70 عاما على النكبة: معارك الجيوش العربية في حرب 1948(5/19)

كانت فرائص بن غوريون، رئيس الوكالة الصهيونية، ترتعد خوفا من سيطرة العرب على القدس، والقضاء على حلم أن تكون عاصمة الدولة اليهودية المزعومة، ولذلك كانت أوامره تقضي بضرورة فتح الطريق من تل أبيب إليها مهما كلّف الثمن

70 عاما على النكبة: معارك الجيوش العربية في حرب 1948(5/19)

مقاتلون عرب عام النكبة

الجزء الخامس: معارك الجيش الأردني عام ١٩٤٨ حتى الهدنة الأولى


كانت فرائص بن غوريون، رئيس الوكالة الصهيونية، ترتعد خوفا من سيطرة العرب على القدس، والقضاء على حلم أن تكون عاصمة الدولة اليهودية المزعومة، ولذلك كانت أوامره تقضي بضرورة فتح الطريق من تل أبيب إليها مهما كلّف الثمن، ومهما شُرِّد من العرب نتيجة لذلك، فكانت حملة "نحشون" في بداية شهر نيسان/ إبريل ١٩٤٨، ثم اتبعتها حملات أخرى مثل حملة "هاريئيل" في الشهر نفسه، وحملة "مكابي" في بدايات أيار/ مايو ١٩٤٨. خلال هذه الحملات قامت قوات "الهاغاناه" باحتلال قرى عربية، وطرد وتشريد عدد كبير من سكان هذه القرى (ذكرت هذه الحملات بالتفصيل، في حلقات "صمود القدس الشريف ١٩٤٨).

استمرارا لهذه الحملات و"هوس" بن غوريون خوفا على القدس، حدثت أكبر وأشد المعارك التي شهدتها حرب ٤٨، عندما اصطدمت الهاغاناه بكتائب الفيلق العربي (الجيش الأردني فيما بعد) والمتطوعين العرب الذين رافقوا الفيلق، في محاولة من بن غوريون للسيطرة على كامل القدس والطرق والمراكز العسكرية الحساسة في منطقتها، كاللطرون وباب الواد، وجبل الرادار (تلة الرادار صهيونيا). لكن أغلب هذه المحاولات باءت بالفشل وظل الجيش الأردني صامدا في هذه المناطق حتى حرب حزيران ١٩٦٧.

الملك عبد الله وتوسيع المملكة

كان الملك عبد الله بن الحسين يحلم بتوسيع مملكته بحيث تكون على ضفتي نهر الاْردن، ولذلك كان ينظر إلى فلسطين بعين صقر يرصد فريسته، وينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض عليها. مشروعه الحقيقي، لم يكن يتضمن فلسطين أو أجزاء منها فقط، بل كان دولة سورية الكبرى والتي تضم سورية ولبنان وفلسطين، إضافة إلى إمارة شرق الاْردن، حيث أنه كان يرغب في عرش دمشق الذي أخذته فرنسا من العائلة الهاشمية تنفيذا لاتفاقاتها مع بريطانيا بتقسيم المنطقة العربية بينهما. كذلك كان شأن جون چلوب باشا، رئيس أركان الجيش الأردني، والذي كان يرى في هذا الجيش نواة لجيش أكبر من أجل حماية سورية الكبرى.

تحقيقا لذلك، وقبل صدور قرار التقسيم، ابتدأ الملك عبد الله بإجراء لقاءات مع مندوبين من الوكالة الصهيونية، فقد التقى عام ١٩٤٦ بإلياهو ساسون، صديق رئيس وزراء مصر في ذلك الحين إسماعيل صدقي باشا. التقاه في الشونة في الاْردن، بعد أن التقى هذا بصدقي باشا في الإسكندرية. وأبلغ ساسون في هذا اللقاء الملك بموافقة رئيس الوزراء المصري على فكرة تقسيم فلسطين، ولكن الملك الأردني قال إن المهم هي موافقة الملك فاروق وليس صدقي باشا. في نفس اللقاء طلب الملك عبد الله مساعدة مالية بقيمة ٣٥ ألف جنيه من الوكالة الصهيونية، ولكن هذا الطلب الذي وصل إلى بن غوريون، وذلك بعد استلامه تقرير ساسون في ١٢ آب/ أغسطس ١٩٤٦، لم ينفذ.

عقد إلياهو ساسون وعزرا دانون عدة لقاءات مع ملك الاْردن، بل إن ساسون رتب له لقاءات مع قيادات صهيونية اخرى، أمثال موشي شريت، الذي كان يتولى منصب رئيس اللجنة السياسية للوكالة الصهيونية، والرجل الثاني بعد رئيسها، وحتى أن الملك عبد الله التقى مع چولدا مئير في ١٧ تشرين ثانٍ/ نوڤمبر ١٩٤٧ - أي قبل أقل من أسبوعين من صدور قرار التقسيم- ولكن الملك عبد الله شعر بالإهانة بسبب رتبتها العسكرية المتدنية، فقد توقع قدوم بن غوريون أو موشي شريت، على الأقل، وهذا الأخير كان منهمكا في الأمم المتحدة من أجل تبني هذه المؤسسة لتوصيات لجنة "أونسكوب" بما يخص تقسيم فلسطين.

كل هذه اللقاءات أدت إلى اتفاق مسبق بين الملك عبد الله والحركة الصهيونية، وكان جوهر الاتفاق يقضي بأن تقوم الدولة اليهودية على الجزء المخصص لليهود حسب قرار التقسيم، بينما تسيطر الإمارة الهاشمية على الجزء المخصص للعرب، وكفى المؤمنين شر القتال، فبذلك يصبح الكيان الصهيوني معفيا من الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني بإقامة دولته (الأمر الذي يناقض فكرة "هرتسل" بأن لا شعب في أرض فلسطين)، أما الملك الأردني فيحول المملكة الأردنية إلى كيان أوسع وأكبر، يمتد على جانبي نهر الاْردن. كل هذا يؤكده المؤرخون الصهاينة، خاصة آڤي شلايم المؤرخ اليهودي المعروف، في كتابه "مؤامرة وراء نهر الاْردن، الملك عبد الله والحركة الصهيونية وتقسيم فلسطين".

