هوشة.. المُهجّر حسن الحسيني يستذكر طعم الصبر ومرارة الفقدان

يستذكر المُهجّر حسن الحسيني (90 عاما) حين عاد بسرعة، على الرغم من الظروف الخطيرة آنذاك، ليجلب الطفل الذي كانت الأم قد نسيت أن تأخذه، وسط الزحام والتشويش الذي خيّم على تلك اللحظات في قريته هوشة.

هوشة.. المُهجّر حسن الحسيني يستذكر طعم الصبر ومرارة الفقدان

المُهّجر حسن الحسيني(عرب 48)

هوشة، القرية الفلسطينية الرابضة على جبال الجليل وتبعد عن حيفا حوالي 14 كم، شمالي البلاد، كانت قبل تدميرها وتهجير أهلها في عام نكبة فلسطين 1948 تجسد قلبًا نابضًا بالترابط الاجتماعي، والحياة البسيطة، والزراعة التي تشكل شريان الحياة لأهلها، أكثر من مجرد مكان للعيش.

هنا في هوشة، كانت تبرز ثمار الصبّر بألوانها الزاهية، وهو ما جعلها محط أنظار من حولها. ومع ذلك، هناك طعم آخر للصبّر، طعم الفقدان، طعم الأرض التي تم انتزاعها قسرًا في نكبة 1948.

يتحدث الحاج حسن الحسيني (90 عاما)، أحد أبناء هوشة الذين شهدوا النكبة، ويسكن في مدينة شفاعمرو على بعد كيلومترات معدودة من قريته المهجرة، عن العلاقة العميقة بين الأرض وأهلها، وبين الصبّر الذي لا يزال يذكره في قلبه، وبين المرارة التي حملها طوال سنوات الشتات.

هوشة.. قرية متلاحمة وزراعة متميزة

كان سكان هوشة يعيشون حياة بسيطة، لكنها غنية بالمعاني. توصف القرية بأنها كانت "جنة على الأرض"، حيث كان أهلها يعيشون في تلاحم اجتماعي يتسم بالتعاون والمحبة. يصف حسن حسيني قريته لـ"عرب 48" بالقول إنه "في هوشة كان الجميع يعرف الجميع. لم يكن هناك غريب، كنا عائلة واحدة على الرغم من اختلاف العائلات. الطقوس اليومية التي تجمعنا في الحقول، في زراعة وقطف ثمار التين، والعنب، والزيتون، وأهمها الصبّر، جعلتنا نعيش الحياة كما لو أنها رحلة مشتركة لا نهاية لها".

في هذه القرية، لم تكن الأرض مجرد مكان للعيش، بل كانت جزءًا من هوية الإنسان الفلسطيني، جزءًا من الذات التي تكاملت مع الطبيعة. ثمرة الصبّر كانت تشهد على الفصول المختلفة، ولم يكن الصبّر مجرد محصول، بل كان جزءًا من حياة الأفراد، يمثل الصبر ذاته في مواجهة الظروف والمصاعب.

التهجير.. لحظة مفصلية في الذاكرة

لم يكن الحسيني يعلم أن هذه الأرض التي أحبها ستكون آخر مرة يرى فيها عائلته وأترابه في ذلك المشهد الحافل بالحياة. في إحدى الليالي من العام 1948، جاء صوت الهلع يطرق أبواب القرية، يعلن عن مغادرة قسرية يفرضها واقع النكبة. يصف المُهجّر من هوشة تلك اللحظات قائلا إنه "كنا نسمع صوت المدافع، وكان الجميع في حالة من الذعر. في تلك الليلة، تركنا بيوتنا ومزارعنا، وكأننا نترك جزءًا من أنفسنا. لم نأخذ معنا سوى ذكرياتنا وآلامنا".

ابن هوشة وخلفه الصبر الذي بقي شاهدا على النكبة (عرب 48)

رحلة الشتات التي بدأت من هوشة لم تكن مجرد سفر جسدي، بل كانت أيضًا رحلة روحانية شديدة. تركوا الأرض التي كان يربطهم بها كل شيء، وأصبح الشتات هو المكان الجديد الذي يعيشون فيه، لكنه لم ينسهم الأرض. هكذا بدأ الحسيني وأسرته حياة النزوح التي لم تنتهِ إلا بعد سنوات من الترحال.

مأساة لا تمحى.. كيف نسيت الأم ابنها في البيت

بينما كان الحسيني يروي عن أيام طفولته، تذكّر حادثة لا تُنسى وقعت أثناء التهجير. في ذلك الوقت، كان الهلع يسيطر على كافة أفراد العائلة. في لحظة من الفوضى، نسيت الأم ابنها في المنزل بعد أن كانت قد تجهزت للتهجير والرحيل مع باقي أفراد العائلة. كان ذلك مشهدا مفزعا، فقد كان من المستحيل العودة في ذلك الظرف العصيب. ومع ذلك، فقد عاد الحسيني بسرعة، على الرغم من الظروف الخطيرة السائدة، ليجلب الطفل الذي كانت الأم قد نسيت أن تأخذه، وسط الزحام والتشويش الذي خيّم على تلك اللحظات. تلك الحادثة ما زالت ماثلة في ذهنه، كشاهد على الإرباك والقلق الذي رافق تهجيرهم.

