سعاد قرمان تتحدث عن شقيقها المناضل عبد الرحيم

لا زالت سعاد قرمان، المولودة في العام 1927، تحتفظُ بحيويتها وبذاكرةٍ حيّة، فيها الكثيرُ من التفاصيل الجميلة وأخرى توجِع، وفي لحظاتٍ كثيرة تخالُ هذه المرأة كتاب تاريخٍ تُقلِبُ صفحاته المثيرة الفصول والمثيرة للفضول.

سعاد قرمان تتحدث عن شقيقها المناضل عبد الرحيم

غادة أسعد

لا زالت سعاد قرمان، المولودة في العام 1927، تحتفظُ بحيويتها وبذاكرةٍ حيّة، فيها الكثيرُ من التفاصيل الجميلة وأخرى توجِع، وفي لحظاتٍ كثيرة تخالُ هذه المرأة كتاب تاريخٍ تُقلِبُ صفحاته المثيرة الفصول والمثيرة للفضول.
التقيتها في بيتِها الريفي الأثرّي بمعالمه وأركانه، تحيطه أزهارٌ جميلة وفيه رائحةُ الحلوى التي حضرتها السيّدة أم طاهر بنفسها وراحت تَصِفُ سِرّ صنيعها، فبدت، بارعةٌ في اختيارِ كلماتها الرقيقة، قالت: "اشعري أنّ البيت بيتك" وناولتني قطعة من كعك العيد نثرت عليها حبّات سمسم أراها لأول مرة في حياتي، أعجبني طعمها كما أعجبتني الحكايا التي سمعتها.
خلال لقاءٍ امتدّ لساعتيْن، تمنيْتُ لو كان البيتُ بيتي، والحكاية حكايتي، أو على الأقل أن أسكن برفقةِ سيدةِ البيت، التي تحتفظ ليس فقط بتاريخٍ لا يُنسى، وإنما بسحرٍ في اختيار اللوحات والصوّر العائلية، التي تملأ المكان حيوية، إنه قصرٌ يأخُذُك إلى الذكريات الجميلة.
سعاد قرمان، مِن أبرز الفلسطينيات اللواتي تعلمْن وعلمن أجيالاً، وهِي من بين الأدبيات اللواتي وقفن على المنابر، وشاركن في الكثير من الندوات التثقيفية، لكنها قبل وبعد وفي كل وقتٍ كانت تعشق هواء فلسطين وترابَ الأرض، وفي بيتِها في قرية إبطن لا تزالُ تُخاطِبُ أرضها ورائحةُ الغائبين والحاضرين قربها.
الطفولة والصِبا
"أمي هي ابريزا بدران، كانت تقيم في حيفا، لكن العائلة بالأصل من مدينة نابلس، تزوجها والدي الحاج عبد الرحمن قرمان، رحمه الله، فأنجبا: فاطمة شقيقتي البِكر (تقيم في رام الله)، ثم كمال يسكنُ في الطابق الثاني هنا في البيت، وجلال (توفي عندما كان يدرس الطب في مصر)، سميحة (تزوجت في الدامون)، عبد الرحيم قرمان (الذي توفي قبل عامٍ)، نبيل (مقيم في امريكا)، وبشرى (فنانة، توفيت)، هدى (تقيم في أمريكا). والدتي توفيت عام 1974، أما أبي فلم يستطع فراقها، وتوفي بعد عام".
"تتلمذتُ على يد المعلمة عصام الحسيني، التي غذتني بحُب الأدب والشعر، وأكملتُ الدراسة الثانوية في مدرسة راهبات الناصرة في حيفا. وتزوجتُ وأنا في السادسة عشرة من عمري من درويش طاهر قرمان ابن عمي، وكانت هدية شهر عسلي حفلٌ لأم كلثوم في القاهرة".
"درّستُ اللغة العربية والإنجليزية والدين الإسلامي في المدرسة الابتدائية في إبطن، واستكملت تعليمي، حيثُ سافرت في بعثة إلى مانشستر للتخصص في اللغة الإنجليزية، وفي سنة 1982 تابعت تعليميّ وحصلت على شهادة الـ B.A من كلية أورانيم".
وعن التدريس في ظل الاحتلال تؤكِد قرمان أنها تذكر تمامًا أيام صباها عندما كانت تدرّس الأطفال في بلدة إبطن، وتحّول احتفالية "استقلال الدولة"، إلى رسمٍ حُر أو درسٌ صامِت، لألها ينقُل الأطفال لعائلتهم، كلامٌ يُحرَف ويضرُ بعائلة المُدرِّسة.
وتذكرّني سعاد قرمان بعملها في الإذاعة التي انتهت بالتخلي عنها، بعد شعورها بمحاولة الإملاء عليها بما لا تريده، فتركته غير آسفة عليه.