قوام الجيش الأردني الذي دخل فلسطين

دخل الجيش الأردني إلى فلسطين تماما في بداية ١٥ أيار/ مايو ١٩٤٨، إذ يقال إن الملك عبد الله بن الحسين، وقف بنفسه عند جسر اللنبي من الناحية الشرقية وعندما وصلت ساعة الصفر، أي ٠٠:٠٠، استل مسدسه وأطلق رصاصة في الهواء معلنا عن بداية التدخل الأردني في حرب فلسطين. كان الجنود الأردنيون متحمسين بشكل كبير للجهاد والالتحام مع العدو الصهيوني الغاشم، ولكن خطط "چلوب باشا" قائد الجيش، كانت تهدف إلى غير ذلك، إذ أنه أمر بانتشار الجيش في مناطق عربية، تعتبر جزءًا من الدولة العربية حسب قرار التقسيم، وذلك لمنع الاحتكاك مع الهاغاناه بمعارك كبيرة لا طائل لجيشه فيها.

تمركزت قيادة الجيش الأردني في رام الله، أما اللواء الأول فتمركزت كتيبته الأولى في النبي صموئيل وبدو إلى الشمال الغربي من القدس، وكتيبته الثالثة في رام الله. الكتيبة الثانية من اللواء الثالث حطت في منطقة يالو والتلال المشرفة على باب الواد، والكتيبة الرابعة من نفس اللواء في اللطرون والتلال المشرفة ما بين القدس وتل أبيب. الكتيبة الخامسة من اللواء الرابع تمركزت في رام الله، والكتيبة السادسة من اللواء الرابع أيضا تمركزت في أريحا- الجفتلك-الخان الأحمر-داميا. أما المدفعية فتمركزت البطارية الأولى في النبي صموئيل لمساندة اللواء الأول والرابع، والبطارية الثانية في بيت نوبا مساندة للواء الثالث. أما المتطوعون، وكان أكثرهم من عشيرتي الحويطات وبني صخر، فقد توزعوا في اللد والرملة، ومنطقة اللطرون وباب الواد، والطور في القدس، وكانوا مجهزين بنفس أسلحة الجيش الأردني.

كان عدد الجنود والضباط الأردنيين مجتمعين يعادل ٧٥٠٠، يضاف إليهم أكثر من ١٢٠٠ متطوعا. أما الأسلحة فكانت على النحو التالي: ٧٢ مدرعة ثقيلة عليها مدفع عيار رطلين ورشاشان، و ٥٢ مدرعة كشافة عليها رشاشان، و ٢٤ مدفعا عيار ٢٥ رطلا، و ٣٨ مدفعا عيار ٦ أرطال، و ٤٠ مدفع هاون عيار ٣ انش، و ٢٩ مدفعا عيار ٢ انش، و ٣٣٤ مدفع رشاش من نوع برن، و ٣٥ مدفع رشاش من نوع هوشكس، و ٦٦٨ طومسون، و ٧٣٥٩ بندقية.

مما يجدر ذكره هنا أن أغلبية القيادات العليا للجيش كانت من البريطانيين، ما عدا القائمقام صدقي الجندي قائد اللواء الرابع، والقائد حابس المجالي قائد الكتيبة الرابعة، وَوكيل القائد عَبد الله التل قائد الكتيبة السادسة، ووكيل القائد عبد الحليم الساكت قائد الكتيبة الخامسة.

صعوبة وضع العرب في القدس عشية ١٥ أيار/ مايو ١٩٤٨

اتفقت بريطانيا سرا مع الهاغاناه بأن تستلم هذه مواقع الجيش البريطاني بعد انسحابه من مدينة القدس، ولذلك تم تبليغها بمواعيد ترك كل منطقة يسيطر عليها هذا الجيش، ومن أجل تنفيذ الاتفاق قامت الهاغاناه بالتخطيط لحملة عسكرية كبيرة للسيطرة على تلك المواقع، وأطلقت عليها حملة "كلشون"، أي المذراة باللغة العربية، وسميت بذلك لأنها كانت تقضي بالهجوم من ثلاثة محاور مختلفة: المحور الشمالي للمدينة، وتقوم فيه القوات الصهيونية باحتلال حي الشيخ جراح، والحي الأميركي، ومدرسة الشرطة. المحور في مركز المدينة للسيطرة على موقع "ڤينچراد"، ودير نوتردام، وعمارة جمعية الشبان المسيحية، وفندق الملك داوود. أما المحور الثالث جنوبي المدينة فكان يهدف إلى احتلال حي طلبية، والحي الألماني، والحي اليوناني، وحي أبو طور، والبقعة، ومعسكري الجيش البريطاني: العلمين واللنبي، ومحطة القطار، وغيرها.

في نفس الوقت وضعت الهاغاناه خطة عسكرية اخرى لاحتلال مواقع الحراسة البريطانية في البلدة القديمة، وسميت هذه الحملة بحملة "شفيفون"، أي الحية السامة باللغة العربية، وكانت أهداف العملية هي: احتلال مواقع الجيش البريطاني أولا، ثم تقوم القوة المهاجمة باحتلال مواقع هامة أخرى في البلدة القديمة للضغط على العرب، ثم تتم عملية تفجير بيوت عربية بالقرب من الحي اليهودي داخل البلدة القديمة، ليتحول الفراغ الناتج بسبب تفجير البيوت إلى منطقة قتل لكل عربي يقترب منها.

انطلقت حملة "كلشون" في ١٤ أيار/ مايو ١٩٤٨، وخلال ساعات معدودة سيطرت الهاغاناه على مواقع بريطانية إستيراتيجية، فاحتلت "ڤينچراد"، ومحطة البريد المركزية، والمسكوبية، وفندق الملك داوود، وبناية جمعية الشبان المسيحية في مركز المدينة، وتم احتلال دير "نوتردام" الذي يطل على المنطقة الشمالية الغربية للقدس القديمة، وكذلك الحي الألماني، والحي اليوناني، وبقعة، ومعسكر أللنبي في المنطقة الجنوبية، وحي الشيخ جراح (احتلته الإتسل)، ومدرسة الشرطة في المنطقة الشمالية للمدينة. في ليلة ١٧-١٨ أيار/ مايو ١٩٤٨ احتلت الهاغاناه حي أبو طور، ومحطة القطار والتي تقع جنوب غربي البلدة القديمة.

