"تراب الدامون أغلى من الذهب"

حبي واشتياقي لبلدي وتلبية لرغبة زوجي المرحوم منذ أربعة أعوام، أزور الدامون دائما، ليعلم بأن حبي للدامون وله يزرعني كياسمينة على أرض قريتنا التي هُجرنا منها

"تراب الدامون أغلى من الذهب"

تتقد نيران الشوق لأرض هُجر منها أصحابها في قرية الدامون، الواقعة بين مدخل قرية كابول وشمالي مدينة طمرة في الجليل، حيث اجتمع أهالي القرية في ذكرى النكبة الـثامنة والستين، لتنطق الذكرى أبلغ الكلمات عن الانتماء والإخلاص لتراب عنه هجروا.

جلست السيدة بديعة خوري، التي كانت في الثامنة من عمرها عندما تم تهجير القرية، بجانب عين الماء للقرية، الذي لا تزال آثاره واضحة حتى اليوم، وروت لـ'عرب 48' كيف جرحت قدماها 'على هذا العين كثرة المشي ذهابا وإيابا مع والدتي والأطفال لنملأ الماء'.

حب الوطن يحتاج إلى رعاية حتى يكبر وينمو في القلب

تسكن السيدة خوري اليوم في مدينة شفاعمرو، وتؤكد تواصلها مع قرية الدامون وأنها دائمًا ما تأتي مع أحفادها الذين يبلغ عددهم قرابة العشرين، وتؤمن بأن حب الوطن يحتاج إلى رعاية حتى يكبر وينمو في القلب، وقالت لـ'عرب 48' إنه 'إذا تجاهل الأجداد نقل أحداث النكبة للأحفاد، لماتت الذكرى ونسي الصغار الأرض، فحبي واشتياقي لبلدي وتلبية لرغبة زوجي المرحوم منذ أربعة أعوام، أزور الدامون دائما، ليعلم بأن حبي للدامون وله يزرعني كياسمينة على أرض قريتنا التي هُجرنا منها'.

وتأتي خوري مع العشرين حفيدًا بشكل دائم لتتفقد أرضها وبيتها الذي أنتُزع منها لتصبح لاجئة في وطنها، وتشير إلى محيط البيت معددة أماكن بيوت جيرانها أسماءهم، خاصة الفتيات أترابها اللواتي تقاسمن معًا ذكريات الطفولة واللعب، ومن بعدها الفاجعة.

كنا عائلة واحدة في الدامون  رغم اختلاف الأديان

وتستحضر خوري ذكريات طفولتها والحياة في قرية الدامون، وتقول بلهجة واثقة 'أذكر بيت العائلة بتفاصيله الدقيقة، وأكثر ما أذكره هم جيراني، لقد كان جيراني مسلمين وقد عشنا حياة سعيدة سويًا والتقينا بهم تقريبا عام 1978، لأول مرة بعد تهجيرنا، بكينا كثيرا، بكينا ألم ذكرى التهجير، بكينا شوقا لأرض سكنها الحب واحتضنتنا'.

وتابعت خوري وهي تحاول حبس دموعها، 'لقد هُجرنا وسكننا في مناطق وعرية وأقمنا لأيام في قرية الرامة وساجور، تذكرنا عندما خرجت النساء والأطفال وبقي الرجال في الدامون يحافظوا عليها ويحرسوها، الذاكرة تطرق أبواب الفكر دائما إلى أن تصبح ذكريات التهجير رفيقتي الدائمة'.

واختتمت حديثها مؤكدة 'كلماتي بسيطة ولكنها خارجة من قلب يحتفظ بكثير من الحب للوطن، ما يجعلني أشعر بأني عدت للدامون وأسير بسهلها وأعتلي عين الماء فيها، الدامون تعيش بداخلي، لهذا أثق بأن أحفادي أبناء القرى التي هُجرت لن ينسوا أرضنا وبيتنا، وسيعودون إليه إن لم نعد نحن'.

عثمان: 'سنرجع للدامون يوما لنسكن بها أبدا'

'ربيت أبنائي على أن الدامون هي أرضنا وقريتنا التي سُلبت منا، وسنرجع يوما اليها، هذا التواصل بيني وبين الأبناء والأحفاد يعزز من ذاكرة الوطن في جيل الشباب الفلسطيني'، تقول سميرة عثمان لـ'عرب 48'، التي هجرت مع عائلتها من القرية عام 1948 وتسكن اليوم مدينة طمرة المجاورة، ورافقها ابنها وحفيدها في ذكرى النكبة في القرية.