قرمان: ابطن جنتنا على الأرض!عن سكناها في ابطن تحدثني: "كان عمي طاهر قرمان رحمه الله، هو عميد العائلة وكبيرهم، وقد انتقلوا من نابلس إلى حيفا، فكان عليهم أن يعملوا بكدٍ بعد وفاة والدهم، كان اخاهم عارف قرمان مقيمًا في حيفا آنذاك، فعمل عمي طاهر في دكانه، وتطور به الحال، ففتح دكانًا صغيرًا في حيفا، كان يبيع ساندويشات لعمال البناء في سكة الحديد، ثم تعلم القراءة والكتابة يافعًا، وتحسن حاله وزاد ماله".
أبي عبد الرؤوف قرمان كان يعمل أيضًا في مصنع وتحسنت حال الأشقاء بفضل التجارة التي امتدت إلى سوريا والعراق ومصر، وسكنّا في بيتٍ ملكٍ في منطقة "الهدار".
وبقينا في حيفا حتى الحرب العالمية الثانية، حيث انتقلنا إلى قرية إبطن، بعدما قام الأشقاء بشراء البيت والمنطقة التي كانت لصديق عائلة، عجز اضطُر لرهنها في سفرلك، فقامت عائلتي بسداد الدين وفك الرهن، فصارت مُلكنا، سكنا هُنا، لكنّ أبي ظلّ في حيفا، لكنه كان يُعرّج علينا مرة واحدة في الأسبوع".
وتشمُ السيدة أم طاهر رائحة الأرض، وحديقتها في الخارج، لتنتعش ذاكرتها من جديد بالماضي والحاضر: "كانت إبطن بالنسبة لنا جنة على الأرض، لم يكن هناك صنف فواكه إلا وانشقت به الأرض عندنا، كـالبرتقال اليافاوي الشموطي، التوت الأرضي، البوملي، الأناناس".
"لم يكن لدينا كهرباء، فتوجّه عمي إلى الشركة ليمدوه بالخطوط الكهربائية، كما حُفرت في هذه المزرعة ثلاثة حفر للآبار، فانتعش البشر والحجر هنا، واقيم مصنع للحلاوة، ومعصرة لزيت الزيتون، وجاروشة قمحٍ، ودكانٌ للوازم العمال، ومسجدٌ ومدرسة هي الأولى التي تأسست في قرية ابطن".

من بيروت إلى إبطن مع خالص الشوق!
وعن النكبة تقول قرمان: عام 1948، صدرت الأوامر بترحيلنا، وضعتُ كُتبي في كيسٍ كبير، ولوازم العائلة كلها في شاحنة، وفي سيارةٍ أخرى، تكدسنا أنا وأشقائي وأقاربي، دون أمي وأبي وعمي طاهر وزوجي درويش، وصلنا بيروت، وكان على العائلة في إبطن أن تتحدى الاحتلال. عُدنا بعد عدة أشهرٍ، لكنّ آخرين لم يعودوا، كان الظلم والاحتلال كبيرًا، لا يستوعبه البشر".
"ثم هدأت الحال بعد الاحتلال، صارت عائلتي تصدّر الخضراوات والفواكه والحليب واللحوم إلى حيفا، لتُباع في حي الألمانية، كان شقيقي المرحوم عبد الرحيم، قبل انغماسه في السياسة والنضال، مسؤولاً هُناك، ثم سافر دوننا إلى فرنسا".


