تأييد بريطانيا والدول الاستعمارية له.

عندئذ بدأت جهود زعماء الصهيونية تتخذ أشكالا أخرى، من ذلك أنه تم في المؤتمر الصهيوني الخامس-1901 إنشاء ما يعرف بالصندوق القومي اليهودي "الكيرن كييمِت" لشراء الأراضي وتسجيلها كملكية أبدية للشعب اليهودي.
ثم قام الصهيونيون في أعقاب صدور وعد بلفور بإنشاء الصندوق التأسيسي" كيرن هيِسود" لتمويل عمليات الهجرة والاستيطان عن طريق جمع التبرعات التي كانت أقرب إلى الضرائب منها إلى أي شيء آخر.(1)

كان غزو فلسطين طريقة استملاك الأراضي قد بدأ قبل ذلك بعقدين على الأقل مما أدى إلى سلسلة صدامات، من أوائلها الاصطدام المسلح بين الفلاحين العرب والغزاة الصهيونيين عام 1886، عندما هاجم الفلاحون المطرودون من الخضيرة وملبّس (بيتح تكفا) قراهم المغتصبة التي أجلوا عنها رغم إرادتهم. ودفعت المصادمات الحكومة العثمانية عام 1887 إلى فرض القيود على هجرة المستوطنين اليهود الذين كانوا يدخلون البلاد كسياح ثم يبقون فيها.

في عام 1891 قام وجهاء القدس بتقديم عريضة إلى الصدر الأعظم رئيس الوزارة العثمانية، طالبوا فيها بمنع هجرة اليهود الروس إلى فلسطين وتحريم استملاكهم للأراضي فيها. ويبدو أنه كان لمشاعر الفلسطينيين العرب، من محاولات هرتسل إغراء السلطان عبد الحميد ببيع فلسطين لليهود، أثرها في مواقف السلطان، فقد رفض السلطان هذا العرض رغم حاجة الإمبراطورية العثمانية الماسة حينذاك للدعم المالي.(2)

أما حكاية "املبس" في المصادر الصهيونية، وتجسيدا للشعار الذي اتخذته لنفسها الحركة الصهيونية :"شعب بلا أرض يعود إلى أرض بلا شعب" فكانت كالآتي:
"كان عدد اليهود في فلسطين في ستينيات القرن التاسع عشر بضعة آلاف يسكنون القدس ويافا وصفد والخليل وطبرية وتشغلهم العبادة. حتى قرر أحد "مجانينهم" واسمه يوئيل موشي سولومون، الذي كان قد أقام الحي اليهودي خارج القدس القديمة "نحالات هشفعاه"، أن يعيد الشعب اليهودي في البلاد للعمل في الأرض. فتوجه مع اثنين من أصدقائه نحو مناطق المستنقعات المعلنة للبيع على ضفاف اليركون (نهر العوجة) بجانب القرية العربية ملبّس،
فوجدوا العرب المصابين بالملاريا، وجيف البقر والخيل الملقاة على الضفاف، لدرجة أن الطبيب اليوناني المرافق لهم هرب باتجاه يافا خوفا، بعد أن قرر أن الهواء هنا ملوث وخطر الموت مصير حتى الحيوانات التي تقرب المكان.


إلا أن سولومون ورفاقه نصبوا خيامهم مقررين أن يجربوا حظهم وفي سهل الموت هذا، فأقاموا
"بيتح تكفا – فتحة الأمل"، فكانت طريقها في البقاء كأخواتها "ريشون- لتسيون وزخرون- يعقوب ورحوفوت "، طريقا مزروعة بالقبور واليأس والإخفاقات. هؤلاء الطلائعيون القلائل لابسو البزّات الروسية والأحذية المطاطية، كانت عيونهم متوقدة وفي قلوبهم إصرار أن يحيوا أرض إسرائيل. وكان العرب يرقبونهم ويهزون برؤوسهم قائلين:
هؤلاء "أولاد الميتة" المخبولون ينصبون خيامهم بجانب المستنقعات مصدر الملاريا، في أرض منسية من الله ومن الإنسان.
لا أرض عسل وسمن وجد أحباء صهيون أولاء إنما أرض حروب وإهمال وتدمير تركت في جسد أرض الأحلام التي صورتها التوراة".(3)

على الرغم من موقف السلطان كما جاء أعلاه وبغض النظر عن الرواية أعلاه، فقد استطاعت الحركة الصهيونية اقتناء الكثير من الأراضي من ملاّكين خارج فلسطين من عائلات لبنانية:
سرسق، تيان ، تويني ومدور وغيرها، كانت هذه العائلات استولت على أجود أراضي فلسطين- مرج إبن عامر- في المزاد الذي أعلنته السلطة العثمانية سنة 1869 لاستيفاء الضرائب من الفلاحين أصحاب الأراضي.(4)

وكذلك من عائلات فلسطينية :
كسار،حجار،وروك، ووجهاء من الرملة وصفد. إضافة إلى الاقتناء طريقة المزادات العلنية التي كانت تباع فيها أراضي الفلاحين العاجزين عن دفع الضرائب.(5)

أما في المصادر الصهيونية فيجيء:
أراض كثيرة من فلسطين، كما هو معروف، كانت ملكا لإقطاعيين من خارج فلسطين، كانوا من أوائل من باع الأراضي للشركات اليهودية، طبعا دون أخذ رأي الفلاحين، الأقنان عمليا، ومن وراء ظهورهم. كانت الصفقات تتم ويلتزم المشترون، موظفو البارون روتشيلد وعلى رأسهم أوزوفيتسكي، بالديون المترتبة على الفلاحين، ويعملون مباشرة على إخلائهم منها.