أما حملة "شفيفون"، فتم خلالها السيطرة على مواقع الجيش البريطاني في البلدة القديمة، ولكن احتلال مستشفى "بيكور حوليم" القديم وحي "زكينيم" داخل البلدة القديمة، لم يتحققا بسبب المقاومة العربية الشديدة، لمقاتلين عرب محليين ومتطوعين. كما لم تنجح خطة تفجير بيوت عربية في المنطقة لنفس السبب، وقلة الجند الصهاينة لانشغالهم في مناطق أخرى.

في اليوم التالي أعلن بن غوريون أمام حكومته الفتية، متباهيًا: "سيطرنا على كل القدس تقريبا، ما عدا أوچوستا ڤكتوريا والبلدة القديمة، التي تحاصرها قواتنا من كل الجهات".

الجيش الأردني يهب لنجدة القدس

ما أن استتب الأمر للهاغاناه بعد احتلالها المواقع الإستيراتيجية في القدس، حتى وجهت قوتها لمهاجمة أبواب البلدة القديمة من أجل اقتحام الحي العربي، الذي ضاق بكثرة اللاجئين من الأحياء العربية في القدس الجديدة حتى بلغ عددهم أكثر من ستين ألفا. هاجمت قوات الهاغاناه باب العامود وباب الخليل وباب النبي داوود والباب الجديد.

طوال ثلاث ليالٍ والمناضلون العرب من جنود الجهاد المقدس وشرطة القدس وجيش الإنقاذ يدافعون بكل قوة لدحر المعتدين، الذين صاروا يبثون الحرب النفسية، ويدعون أن عدد جنودهم في البلدة القديمة يزيد عن الخمسة عشر ألف جندي، مقابل ١٥٠٠ مناضل عربي حاربوا دفاعا عن القدس وكرامتها، ببسالة منقطعة النظير، بقيادة المجاهد أحمد حلمي باشا، والقائد خالد الحسيني، والرئيس فاضل عبد الله، رغم النقص في الأسلحة الثقيلة والذخيرة الحية، وصمدوا رغم سوء التدريب العسكري، والفوضى التي دبت في صفوف العرب نتيجة هجمات الهاغاناه القوية.

كان جون چلوب باشا قائد الجيش الأردني ضد التدخل في القدس، فهو لا يريد مواجهة مباشرة مع الصهاينة، وكان قد وزع الجيش بحيث يسيطر على مناطق الدولة العربية في وسط البلاد، حسب ما نص عليه قرار التقسيم، ولأن القدس مدوّلة حسب القرار الجائر، ولأن المندوب السامي كان قد أعلن هدنة من طرف واحد قبل انسحاب بريطانيا، والتي خرقها اليهود في حملاتهم العسكرية المذكورة أعلاه، فقد قرر چلوب باشا القفز عن القدس وعدم توريط الجيش الأردني بمعارك طاحنة.

ولكن وفودا من أهالي القدس، وصلت عمان، وأطلعت الملك عبد الله على خطورة الموقف. وكان آخر الوفود يوم ١٧ أيار/ مايو ١٩٤٨، وكان على رأسه الدكتور عزت طنوس، وذكّر الوفد الملك بالمسجد الأقصى، ومسجد الصخرة، وكنيسة القيامة، وقبر والده الشريف حسين، فما كان من الملك إلا أن أصدر أوامره، دون الأخذ برأي چلوب باشا، بأن يتوجه الجيش فورا إلى إنقاذ البلدة القديمة من اليهود.

كان الملك يعتقد بأن سرية واحدة ممكن أن تكفي لهذه المهمة، ولكنه اقتنع أخيرا بالرأي القائل بضرورة إرسال كتيبة كاملة إلى المعركة في القدس، وكان ذلك من نصيب الكتيبة السادسة من اللواء الثالث، وكانت هذه الكتيبة بقيادة وكيل القائد عبد الله التل، الذي دخل بكتيبته إلى القدس في ليلة ١٧-١٨ أيار/ مايو ١٩٤٨.

معارك حامية الوطيس في القدس

كنت قد تناولت معركة الجيش الأردني في القدس الشريف، وسقوط الحي اليهودي، بتوسع، في الحلقة ١٨/٤ تحت عنوان "صمود القدس الشريف ١٩٤٨"، ولكن سأتطرق هنا إليها باختصار.

توجهت الكتيبة السادسة إلى القدس لإنقاذها، ودخلتها في ظهر يوم ١٩ أيار/ مايو ١٩٤٨، وأرسلت القيادة سرية مشاة من اللواء الرابع فاحتلت مستعمرة "عطاروت"، ومستعمرة النبي يعقوب، وتحركت باقي سرايا الكتيبة الرابعة فاحتلت المواقع الأمامية بين اللطرون والتلال الشرقية حتى قرية يالو، كما قامت الكتيبة الثانية بالسيطرة على حي الشيخ جراح وطرد مقاتلي "الإيتسل" منه بعد معركة قتلوا وجرحوا فيها عددا من الصهاينة، وكان ذلك في صباح ١٩ أيار/ مايو ١٩٤٨. في نفس اليوم حاول الجيش الأردني احتلال منطقة جبل المشارف ("هار هتسوفيم") في المنطقة الشرقية من القدس الغربية، وحاول احتلال حي "سنهدرية" ومنطقة بوابة "ماندلباوم" إلا أن هذه المحاولات لم تتكلل بالنجاح، وخسر الجيش ثلاث مدرعات في معركة "مندلباوم"، واعتبر اليهود هذا انتصارا كبيرا.

نصبت الكتيبة السادسة ثلاثة مدافع عيار ستة أرطال في البلدة القديمة، وهي مدفعية ضد الدبابات معدة لضرب البيوت في الحي اليهودي، ونصبت أربعة مدافع "هاوزر" من عيار ٣.٧ انش، على جبل الزيتون. صارت المدفعية الأردنية تقصف الحي اليهودي في البلدة القديمة بكثافة، وفِي نفس الوقت وجههت مدافعها نحو القدس الغربية وصارت تقصف الأحياء اليهودية حتى أنها أصابت أغلب البيوت هناك تقريبا.

في ٢٠ أيار/ مايو ١٩٤٨، حاولت الكتيبة السادسة الدخول إلى الحي اليهودي من جهة باب المغاربة، وشارك في الهجوم متطوعون عرب وأردنيون ومقاتلو الجهاد المقدس، فقامت الهاغاناه بالمقابل بهجوم مضاد من ناحية باب الخليل والباب الجديد، وجرت معارك حامية الوطيس، قام خلالها كل طرف بقصف شديد للطرف الآخر، ولكن المعركة التي استمرت حتى صباح اليوم التالي، انتصر فيها العرب، وأجلوا اليهود من المواقع التي احتلوها في حي الأرمن، وسيطروا على منطقة السور المسيطرة على باب الخليل، لمنع اليهود من إعادة محاولة الهجوم من ناحيته.

