القهوة بين الغلاء والمكانة الثقافية: فنجان بين نار الأسعار وعبق التقاليد

ارتفع الطلب على القهوة بشكل ملحوظ، مما أدى إلى زيادة في أسعارها. ويعود هذا إلى عوامل متعددة، بما في ذلك زيادة استهلاك القهوة في البلدان النامية مثل الصين، والظروف المناخية، وكذلك الحرب على غزة.

القهوة بين الغلاء والمكانة الثقافية: فنجان بين نار الأسعار وعبق التقاليد

خالد الفاهوم (عرب 48)

في زحمة التقلبات الاقتصادية التي يشهدها العالم، لم يسلم فنجان القهوة، هذا الرفيق الصباحي، من نار الأسعار الملتهبة، فقد سجّلت أسعار البُن في السنة الأخيرة ارتفاعا لافتا على مستوى العالم، ما انعكس على المستهلكين في مختلف الدول، وأثار تساؤلات حول مستقبل المشروب الداكن الذي تخطى دوره كمنبه يومي، ليصبح جزءًا لا يتجزأ من ثقافات الشعوب.

يعود هذا الغلاء إلى مجموعة من العوامل المتشابكة، على رأسها التغيرات المناخية التي أثرت على إنتاج البُن في دول رئيسة مثل البرازيل وكولومبيا، إذ أدت موجات الجفاف والصقيع إلى تقليص المحصول. ينضاف إلى ذلك ارتفاع تكاليف الشحن والطاقة، ونقص الأيدي العاملة، في ظل زيادة الطلب العالمي على القهوة، خاصة من الأسواق الناشئة.

أحد أصحاب شبكة محلات "بن الفاهوم" في الناصرة، خالد عاطف الفاهوم، قال في حديثه لـ"عرب 48" إنه "ينضاف إلى هذه الأسباب التي تذكرها الناس أن القهوة اجتاحت أسواقا وبلدانا لم تكن تعد من الدول المستهلكة للقهوة في السابق، كالصين واليابان والهند، هذه الدول التي كان مشروبها الأساسي الشاي، لكنها في السنوات الأخيرة أصبحت من أكبر الدول المستهلكة للقهوة، وهو ما رفع من قيمتها في بورصة القهوة، وجعل الطلب عليها مضاعفا، وبالتالي ارتفع سعرها. كذلك تنوع تناول القهوة ودخول ماكينات تحضير القهوة على أنواعها وأسمائها المختلفة، وهي سريعة وسهلة التحضير".

الطلب على القهوة لم ينخفض رغم ارتفاع الأسعار

ما يجعل القهوة أكثر من مجرد سلعة رمزيتها في المجتمعات المختلفة ومكانتها الراسخة في الحياة اليومية، ففي العالم العربي، تحتل القهوة العربية مكانة فريدة، وتُقدَّم في المجالس والمناسبات، بوصفها عنوانًا للكرم والترحيب. كما أنها حاضرة في المجالس العشائرية ومراسم الصلح، ولا يختلف الأمر في مناسبات الفرح أو الحزن، إذ تُقدَّم القهوة في الأعراس والمناسبات السعيدة كعلامة على الفرح والاحتفاء، ولا تخلو منها مجالس العزاء بنكهة مُرّة تعبّر عن الحزن والمرارة والأسى.

يؤكد الفاهوم أن "مكانة القهوة في بورصة السوق العالمية أصبحت لا تقل شأنا عن مكانة النفط والذهب، ويرتفع سعرها بنفس نسب غلاء النفط والذهب. وتجدر الإشارة إلى أنه لغاية العام 2000 كانت قهوة الفاهوم (بُن الفاهوم) تُصدّر إلى العديد من دول العالم ومن بينها الولايات المتحدة".

زيادة الوعي للقيمة الغذائية والصحية وفوائد القهوة جعلت الطلب عليها يزداد في أنحاء العالم، لا بل إنه تضاعف ثلاث مرات، على حد قول الفاهوم، إذ أوضح أنه "في الأعوام الماضية كان استيراد المواد الخام للقهوة يكلفنا 15 شيكلا للكيلوغرام الواحد، أما اليوم فأصبحت تكاليف الكيلوغرام الواحد من المواد الخام تصل إلى 48 شيكلا، وهو ما أدى بالتالي إلى ارتفاع سعر القهوة للمستهلك من 50 شيكلا للكيلوغرام قبل عام إلى 80 شيكلا اليوم".

أما عن أنواع القهوة وجودتها فيقول الفاهوم إن "هناك مئات الأنواع من القهوة، لكن ما يحدد جودة القهوة هو زراعتها في المناطق الجبلية المرتفعة عن مستوى سطح البحر حيث أقل نسبة من الأكسجين يجعل القهوة أكثر جودة، بالإضافة إلى ما يترتب عليه من طرق جمع المحصول والتقشير والتخزين والتحميص وما إلى ذلك".

أسعار القهوة المُذابة تضاعفت حديثا

وتطرق إلى تأثير الحرب على غزة واستيراد القهوة من اليمن، بالقول إن "المصادر الأساسية للقهوة ليست من اليمن، وإنما من البرازيل وكولومبيا وأميركا اللاتينية والحرب التي تشارك فيها اليمن ربما تؤثر على زيادة أثمان الشحن والنقل من الشرق الأقصى بحيث تضطر سفن الشحن إلى اعتماد طرق بحريّة أطول حتى لا تتعرض لاعتداء وهي في طريقها إلى موانئ البلاد".