سنة 1900 اشترت إحدى الشركات أراضي واسعة في الجليل الأسفل في قرى:
السجرة ويمة ومسحة والمناحمية في لواء طبريا الذي كان قائمقامه أمين أرسلان، وكالعادة باشر كبير موظفي البارون روتشيلد المشهور "أوزوفيتسكي" عمليات التسجيل استعدادا لإخلاء الفلاحين. وكان سنده في ذلك رشيد بيك والي بيروت الذي كانت قائمقامية طبريا خاضعة له، مصدرا أمرا بطرد الفلاحين، فنشب نزاع حاد بين القرويين وبين رجالات أوزوفيتسكي مبعوثي البارون.

وقف القائمقام أمين أرسلان الدرزي (هكذا في المصدر س.ن.) مع الفلاحين وقد حارب ليس فقط الظلم الذي أحاق الفلاحين إنما كان همه أيضا أن لا تتغير التركيبة القومية لللّواء.(6) إلى درجة رفض تسجيل الأراضي في القائمقامية معارضا بيع الأراضي لليهود وعلى مدى السنوات 1899-1908.(7)


الجاعونة:
كان عدد سكان الجاعونة وكلهم من الدروز سنة 1886 وحسب المصادر التي ذكرت أعلاه 375 نسمة.
ففي سنة 1882 اشترى اليهود 4000 دونم من أراضي الجاعونة وبنفس الطريقة المعهودة المذكورة، وأقاموا عليها مستوطنة سكنتها 27 عائلة في 16 بيتا بلغ عدد أفرادها ال-140، دون أن يُطرد بادئا سكانها الدروز. لكن مصيرهم لاحقا كان كمصير ملبّس وزمّارين في الساحل. لقد أوردت المصادر وصفا من فم نشيط الحركة الصهيونية يتسحاك أفشتاين أمام المؤتمر الصهيوني السابع:

"... وعندما نشتري قطعة أرض كهذه، نبعد عنها مزارعيها السابقين تماما... فنحرم بهذا أشخاصا بائسين من ممتلكاتهم الضئيلة، ونسلب لقمة عيشهم... ولا يزال حتى اليوم يرن في أذنيّ نحيب النساء العربيات، عندما تركت عائلاتهن قرية الجاعونة وهي روش بينا، وانتقلت للسكن في حوران... فقد ركب الرجال على الحمير ومشت النساء وراءهم باكيات، يملأ السهل نحيبهن."(8)

المطلة:
لاقت المطلّة في أقصى الشمال مصيرا مشابها للجاعونة والخضيرة ومسحة ويمّة وزمّارين واملبّس والمناحمية وأخواتهن الكثيرات. يقول أمين البعيني:

في نهاية القرن ال-19 كثفت الدولة العثمانية حملاتها على الدروز وبالذات في جبل الدروز، لتجريدهم من سلاحهم وتجنيدهم. وفي سنة 1895 بالذات وإثر تجدد النزاع بين الدروز وبدو حوران، استغلت الدولة العثمانية المناسبة وجردت حملة ضخمة بقيادة عمر رستم لتأديب الدروز وتنفيذ سياستها القاضية بتجريدهم من السلاح والتجنيد .

هذه الحملة حققت أهدافها المرسومة بعد أن كانت الغلبة لها، فقبضت على الزعيم شبلي الأطرش وعلى نحو ألف مقاتل من الدروز ونفتهم، وبعضهم حتى رودس. وشرعت الدولة عندها بتجنيد الشباب حيث كانت بأمس الحاجة لهم في حروبها وخصوصا في البلقان. لكن هذا وأمام اشتداد البطش العثماني في مناطقهم عيل صبر الدروز وبدأوا ثورة استمرت "مكرّ مفرّ" على مدى سنوات.

معروف عن الدروز تعاضدهم مع بعضهم وخصوصا عند الملمّات، فلم تقتصر مقارعتهم للعثمانيين على جبل العرب إنما امتدت إلى وادي التيم كذلك، والتي كانت إحدى قرى جواره قرية المطلة الدرزية(9).

يروي سلام الراسي قصة هذه القرية كالآتي :
"قبل نهاية القرن الماضي ( ال-19) اشترى البارون روتشيلد اليهودي قرية المطلة من مالكها جبور بيك رزق الله من صيدا، وذلك في نطاق المخطط الصهيوني، لجعل قرية المطلة يهودية، ومغط حدود ارض "الميعاد" الى ما وراءها.
وكان زعيم المطلة الشيخ علي الحجار من زعماء الدروز المعروفين ومن أصحاب المكانة عندهم، إذ سبق له أن قاد إحدى حركات العصيان المسلح ضد الدولة العثمانية وبطش بإحدى حملاتها فقتل بعض أفرادها وشتت شمل من تبقى منها.