واستذكرت عثمان الأيام المشؤومة قائلة 'هُجرت عندما كنت في الحادية عشر من عمري، كانت القرية حينها مقسمة لحارات وأزقة، وكل مجموعة من العائلات تسكن إحدى الأزقة، وكان لكل حي باب خاص، عندما اجتاحت العصابات الصهيونية القرية كنت مع عدد من بنات القرية نلعب على أرض البيادر، سمعنا دوي انفجار، وعلمنا بعد ذلك أن العصابات ألقت قنبلة وقتلت بنتًا اسمها باسمة عياشي ووالدها، عندها، بدأ الناس بالهرب إلى المناطق الوعرية، وسكنت بين أشجار الزيتون في أراضي ساجور، والبعض منهم وصل إلى لبنان'.

نسيت طفلها من شدة الرعب

ووصفت عثمان ذكريات التهجير بأنها أكثر من قاسية ومرعبة، وروت لـ'عرب 48' أن الرعب دب في نفوس السكان 'بعد مقتل طفلة وأبيها وتهجير آخرين، لم يخرجوا من ديارهم لاعبين بل كانوا يبكون، كان الرعب يملأ قلوبهم، أذكر بأن امرأة نسيت طفلها في القرية، وقد سمعت فتاة من القرية صوت الطفل يبكي، فحملته وبدأت تركض به، رغم صراخ البعض طالبين منها تركه، لكنها رفضت وأعادته لأمه'.

وتابعت عثمان ذكرياتها 'أذكر عمي مصطفى الحسن عندما ربط فرشتين ببقرته كي يجد مكانا ينام به في المناطق الوعرية، هُجرت مع عائلتي، كنت وأخي سمير ابن الأربعة أشهر، وصلنا إلى طمرة وقضينا سبعة أيام مع أهالي طمرة في منطقة الصنيبعة، إلى أن تم تسليم طمرة وسكننا بعدها في بيوت من حديد سنوات طويلة'.

واختتمت عثمان مؤكدة على تمسكها بأرض الدامون، ونقل حب الأرض للأجيال القادمة، وقال إن 'البلاد غالية والتراب غالي، لهذا أردد دائما تراب الدامون أغلى من الذهب'.

'حب الوطن راسخ في الفكر هو ليس مجرد مشاعر موسمية'

'بلدنا الدامون ووطننا فلسطين وليس لبنان ولا سورية، نعم نحن أمة واحدة ولكن علينا أن نعي وندرك بأنه لا بد من العودة'، بهذا الإصرار بدأ محمد سعيد عياشي، المهجر من قرية الدامون ويسكن في قرية كابول حاليا، حديثه لـ'عرب 48'، مؤكدا على تقديره واعتزازه بالنساء والشباب الذين يرسخون حب الدامون في عقلهم قبل قلبهم ليعوا بأن العودة إليها حق وليس مجرد مشاعر وعاطفة موسمية.

عياشي، الذي هجر من أرضه في الـ15 من عمره، لا يزال يذكر، رغم سنين العمر الطويلة التي قضاها، أحداث النكبة التي عاشها، وقال لـ'عرب 48'، إنه 'تمكننا نحن شباب الدامون وبمساعدة شباب من القرى المجاورة بتحرير قرية البروة أكثر من ثلاث مرات، لكن بعد التحرير قام جيش الإنقاذ بتسليمها قبل أن يخرج من فلسطين، عند مهاجمة الدامون تقف المروحيات على الأراضي القريبة من القرية، والدي كان يملك فقط بندقية وعدد قليل من الرصاص ولا يمكن محاربة الطائرات برصاصة'.

'كنا نهرب الطعام للثوار في القرية'

وعن بدء التهجير يقول عياشي إن 'النساء والأطفال خرجوا من القرية حفاظا على حياتهم من العصابات الصهيونية، خاصة بعد أن قتلت عائلة عندما كانت تتناول طعام العشاء جراء إلقاء قنبلة عليها، وبقينا نحن الشباب والرجال في القرية كي نحرسها، وكانت النساء تجهز الطعام ونقوم نحن الشباب الصغار بتهريبه إلى قرية الدامون، إلى أن وصلت العصابات الصهيونية واحتلت القرية'.

وتابع عياشي: 'أول ما هدمت العصابات الصهيونية كان مسجد القرية، تم هدمه ومسحه عن الأرض ومن ثم هدموا القرية، وقاموا بزراعة الأشجار التي تم حرقها لاحقا إلى أن ظهرت بعض آثار القرية التي تشهد لنا بحقنا بملكية الأرض والعودة إليها'.

شباب اليوم مستعد للموت في سبيل الأرض

واختتم: 'شباب اليوم واع ومستعد للموت مقابل ألا يتنازل عن شبر أرض من أرضه، لقد تهجّر وجهاء البلد إلى لبنان وسورية، أذكر جيراني محمد مهاوش وابن عمه ياسين، وخليل أسعد، فهم يتألمون أكثر منا، هم يتمنون العودة، وأنا في ركوعي وسجودي أسأل الله أن يعيدنا إليها، لأن فلسطين وطننا والدامون بلدنا وليست سورية أو لبنان هما الوطن'.

التعليقات