- كيف كانت علاقتك بشقيقك عبد الرحيم ؟!كان عبد الرحيم، فارسًا، علمني ركوب الخيل، وكان "رويسًا" في الدبكة، لبقًا، ذكيًا وجميلاً، كان شقيقي وصديقي.
في التجارة عمل عبد الرحيم بعمل واجتهاد، قبل أن يمتهن السياسة، وينتقل إلى فرنسا، ليتواصل مع السفارة المصرية هناك، ولم نكن نعرف شيئًا عن تحركاته إلى أن فوجئنا بخبر سجنه.
عن عبد الرحيم البطل في عابد كرمان وعبد الرحيم الشقيق تقول سعاد، انهما مختلفان إلى حدٍ كبير: لقد تابعتُ مسلسل "عابد كرمان"، فصدمتني التشويهات التي طالت المسلسل، لقد صوّروا العائلة وكأنها تتحدث بالعبرية، فطوال الوقت يقحمون "شالوم" في حوارياتهم، كما أظهروا العائلة وكأنها عبارة عن بضع أشخاص، بينهم الأم (الفرنسية) والخالة وابنٌ وحيد، لكنّ الحقيقة أنّ عائلتنا كبيرة وعريقة، ونعتز باللغة العربية وبهويتنا، حتى ابنتي التي تعيش في أمريكا وأبناءها حافَظوا على لغةٍ عربية سليمة اعتزازًا منهم بقيمتها ومعانيها، لكنني بالمُجمل أحببتُ أداء الممثل السوري تيّم حسن، وبقدرته على تطويع الأدوار. أما بالنسبة للأحداث، فلا أستطيع أن أجزم بتفاصيل الأمكنة، عن بلجيكا مثلاً، أكدّ لنا شقيقي المرحوم عبد الرحيم أنه تدرّب في بلجيكا، وأنه انتقل إلى فرنسا، وعن مصنع الحلاوة، نعم تميّزنا بصناعة الحلاوة، وفعلاً كان صديقًا حميمًا وشريكًا للأديب توفيق فياض، المُقيم في تونس".

- هل أثّر اتهام إسرائيل لشقيقك ب"الجاسوسية" على العائلة؟!
"أثّر علينا بشكلٍ كبير، تمّ تسليط الضوء علينا بعدها، حاولوا عرقلة مسيرتنا، فمنذ أكثر من ثلاثين عامًا ونحنُ نلاحقهم للحصول على إذن بناء لمشروعٍ إسكاني، لكنهم ظلوا يماطلوننا، وحتى اليوم لم نستطع تحقيق حُلمنا الطويل. كما أتعبونا في مسألة الضرائب، التي كسرت ظهرنا ماديًا، حتى حررناها أخيرًا، وفوق ملاحقتنا هُنا، والمسيرة النضالية لشقيقي عبد الرحيم، لكنّ الأنظمة العربية لم تنصفه، ولم يجد له حضنٌ في وطنه الكبير، فسافر إلى اوروبا".
أما عائلة قرمان التي أصبحت "عالمية"، "بين امريكا واوروبا والضفة الغربية وهنا في الداخل، فُلنا فلسطينيون بالروح...أنا تسكنني فلسطين مدى الحياة.. هي في الفكر والروحِ، توجعني وأعبدها"، تقول سعاد.


نشاط ثقافيّ وحبٌ للأدب بين الأمس و"اليوم"بدأتُ الكتابة في صحيفة "اليوم"، كنتِ أكتب في ركن المرأة والأسرة. أنا لا حزبية، لا اؤمن بالسياسة، فهي لا تنسجم مع طبيعتي، واكتفيتُ بتحرير ركن المرأة في جريدة "اليوم". كنت أشارك في بعض الأيام الدراسية وكنتُ أتطوّع في القرى العربية، حيثُ كنتُ التقي النساء في الأندية، ونتحاور حول حقوق المرأة وواجباتها وتربية الأطفال والمسائل الاجتماعية والثقافية.
وفي الشعر واصلتُ القراءات والمشاركة في الندوات التثقيفية، فكنتُ التقي الشعراء الفلسطينيين الكبار وبينهم: المرحوم فوزي جريس عبد الله، والشاعر الصديق فهد أبو خضرة، والمرحوم العزيز راشد حسين، وبالطبع الأديب توفيق فياض، وكانت لي علاقة صداقة قوية بالشاعر المرحوم عصام عباسي، وغيرهم كُثر.