وفي أحد الأيام استدعي الحجار إلى القائمقام التركي رفعت بابان بك إلى جديدة مرجعيون لغاية ما، وعند المساء توجه عائدا إلى قريته، إلا أن فرسه وصلت صباح اليوم التالي إلى المطلة بدون فارسها، فهب رجاله يبحثون عنه حتى عثروا عليه مقتولا قرب نبع الحمام في مرجعيون.


قيل أن قائمقام مرجعيون كان وراء مصرعه، كما أشيع أن أحد زعماء المنطقة كان يترصد خطواته، إلا أن مقتل الحجار ما زال حتى الآن سرا مغلقا... يمكن التكهن، بالنسبة إلى تسلسل الأحداث، بأن إزالة الحجار من الطريق قد سهلت عملية اقتلاع الدروز من قرية المطلة وتسليمها لليهود قبل نهاية القرن الماضي (التاسع عشر)".
ويذكر محمد جابر الصفا في كتابه "تاريخ جبل عامل " أن رضا بيك الصلح اشرف على عملية التحقيق وتوصل إلى أن القائمقام التركي بابان هو المدبر القاتل".(10)

أما المصادر الصهيونية فتفيد:
أوقعت الهجرة اليهودية إلى البلاد في نهاية القرن التاسع عشر خلافات بين اليهود والدروز على ملكية الأرض، وكانت مدعاة للكثير من المواجهات. كانت المطلة حتى نهاية القرن التاسع عشر درزية تسكنها أكثر من مئة عائلة درزية استغلوا أرضها ضمانا ً. كانت الملكية تتبدل ولأن مالكيها الملتزمين بدفع ضرائبها لم يستطيعوا دائما جمع حصصهم من السكان فكان الولاة العثمانيون ملجأهم لطلب المساعدة، فأدار ممثلوهم حربا ً حقيقية وأبعدوا الدروز عنها وعرضوها على موظف البارون دي روتشيلد أوسوفيتسكي للبيع، واستمرت المحاولات لطرد الدروز سنوات لكن دون نتيجة.

في سنة 1896 عندما انفجر تمرد الدروز في سوريا وكانت الغلبة للعثمانيين فاعتقل ونفي زعماؤهم إلى قشطة، وجد أوسوفتسكي فرصته للتغلب على المشكلة التي لم ينجح في حلها بالمفاوضات.

يروي يتسحاك أفشطاين ما يلي:
جاء موظف المستوطنات إلى المطلة يحمل كيسا ً مليئا ً بالذهب في عربته، وتشاء الصدف! ( علامة التعجب ليست في المصدر س.ن.) أن يلتقي مع موظفي وجنود الدولة العثمانيه الذين جاءوا لاعتقال المتهربين من أداء الخدمة في الجيش وكانوا مستعدين أن يعتقلوا من لا يوقع على سندات البيع وأمام الخيارين (التجنيد أو التوقيع)، وقع الأهالي على السندات، وبعد بضعة أيام ترك أكثر من 600 نفس القرية مسقط رأسهم.

لم يمض أسبوع حتى اجتمع هناك حوالي 60 فلاح يهودي ومنهم عمال المستوطنات وسكنوا في بيوت الدروز. وكانت المستوطنة هادئة في كل الوقت الذي كان الدروز وزعماؤهم ملاحقين من قبل العثمانيين، وكانوا مضطرين أن يختبئوا.

بعد سنة أطلقت السلطة سراح الزعماء الدروز وعممت إعفاء ً عاما ً عن الدروز. لم تمض أشهر قليلة حتى قدّم الدروز شكوى على الذين استولوا على بيوتهم وأرزاقهم التي لم يبيعوها، وعانت المطلة سنوات عديدة من هجوم الدروز مدفّعين المستوطنين ثمنا باهظا من الخسائر المادية والدم، دفعه المستوطنون بسبب قصر نظر سياسة موظفي البارون"(11)


مصادر الفصل السادس:
(1) الكيالي: الموجز ص20.
(2) الكيالي: ص23.
(3) بار زوهر: ص26.
(4) د. عبد الوهاب الكيالي: تاريخ فلسطين الحديث\ألمؤسسة العربية-بيروت 1990\ص 38.
(5) الكيالي: الموجز ص25.
(6)آساف ميخائيل: العلاقة بين العرب واليهود\ تربوت فهسكلاه تل أبيب 1970\ ص 11،39 و43
(7)كوهين أهارون: إسرائيل والعالم العربي \ القدس 1974 ص27.
(8) زهير غنايم: ص150-151.
(9)حسن أمين البعيني: جبل العرب 1685-1927. ص218 .
(10) الصغيّر: ص462.
(11)سلام الراسي: في الزوايا خبايا\ مؤسسة نوفل للنشر-بيروت\ص494.
(12) انسكلوبديا أريئيل: عم عوبد تل أبيب 1974\ صفحة 1755.

التعليقات