تكررت محاولات اليهود لاقتحام القدس القديمة، من أجل فك الحصار عن الحي اليهودي المحاصر، فكانت هجمةً من جهة باب الخليل في ٢١ أيار/ مايو ١٩٤٨، ولكن أربع سرايا من الجيش الأردني بقيادة الوكيل مصطفى الشويكي، والملازم حسين المفلح، والمناضل عثمان بدران، والملازم أحمد الديك، وسرية من الجهاد المقدس بقيادة الرئيس بركات طراد، قامت بهجوم معاكس على اليهود، وتم دحرهم عند المساء.

في اليوم التالي انتقلت المعارك إلى الباب الجديد، اذ تكررت محاولة الهاغاناه عن طريق لواء "هاريئيل"، وكان القتال شديدا إلى درجة أن الجيش العربي كان في مأزق حتى أحضر المدرعات والمدافع، وصار يقصف اليهود بقوة مما اضطرهم إلى الانسحاب، رغم قدوم نجدات مع مدافع رشاشة ومصفحات.

وفِي نفس اليوم أعطى القائد عبد الله التل الأوامر بالهجوم على قوات الهاغاناه في الحي اليهودي في البلدة القديمة حتى دحرها، ولذلك أحضر الجيش إلى البلدة مدرعتين إضافيتين، وابتدأ القصف الممنهج من أجل تدمير كل من تسول له نفسه بالحرب من اليهود.

سقوط الحي اليهودي في البلدة القديمة

في الصباح الباكر ليوم ٢٢ أيار/ مايو ١٩٤٨، تحركت الكتيبة الثالثة باتجاه القدس، وقامت بمهاجمة عمارة "نوتردام" بغرض إرجاعها من أيدي الهاغاناه، وكان هجوم المشاة مدعوما بقوة مدرعات، وابتدأت القذائف تضرب العمارة بكل قوة، ولكنها كانت تنفجر على جدرانها بدون أن تحدث ضررا يذكر، واستمر الهجوم حتى آخر النهار بدون أن يحقق أهدافه، مما اضطر الجيش الأردني إلى الانسحاب، بعد تدمير إحدى مدرعاته. في اليوم التالي جربت الكتيبة الثالثة أن تخترق الدفاعات الصهيونية مرة أخرى بواسطة قصف مدفعي شديد، بواسطة مدافع رطلين وستة أرطال، ولكنها لم تؤثر في المبنى، فقام الأردنيون بإحضار مدفع عيار ٢٥ رطلا، وصار يقصف بشدة ويهز كل أرجاء العمارة.

استعملت الهاغاناه مدافع "فيات" لاعتراض المدرعات الأردنية، مما أدى إلى تدمير مدرعتين، ولكن ذلك لم يمنع قوة من المشاة أن تنجح في اختراق الطابق الأرضي للعمارة، مما أدى إلى معركة ضروس وجها لوجه ومن غرفة إلى أخرى، ولكن قوات المشاة الأخرى لم تستطع أن تدعم القوة الأمامية بسبب النيران الشديدة التي أطلقتها الهاغاناه عليهم، مما أدى بالقائد غازي الحربي إلى سحب قوة المشاة إلى خارج المبنى، ورغم استمرار المعارك خارج المبنى حتى حلول الظلمة، إلا أن الجيش الأردني لم يحسم المعركة لصالحه، مما اضطره إلى الانسحاب حتى باب نابلس، وهناك أعطى قائد الجيش چلوب أمرا بعدم إعادة الهجوم مرة أخرى، معلنا بذلك عن فشل محاولة السيطرة على عمارة "النوتردام"، وظل هذا الوضع على حاله حتى نهاية الحرب.

في يوم ٢٤ أيار/ مايو ١٩٤٨، وعند الساعة الرابعة بعد الظهر، حاولت فرقة من "البلماح" (هاريئيل) أن تخترق البلدة القديمة مرة أخرى، ولكن الجيش العربي أعمل بهم القتل بعد أن دعاهم يقتربون من السور ليصبحوا في مرمى القنابل اليدوية، فقتل منهم ما يزيد عن الستين، وانتهى الهجوم عند العاشرة ليلا.

في الأيام ٢٦ و ٢٧ أيار/ مايو ١٩٤٨، ابتدأت فرقة التدمير العربية بقيادة المجاهد فوزي القطب، وفرقة بقيادة الملازم أحمد الديك، بنسف المنازل اليهودية التي اتخذت أبراجا واستحكامات، تمهيدا لتقدم المشاة وإلا كانت الكتيبة السادسة ستخسر نصف جنودها، كما قدر قاؤدها عبد الله التل. شيئا فشيئا بدأ الرعب يسيطر على قلوب اليهود من مقاتلين ومدنيين داخل الحي، إذ أن تفجير البيوت يقضي على من فيها حتى المدنيين منهم، وكان الجند المشاة يتقدمون خلف فرق التدمير، ويطهرون البيوت والمحال المنسوفة من أية مقاومين.

في نفس الوقت، ابتدأت المدافع، أو بالأحرى استمرت بقصفها الشديد والعشوائي للحي، واستعملت المدافع الرشاشة أيضا، مما أدى إلى نشر الموت في كل مكان في أزقة الحي اليهودي، ودمرت المدفعية أغلب الاستحكامات الصهيونية. مع نهاية يوم ٢٦ أيار/ مايو، أدخل الجيش الأردني ثلاث مدرعات إلى داخل البلدة القديمة، اثنتين من باب النبي داوود، وواحدة من باب الخليل، وكانت هذه المرة الأولى تاريخيا والتي تدخل فيها المدرعات إلى البلدة القديمة.

في يوم الجمعة ٢٧ أيار/ مايو ١٩٤٨، انكمشت الخطوط الدفاعية الصهيونية، فلجأوا إلى الكنيس الكبير في البلدة القديمة (هورڤات يهودا هحسيد، ويسميه العرب قدس الاقداس)، وتقدمت قوات الضابط محمد مرسي إلى درجة ان اليهود أصبحوا محاصرين تماما، وليس لهم إلا الموت أو الاستسلام، إذ أن وكيل القائد عبد الله التل أنذرهم بأن يخلوا الكنيس الكبير حتى الساعة الرابعة بعد الظهر، وإلا هدمه على رؤوسهم. كررت القوات الأردنية دعوة المحاربين اليهود إلى إخلاء الكنيس بواسطة مكبرات الصوت، ولكنهم رفضوا وصاروا يطلقون الرصاص من داخله، ولما انتهى الموعد المحدد، تقدمت قوة التدمير فنسفته على من فيه.