العودة.. الأطلال والمقابر وما تبقى من الهوية

بعد سنوات من الترحال واللجوء في دمشق، عاد الحسيني إلى قريته في العام 1950، ليجد أن ما كان يومًا مكانًا للسلام والسكينة أصبح الآن أطلالًا شاهدة على الغربة التي عاشها. قال المُهجّر العائد إنه "عدت لأجد بيتنا قد احتله آخرون، ولم أتمكن من الدخول إليه. حاولت إخبارهم بأن هذا بيتنا، لكنهم لم يبالوا. حتى أن الحجارة الجديدة أُضيفت إلى جدرانه لطمس معالمه".

المقبرة ومقام "النبي هوشان" في هوشة (عرب 48)

على الرغم من كل التدمير الذي لحق بالقرية، بقيت بعض المعالم القليلة التي تشهد على الحضور الفلسطيني في المكان. المقبرة ومقام "النبي هوشان" كانا هما الأكثر بقاء. ويقول الحسيني: "لقد بقيت المقبرة شاهدة على الحكاية التي لا تموت. كثير من أهالي هوشة يوصون أن يُدفنوا في هذه الأرض، فحتى الموت لا ينسينا المكان". من هنا، يشعر كل مهجّر من هوشة بالارتباط العميق مع هذه الأرض التي كانت ملجأ لهم.

الذاكرة الزراعية.. الحياة في حقول هوشة

لطالما كانت الزراعة العمود الفقري للحياة في هوشة، والحديث عن موسم الحصاد، كان أحد أهم طقوس الحياة اليومية. يتذكر المُسن تفاصيل لا تُنسى عن الزراعة وحياة العمل الجماعي، "كان موسم التين والصبّر واللوز يجمعنا معًا على هذه الأرض. كنا نعمل جنبًا إلى جنب، نزرع، نحصد، ونشارك الفرحة معًا. كان الجميع يعمل بنفس الجهد، وكأن الأرض هي مصدر الحياة والشعور بالانتماء".

كان الصبّر في هوشة يزرع بعناية ويُحصد بيدين ترتجفان من طعم الأرض والشعور بالانتماء. في كل موسم حصاد، كان هناك شعور بتجديد الأمل، حتى وإن كانت الأرض قد تبدلت بأحداث مريرة. لم تكن الزراعة مجرد عائد مادي، بل كانت جزءًا من الحياة ذاتها، ومن هوية مهددة بالزوال.

الشتات والانتماء.. الروح باقية رغم البُعد

تفرّقت عائلة الحسيني وأهل هوشة في بقاع الأرض المختلفة، فبعضهم هُجّر إلى سورية، وبعضه الآخر إلى تونس والجزائر وفرنسا وبلجيكا، ولكنهم لم ينسوا تلك الأرض. يذكر الحسيني أن كل من يزور هوشة، حتى لو كان قد هُجّر بعيدًا، يحاول أن يلمس شيئًا من تلك الأرض، سواء كان ذلك من خلال زيارة المقبرة أو المرور بالمقام، "الشتات ليس مجرد جغرافيا، بل هو حالة نفسية. لا يمكن أن تترك الأرض في قلبك حتى وإن ابتعدت عنها آلاف الأميال. على الرغم من المدى الذي وصل إليه الشتات، لا يزال الأمل بالعودة هو النبض الذي يعمق الشعور بالانتماء".

الحسيني داخل مقام النبي هوشان (عرب 48)

في انتظار العودة

على الرغم من مرور أكثر من سبعة عقود، بقي المُهّجر الحسيني متمسكًا بأمل العودة إلى هوشة، أو حتى أن يعود أبناؤه وأحفاده إلى تلك الأرض الطيبة، "أرضي لا تُنسى. إذا قُدّر لي أن أعود، سأعود فورًا. وإن لم أتمكن من العودة، فليعد أبنائي من بعدي، لأن هذا هو المكان الذي أنتمي إليه، وهذه الأرض التي لن تُمحى من ذاكرتي".

الأرض لا تموت

تظل قرية هوشة في ذاكرة أهلها كما قال المُهّجر التواق للعودة "أرضًا تمتزج فيها الروائح والأصوات والذكريات، حيث لا ينتهي الحنين إليها. الأرض التي هُجّر منها سكانها، لا تزال حية في قلوبهم، وفي كل مشهد من تلك الأرض، يظل الصبر رمزًا للتمسك بحق العودة إلى أرض الأجداد، الأرض التي لن تغيب عن الذاكرة مهما طالت الأيام".

التعليقات