كيف تريْن التعاطي مع الثقافة في أيامنا ؟!
تسأل قرمان: ما هي الثقافة؟! الثقافة هو أن تكون مطلّع على آداب الشعوب وعلى العلوم المختلفة، وعلى حضارات الشعوب، لا أن نحيا بتقليدٍ أعمى، ونتجرأ في أمورٍ ليست في مكانها، ونكبُر فنشعُر أننا عُظماء، وهذا ما جرى، حيثُ أصبح المعلم يُهان في المدارس، بعد أن كاد أن يكون رسولاً".


* هل تشعرين بيأسٍ تجاه الحاضر؟أنا ضد اليأس، بل أؤمن في طبيعة كل إنسان، وانه بحسب معاملتنا للإنسان، يكبر ويتعامل هو، إذا عاملنا أبناءنا بالحسنى نكسبهم وإذا أردنا تعليم أبنائنا بواسطة الضرب، هذه التربية تسيء، وإذا ما فهمت العائلات طريقة التربية السليمة، ونحترم أنفسنا فسوف ينصلح حالنا. "لا يأس مع الحياة" ولكن يجب ان لا نتغاضى عن الأخطاء التي تحدث، بالمحبة والحزم.
كما أرى أنّ اختفاء قيمة احترام النفس، هي من أبرز الأسباب التي وضعتنا في هذه الخانة،  فعندما لا تحترم نفسك لن تجد من يحترمك، وما علينا فعله اليوم هو أن نقرأ ديننا عميقًا، لا أن نستتر خلفه، بل نأخذ التربية الدينية، والأخلاق والمعاملة في الدين، الدين ليس "أفيونًا للشعوب".

وهل تعولين على الجيل الجديد؟!
الجيل السابق لم يكن "تحفة"، كان شعبنا بسيطًا، فقيرًا، يسعى لتحصيل لقمة عيشه، وكُنا محتلين طوال الوقت من العثماني إلى البريطاني إلى الإسرائيلي. أما اليوم فأصبحنا ندرك أن العالم منفتحٌ، والحضارات مُتاحة أمامنا، ويمكننا أن نُربي أبناءنا باستعمال العقل والفكر والثقافة دون التخلي عن الهوية واللغة والأصالة.

مَن المسؤول عن التغيير؟!
"كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته". كُلُنا مسؤول، ونحنُ الفلسطينيون لدينا واجبٌ ومسؤولية كبيرة، نحنُ محتلون وإن لم نصُن كرامتنا وثقافتنا وتاريخنا، فسيضيع أبناؤنا، والبشائر للأسف نتابعها عبر صحفنا ومواقع الانترنت وحياتنا اليومية، أصبحَ الخوف مِن المجهول يقتلنا، بعد حياةٍ من الأخوة والعلاقات الإنسانية والصداقة التي ربطتنا ببعضنا البعض".
فماذا يبقى مِن الإنسان إن لم يحافظ على جذوره وعلى إنسانيته؟! هل نعود إلى حياةِ الغاب، والقتل بالأيدي والأسلحة واللسان؟!  فهل يُعقل، أنّ وجبة الفطور الأسبوعية، مجموعة صحف، ترشُقها أنباءٌ عن سلسلة من الحوادث، راح ضحيتها: قتلى، وغرقى، وآخرون عُنّفوا، وأهينت كرامتهم؟!".
الحياة أجمل
لم أكن أرغب في إنهاء اللقاء، كان الحديث مشوقًا كلما سمعت منه تزداد رغبتك بالمزيد، حاولت إقناعي بالرضوخ لدعوتها الكريمة بالتخلّي عن "الحمية" لكني قاومت بلطافة تشبهها. رافقتني حتى بوابة البيت، أوصتني أن نبقى على تواصل.
عند البوابة أغلقنا دائرة حديثنا الأخيرة  حديثنا عن فأنهته سعاد قرمان بالقول: " الحياة أجمل، وتستحقُ أن نعيشها ونغيّر فيها، ونضع بصمتنا السحرية مِن أجلِ أبنائنا وأحفادنا"!
 

التعليقات