استمر قصف الحي اليهودي بشكل متقطع طوال الليل، واستمر الجنود المشاة والقوات التدميرية بإحكام حصارهم لليهود، وما أن اصبح الصباح حتى تقدم رجلا دين يهوديان، رافعين العلم الأبيض إشارة إلى الاستسلام، وخلال ساعات تمت عملية التسليم بالشروط التي وضعها القائد الأردني، وتقضي بإلقاء سلاح المحاربين اليهود، وأخذهم أسرى حرب، والسماح للشيوخ والنساء والأطفال والمجروحين بشكل خطير للخروج من الحي، وسيطرة الجيش العربي على الأحياء اليهودية في القدس.

معارك جبل الرادار

يسميه العرب جبل بطن السيدة، وهو جبل أو تلة ارتفاعها حوالي ٨٨٠ مترا عن سطح البحر، وسمي بجبل الرادار بسبب أن الجيش البريطاني نصب عليه محطة للرادار خلال فترة الانتداب. يشرف التل على طريق القدس - تل أبيب، ويبعد عن مستعمرة "هحميشا" مسافة خمسة كيلومترات، وكذلك الأمر عن قرية "عنڤيم" الصهيونية.

في ١١ أيار/ مايو ١٩٤٨، ترك الجيش البريطاني التلة بعد أن أزال الرادار منها، فقام العرب بالصعود إليها والسيطرة عليها، ولكن الكتيبة الرابعة للبلماح التابعة للواء "هاريئيل"، قامت بالهجوم على التلة في ليلة ١٢-١٣ أيار/ مايو ١٩٤٨، واحتلتها بعد قتال استمر لمدة عشر ساعات، وسلمتها لكتيبة من لواء "عتسيوني" للدفاع عنها وعن المستعمرات القريبة، واستعمالها للهجوم على القرى العربية القريبة. كان هذا الاحتلال يمنع الجيش الأردني من السيطرة على طريق تل أبيب - القدس، والتلال المحيطة بالمدينة المقدسة، ولأن هذه التلة تقع ضمن الدولة العربية حسب قرار التقسيم، ولذلك قررت القيادة أن تحتل التلة وتطرد القوات الصهيونية منها.

في فجر ٢٦ أيار/ مايو ١٩٤٨، تحركت الكتيبة الأردنية الأولى من أجل احتلال التلة، ابتدأ الهجوم بقصف مدفعي من تلال النبي صموئيل، ثم تقدمت المدرعات وصارت تقصف الكتيبة الصهيونية بالرشاشات، ثم تقدم المشاة خلف المدرعات، وصاروا يطلقون النار من أسلحتهم الخفيفة. نتيجة للهجوم الكاسح ووقوع عدة قتلى من القوة الصهيونية ومنهم قائد الفرقة المسيطرة على الموقع، ابتدأ الصهاينة بالانسحاب، وخلال فترة قصيرة احتلت الكتيبة الأردنية التل وتمركزت فيه. استمرت المعركة أقل من ساعة، وكان عدد شهداء الجيش العربي خمسة، بينما خسر اليهود ثلاثين قتيلا وعشرين جريحا.

كان باستطاعة الجيش الأردني أن يستمر في حملته، وأن يحتل المستعمرتين الصهيونيتين القريبتين: "هحميشا" و"عنڤيم"، ولكن قائد الكتيبة الأولى "بلاكدن" البريطاني، رفض ذلك، مما عرض الكتيبة إلى هجومين انطلقا من مستعمرة "هحميشا"، الأول في ليلة ٢٦-٢٧ أيار/ مايو ١٩٤٨، بواسطة لواء "هاريئيل" وكتيبة "عتسيوني"، ولما فشل هذا الهجوم، أطلقت الهاغاناه حملة أخرى في الأول من حزيران/ يونيو ١٩٤٨، بواسطة لواء "هاريئيل" وكتيبة من "چڤعاتي" ولكن هذا الهجوم فشل أيضا، وبلغت خسائر اليهود في هذين الهجومين عشرات القتلى وعشرات الجرحى.

الجيش الأردني يتمركز في منطقة باب الواد

باب الواد أو وادي علي، هو ممر يربط سهل فلسطين الغربي بجبال القدس، وسمي بالباب لأن موقعه يشكل بوابة للدخول إلى القدس، والطرق اليه متشعبة من وإلى القدس والرملة وبيت جبرين ورام الله وغزة وعرطوف، وتقع بقربه القرى عمواس في المنطقة الغربية، واللطرون في المنطقة الجنوبية الغربية. وكان بجانبها مركز الشرطة والسجن والدير، وتل الجزر وأبو شوشة إلى الجنوب من الوادي، وبيت نويا ويالو في المنطقة الشرقية، ودير أيوب الموجودة في المنطقة الجنوبية الشرقية للواد، وتطل على طريق اللد والرملة.

كانت قرية اللطرون ويالو تقفان كالقلعة التي تطل على الوادي المؤدي إلى القدس، وكانت الهضاب المحيطة بقريتي بيت جيز وأبو شوشة تشكل حماية طبيعية لقرية اللطرون.

كل هذا أعطى هذه المنطقة أهمية إستراتيجية كبيرة، جعلت جيش الإنقاذ يسيطر عليها قبل دخول الجيوش العربية إلى فلسطين، ولكنه انسحب منها عشية ١٥ أيار/ مايو ١٩٤٨، بدون أن يسلمها للجيش الأردني، الذي كان يتحرك ببطء نحو الغرب للسيطرة على الطريق إلى القدس. كانت هناك خطورة كبيرة أن تقوم الهاغاناه بالسيطرة على منطقة اللطرون الحساسة، ولكن مخابراتها لم تعرف أن مجاهدين فلسطينيين فقط يسيطرون على هذه المنطقة الحساسة، ولذلك لم يجربوا احتلالها. ويرجح البعض ذلك بسبب ضعف إمكانياتهم في تلك الأيام والتي لم تؤهلهم لأي عملية عسكرية كبيرة للسيطرة على اللطرون.

في يوم ١٧ أيار/ مايو ١٩٤٨، تقدمت الكتيبة الرابعة من الجيش الأردني بقيادة المقدم حابس المجالي إلى اللطرون، واحتلت مواقع دفاعية من عمواس في الغرب حتى يالو شرقا، وتوزعت قواتها بحيث نصبت المدفعية المضادة للدبابات في المنطقة المطلة على الشارع الرئيسي، ومن ثم راجمتين عيار ٣ إنش، ومن خلف المدفعية اتخذت قواة المشاة مواقعها، وتم تحصين مركز شرطة اللطرون ووضع الأسلاك الشائكة من حوله، ونصبت المدافع الرشاشة على البرج الغربي والشرقي لمركز الشرطة، ووضعت المدفعية المدفعية إلى الغرب من عمواس. قامت قيادة الكتيبة بضم متطوعين أردنيين إليها، بحيث يغطوا المنطقة جنوبي الشارع الرئيسي.

بعد أسبوع تقريبا، أرسلت قيادة الجيش الكتيبة الثانية أيضا إلى منطقة اللطرون وفِي ٢٣-٢٤ أيار/ مايو ١٩٤٨، اتخذت مواقعها حتى قرية يالو، مما أعطى إمكانية أكبر للكتيبة الرابعة من أجل تكثيف دفاعاتها حول عمواس واللطرون. وبهذا وصل عدد جنود الجيش العربي في منطقة اللطرون إلى ٢٠٠٠ جندي وضابط، وذلك يشمل المتطوعين العرب والأردنيين. أما بيان الأسلحة فتألف من ١٦ راجمة عيار ٣ إنش، و ٨ مدفعية ٦ أرطال، و ١٠ مدفعية عيار ٢ رطل، و ٣٥ مدرعة نصفهن مزوّد بمدفعية٢ رطل والنصف الآخر مزود بمدافع رشاشة، وعدد من مدافع ٢٥ رطلا.

معركة اللطرون الأولى (حملة "بن نون أ")

كانت الهاغاناه تعرف مدى أهمية التواجد العسكري في اللطرون، حيث أنها اعتقدت أن الجيش الأردني يهدف باحتلاله مواقع في هذا القطاع إلى محاصرة القدس الغربية، ومن ثم تجويعها حتى الاستسلام. كانت بعض القيادات الصهيونية تطمح ليس إلى احتلال اللطرون من أجل فكّ الحصار عن القدس فحسب، بل سادت الأفكار التي رأت في كسر الجيش الأردني والانتصار عليه في اللطرون، من شأنه أن يوفر الفرصة من أجل الانقضاض على القدس الشرقية واحتلالها، ومن ثم التوجه إلى أريحا، وبذلك يبقى الجيش العربي معزولا في مناطق الضفة الغربية.

كان هذا التفكير كفيلا بتوفير قوات كبيرة من اللواء السابع للهاغاناه والمكون من ثلاث كتائب، الأولى والثانية والثالثة، بالإضافة إلى الكتيبة ٣٢ للواء "اسكندروني"، من أجل الهجوم على اللطرون، بحيث وصل عدد الجنود والضباط إلى ٢٤٠٠، وكان في حوزتهم ١٢ مدرعة، و ١٠ راجمات عيار ٣ إنش، ومدفعيّ ٦٥ مم.

كانت الخطة الصهيونية تقضي بأن تتحرك السرية الأولى والثانية للكتيبة ٣٢ للواء إسكندروني، من جنوب اللطرون، والتحرك شمالا بدون أن يتم كشفهما، واحتلال التلال التي تشرف على اللطرون وعمواس. وإن تمت هذه المهمة بنجاح كان على كتيبة ٣٢ إسكندروني أن تتحرك إلى الغرب وتحتل قرية اللطرون ومركز الشرطة. أما الكتيبة الثانية للواء السابع فتتحرك باتجاه الجنوب الشرقي وتحتل التلال المتواجدة في هذه الناحية، ثم تقوم باحتلال قرية دير أيوب والتلال المطلة على باب الواد. كانت الخطة من شأنها تؤدي إلى صدام مباشر مع الجيش الأردني في المنطقة، ولذلك كانت الضمانة الوحيدة لنجاح هذا الهجوم هي عنصر المفاجأة، وأن تتم المعركة خلال الليل، وإلا تعرض جنود الهاغاناه إلى مواجهة لا طائل لهم بها.

كانت ساعة الصفر المقررة هي الساعة العاشرة ليلا من يوم ٢٤ أيار/ مايو ١٩٤٨، وحسب التخطيط كان المتوقع أن تنتهي المعركة أو تحسم قبل طلوع الشمس. ولكن أخطاء تقنية عديدة بالمدفعية الصهيونية واحتكاكات هنا وهناك مع مقاتلين عرب متطوعين في المنطقة، أدت إلى تأخير الهجوم إلى الساعة الرابعة صباحا. ابتدأ الهجوم بقصف مدفعي مكثف، ولكنه لم يكن فعالا بسبب مشاكل في تشغيل بطاريات المدفعية وتوجيهها، ولأن الوقت قد تأخر، تقرر أن تهاجم الكتيبة ٣٢ إسكندروني والكتيبة الثانية من اللواء السابع معا من الجهة الجنوبية لشارع تل أبيب - القدس. كان على القسيمة الأولى من السرية الثانية للكتيبة ٣٢ بقيادة أريئيل شارون أن تكون على رأس الحربة، وتقدمت لمدة ساعة تقريبا، إلى أن شعرت بها دورية للجيش الأردني فقامت هذه بإطلاق قذيفة واحدة إنذارية، مما أعطى إشارة البدء لقصف مدفعي عنيف على سرية الهاغاناه في المقدمة، وكذلك كانت السرية الاولى المتواجدة خلفها في مرمى المدفعية، مما أدى إلى خسائر فادحة في صفوف الهاغاناه.

اختبأ جنود الهاغاناه خلف الصخور، ولَم يستطيعوا التقدم قيد أنملة بسبب القصف المدفعي الشديد. أما الكتيبة الثانية للواء السابع المتواجدة في الخلف، فقد كان مصيرها متشابها، إذ تعرضت لنيران مناضلين عرب من القرى العربية المجاورة، فتوقفت مكانها واتخذت مواقع دفاعية. عندما طلع النهار كان باستطاع المدافعين أن يوجهوا نيرانهم بشكل دقيق، وبذلك أصبحت كل الوحدات الصهيونية في مرمى النيران الأردنية بأشكالها، وارتفعت درجة الحرارة بشكل كبير كلما تقدم النهار، وكثر القتل والتجريح في صفوف الهاغاناه، حتى صدرت الأوامر بالانسحاب في تمام الساعة الحادية عشر والنصف ظهرا.

كانت تغطية المدفعية الصهيونية للمنسحبين عديمة الجدوى تقريبا، وارتفعت درجة الحرارة إلى ٣٥ درجة مئوية، فصار الجند ينسحبون بشكل عشوائي، ورمى قسم كبير منهم أسلحته، مما ساهم بأن يغنم الجيش الأردني ٢٢٠ بندقية، وعشرات الرشاشات نوع "ستن"، و ١٥ مدفعا رشاشا. واستمرت المعركة لعدة ساعات أخرى حتى انسحب أغلب الجنود الصهاينة، بعد أن تكبدوا خسائر فادحة بالأرواح تزيد على ٧٥ قتيلا وستة أسرى وجرحى كثيرين.

كان النصر ساحقا وحاسما، ولكن قيادة الجيش الأردني لم تستغل هذا النجاح بالهجوم على قيادة الهاغاناه في مستعمرة "خلدة"، وحسم المعركة نهائيا في منطقة القدس- اللد- الرملة.

معركة اللطرون الثانية (حملة "بن نُون ب")

كان بن غوريون مصرا على فتح الطريق بين تل أبيب والقدس، ولذلك أعطى أوامره التي تقضي باحتلال اللطرون فورا وبدون تأخير، خلال خمسة أيّام كان على الهاغاناه أن تنفذ هجوما جديدا، وبذلك ينمحي العار الذي أصاب اللواء السابع بعد خسارته القاسية في معركة اللطرون الأولى.

من أجل تنفيذ هجوم جديد، رجعت الكتيبة ٣٢ من لواء إسكندروني إلى مواقعها السابقة بعد تكبيدها عددا كبيرا من القتلى والجرحى، وأحضرت مكانها الكتيبة ٥٢ من لواء "چڤعاتي"، وتقرر أن تقوم الكتيبة الثانية من اللواء السابع ومساعدة كتيبة من البلماح، باحتلال القريتين بيت جيز وأبو شوشة جنوب اللطرون، وقد تم ذلك في ٢٨ أيار/ مايو ١٩٤٨، بدون مقاومة تذكر، وبذلك تهيأت الفرصة لفتح طريق ترابية جديدة إلى القدس، على بعد ٣-٤ كم جنوبا من اللطرون، وسميت هذه الطريق بطريق "بورما"، واستعملت فيما بعد لنقل الذخيرة والمؤونة للقدس الغربية، حتى نهاية الحرب.

كان مقررا أن يكون الهجوم على محورين، المحور الشرقي، وتقوم فيه الكتيبة الثانية للواء السابع والكتيبة ٥٢ "چڤعاتي"، بحيت يبدأ الهجوم من أبي شوشة، لاحتلال دير أيوب ويالو، وبعدها تقوم الكتيبتان بالهجوم على اللطرون من الجهة الشرقية. المحور الغربي كان مكونا من الكتيبة الأولى والكتيبة الثالثة من اللواء السابع، وكانت مهمتهما هي احتلال قلعة اللطرون وقرية اللطرون من الجهة الشمالية الغربية. تحددت ساعة الهجوم عند الدقيقة الخامسة عشر بعد منتصف ليلة ٢٨-٢٩ أيار/ مايو ١٩٤٨.

في ساعة الصفر تماما، تحركت القوات الصهيونية عند الجهة الغربية حسب الخطة المعدة سلفا، وتم التقدم بنجاح حتى الجدار المحيط بمركز شرطة اللطرون، وابتدأ قصف مدفعي شديد على القوات الأردنية المتواجدة في المركز، وذلك من أجل التمويه على هجوم المشاة، ونجحت الخطة حيث أن قوة المشاة استطاعت الوصول إلى الساحة الداخلية لمركز الشرطة، مما أذهل الجيش الأردني الذي تفاجأ من الهجمة القوية.

صارت قاذفات اللهب الصهيونية تلقي بنارها على الجنود الأردنيين في المركز، مما أدى إلى أن يضيء لهبها المنطقة ويكشف المستور عن المدفعية الأردنية المضادة للدبابات والتي أطلقت نيرانها على كاسحات الألغام للقوات المهاجمة ودمرتها. أما الجنود الصهاينة الذين دخلوا إلى المبنى من أجل تفجيره، فقد واجهوا مقاومة شديدة، وقتلوا جميعا بدون أن ينجحوا في تدمير مركز الشرطة.

استمر القتال الشديد حتى الساعة الرابعة صياحا، بدون أن يستطيع المشاة المهاجمون التقدم إلى بناية مركز الشرطة، من أجل دعم المدرعات المهاجمة، بسبب قوة النار الأردنية التي صلتهم بنارها، بواسطة مضادات الدبابات والمدافع الرشاشة والقنابل اليدوية، ولذلك أحضرت الكتيبة الرابعة للواء السابع من أجل دعم القوة المهاجمة، ووصلت خلال ١٧ دقيقة إلى ساحة المعركة، ولكنها تعرضت لنيران أردنية كثيفة، حال نزول جنودها من الحافلات، مما أوقع فيها خسائر فادحة، ولَم تستطع أن تقدم المساعدة المرجوة للقوة المدرعة الصهيونية، مما اضطرها إلى الانسحاب عند الساعة الثامنة والنصف صباحا، بعد تكبيدها خسائر فادحة ومقتل قائدها، وعند تنفيذ الانسحاب لم تتعرض لملاحقة من الجيش الأردني، وإلا أبيدت.

هذا ما كان من القوات المهاجمة من الناحية الغربية، أما من جهة الشرق، فقد تحركت الكتيبة ٥٢ "چڤعاتي" والكتيبة الثانية للواء السابع، في تمام الساعة التاسعة والربع ليلا من قرية أبو شوشة، وابتدأت هجومها بعد منتصف الليل بنصف ساعة أو أكثر.

احتلت السرية الأولى للكتيبة الثانية للواء السابع قرية دير أيوب، بدون مقاومة، وبعد الساعة الثانية صباحا أرادت أن تسيطر على مقام النبي أيوب الواقع على هضبة ترتفع عن القرية، وتفاجأت بإطلاق نار شديد من الجنود الأردنيين المتخندقين على التلة، وابتدأت بالتراجع، متكبدة خسائر في الأرواح. وبين الخامسة والسادسة صباحا، وصلت إلى باب الواد، والتقت مع السرية الثانية للكتيبة ٥٢ "چڤعاتي"، التي انسحبت عند الساعة الرابعة صباحا، بأمر من القيادة، بسبب أن القوة الأخرى التي هاجمت من جهة الشرق، تعرضت أيضا إلى إطلاق نار كثيف من مدافع رشاشة عند تقدمها، ولأن الهجوم على دير أيوب فشل، تقرر أن تعطى أوامر بانسحاب كافة القوات المهاجمة من جهة الشرق عند الرابعة صباحا.

رغم النجاح النسبي في بداية الهجوم، إلا أن يقظة وسرعة رد فعل القوات الأردنية أدى إلى افشال الهجوم الثاني على اللطرون، وتكبيد القوات المهاجمة خسائر فادحة مقابل عدد قليل جدا من الشهداء العرب.

معركة اللطرون الثالثة (حملة "يورام")

اقترب موعد الهدنة الأولى التي أقرتها الأمم المتحدة، لتبدأ في ١١ حزيران/ يونيو ١٩٤٨، ولذلك قررت القيادة العسكرية الصهيونية، تنفيذ هجوم أخير على اللطرون واحتلاله قبل دخول الهدنة حيّز التنفيذ. وتقرر في هذه المرة أن يقوم بالهجوم لواءان مدربان جيدا من البلماح، لواء "يفتاح" والذي أحضر خصيصا من منطقة الجليل، ولواء "هاريئيل"، وتقرر أن يكون الهجوم في ليلة ٨-٩ حزيران / يونيو ١٩٤٨.

كانت الخطة هي أن تقوم الكتيبة الخامسة للواء "هاريئيل" والكتيبة الثالثة للواء "يفتاح" بالهجوم على منطقة اللطرون في القطاع الفاصل بين الكتيبة الثانية والكتيبة الرابعة الأردنيتين، بحيث تقوم الكتيبة الخامسة باحتلال التلة رقم ٣٤٦ المطلة على قرية اللطرون وعمواس من الناحية الشرقية. وإن تم ذلك بنجاح كان على الكتيبة الثالثة "يفتاح" أن تمر من نفس المكان، وتحتل التلة رقم ٣١٥ ومن ثم تهاجم قرية اللطرون ومركز الشرطة.

ابتدأ الهجوم بقصف من مدافع عيار ٦٥ ملم، وراجمات من عيار ١٢٠ ملم، على قرية اللطرون ومركز الشرطة، بدون التعرض للتلتين المعدتين للاحتلال من قبل الكتيبتين الصهيونيتين، حتى لا تكشف الخطة المبيتة. تقدمت الكتيبة الخامسة "هاريئيل" أولا، ولكنها أخطأت الطريق، وبدل أن تقترب إلى التلة ٣٤٦، وصلت بقرب التلة ٣١٥، فتعرضت لهجوم ناري أردني، أدى إلى فتح جبهة واسعة من قبل الجيش العربي، لكن ذلك لم يمنع الكتيبة من التقدم واحتلال التلة، ولكن الجيش الأردني نفذ ثلاث هجمات مضادة، مستدعيا القصف المدفعي حتى لمواقعه، مما كبد الصهاينة المهاجمين خسائر فادحة.

انطلقت الكتيبة الثالثة "يفتاح" بعد ساعة من انطلاق الكتيبة الخامسة، وتوجهت صوب التلة رقم ٣٤٦، على أساس أنها محتلة من قبل الجنود الذين سبقوه، ولكنها تعرضت بدل ذلك إلى قصف شديد من قبل المدفعية الأردنية، وابتدأ قائد الكتيبة الثالثة يطالب الكتيبة الخامسة بوقف القصف، ظنا منه أنه يتعرض بالخطأ لقصف مدفعي صهيوني، ولذلك لم تتقدم القوة وارتبكت قيادتها، ولذلك أعطت أمرا بالانسحاب عند طلوع الفجر والعودة إلى باب الواد، ثم انسحبت على إثره الكتيبة الخامسة عند الساعة الخامسة والنصف صباحا، وبذلك فشل الهجوم الثالث على اللطرون، وكان الأخير قبل الهدنة الأولى.

غضب بن غوريون غضبا شديدا عندما أبلغه إسحاق رابين الضابط الشاب عن الخسارة الثالثة في اللطرون، حيث أن يچئال ألون مخطط الهجوم الأخير، خاف من مواجهة بن غوريون، ولذلك أرسل رابين لإبلاغه بحقيقة الأمر. استشاط بن غوريون غاضبا وقال: يجب إطلاق الرصاص على يچئال ألون.

كان هذا القول للقائد الصهيوني الأعلى، تعبيرا واضحا عن الفشل الذريع الذي مني به جنده في معارك طاحنة، أمام الجيش العربي الأردني، الذي لو أرادت قيادته البريطانية في ذلك الوقت، لكبدت الصهاينة خسائر أكبر بكثير، ولغيرت وجه التاريخ.


المصادر:

١. محمد حسنين هيكل، العروش والجيوش، قراءة في يوميات الحرب؛

٢. عارف العارف، نكبة فلسطين والفردوس المفقود، ١٩٤٧-١٩٥٢؛

٣. أحمد خليفة، حرب فلسطين ١٩٤٧-١٩٤٨، الرواية الإسرائيلية الرسمية، مترجم عن تاريخ الهاغاناه؛

٤. "بيني موريس"، ١٩٤٨ تاريخ الحرب العربية الإسرائيلية الأولى؛

٥. أهرون ليرون، القدس القديمة في الحصار والمعركة، إصدار "معرخوت"، الجيش الإسرائيلي؛

٦. عبد الله التل، كارثة فلسطين، مذكرات عبد الله التل؛

٧. صادق الشرع، حروبنا مع إسرائيل ١٩٤٧-١٩٧٣، معارك خاسرة وانتصارات ضائعة؛

٨. "يسرائيل بار"، معارك اللطرون ١٩٤٨، مجلة "معرخوت"، العدد ٩٦، أكتوبر ١٩٥٥، إصدار الجيش الإسرائيلي؛

٩. "انيطا شاپيرا"، "يچئال ألون، أفيف حلدو".

التعليقات