وختم الفاهوم حديثه بالقول إن "أسعار القهوة لا بد أن تعود وتتراجع في الأشهر أو السنة القادمة، وذلك لعدة أسباب أهمها زيادة الوعي لدى شعوب العالم التي لم تكن يوما ما تستهلك القهوة وأهمها الصين، وقد بدأ المزارعون في الشرق الأقصى يلمسون الطلب الكبير على القهوة وهو ما سيشجعهم على زراعتها في الصين وغيرها، وحين يزداد العرض مقابل الطلب فلا بد لعودة المنافسة وانخفاض الأسعار".

المقهوة المُذابة ليست بديلا عن القهوة العربية

من جانبه، قال مدير المبيعات في مجمّع الأغذية "هيبر أبو خضرة" في الناصرة، علي فتحي علي، لـ"عرب 48" إنه "مع بداية الشهر الجاري، طرأ ارتفاع أيضا على منتجات القهوة المُذابة 'نسكافيه' بأنواعها، بذريعة أن المواد الخام التي تستخدم في إنتاجها قد ارتفعت".

وأضاف أن "الشركات الإسرائيلية تقوم عادة بركوب أي موجة غلاء من أجل تبرير رفع الأسعار، وهذه الشركات قامت خلال فترة وجيزة بزيادة أسعار القهوة المُذابة على ثلاث مراحل بفترة وجيزة كي لا يشعر المستهلك أنه طرأ ارتفاع حاد على أسعارها، ومع بداية الشهر الجاري ارتفعت أسعار القهوة المُذابة بـ7 شواكل للعبوة الواحدة من مشروب النسكافيه، إذ كان يبلغ سعر العبوة 26 شيكلا ليصبح بين ليلة وضحاها 33 شيكلا".

علي فتحي علي

وأكد علي أنه "لا بديل عن القهوة في البيوت العربية، لكن المؤسف أن الشركات صاحبة الرواج الواسع والطلب الكبير استغلت الظرف ورفعت الأسعار أكثر من غيرها، بحيث يتراوح سعر القهوة على أصنافها المختلفة للمستهلك بين 70 - 80 شيكلا للكيلوغرام الواحد، لكن ثمنها يكون أعلى فيما لو بيعت بالأكياس الأصغر حجما النصف أو الربع كيلوغرام".

وبدوره، قال الخبير الاقتصادي ورئيس المنتدى الاقتصادي العربي، عمر فندي عواودة من بلدة كفر كنا، لـ"عرب 48" إنه "عمليا السوق يقرأ المنتجات التي مهما ارتفع سعرها ستحظى بطلب من قبل المستهلك، وحتى لو تضاعف سعر المنتج فإن المستهلك سيظل يبتاع المنتج - كما هو حال القهوة اليوم".

وأضاف أنه "لو نظرنا إلى المصطلح الاقتصادي حساسية منحى الطلب بمعنى أن المستهلك يحتاج إلى المنتج مهما بلغ سعره، فإن سلوكيات التاجر تختلف، وذلك حين يكون المستهلك بليدا وغير مبال، فالقهوة لطالما كانت منتجا حيويا، لكن الذي تغير هو نحن المستهلكون إذ أصبحنا على درجة عالية من البلادة بحيث لم يعد يهزنا أي شيء، وأذكر حين ارتفع سعر كيلوغرام البندورة إلى 14 شيكلا، فإنه احتل عناوين الصحف، بينما اليوم لو وصل سعرها 20 شيكلا فإن أحدا لا يرف له جفن".

زيادة الطلب والحرب والتغيرات المناخية وعوامل أخرى أثرت على أسعار القهوة

وتابع عواودة: "نحن كمستهلكين لم نعد نحاسب السوق ولا نحاسب التجار ولا شبكات الأغذية، ولا نعترض على شيء، ولا نهتم بأي شيء بسبب الحرب، وهذه البلادة أصبحت تنسحب على كل مجريات حياتنا، فلو امتلأت بلداتنا بالنفايات لا نتحرك، وتجاه ما يحدث في غزة لا نتحرّك، وإزاء آفة العنف والجريمة والقتل لا نتحرك. لقد تفككت كل الروابط الاجتماعية التي كانت تجمعنا وأصبح كل واحد منا يعيش بمفرده نتيجة هذه الحالة من البلادة".

عمر فندي

وأخيرا قال الخبير الاقتصادي إنه سيراقب السلوكيات الاستهلاكية للمواطنين العرب في عيد الأضحى الذي سيحل بعد يومين "هل سيقفون كعادتهم في طوابير عند معبر طابا، وطوابير أمام محلات بيع اللحوم، وطوابير أمام المحمص ومحلات الحلويات، أم أنهم سيستعملون 'الفرامل'؟ خاصة أنني أعرف جيدا بأن أوضاع الناس في هذه الأيام صعبة للغاية.. هل سينتصر الذكاء أم البلادة؟".

وبين تقلبات السوق، يبقى فنجان القهوة شاهدًا على نبض الشعوب، وهمومها اليومية، وذاكرتها الجمعية، ما يجعل من غلائه مسألة لا تخص الاقتصاد وحده، بل تمسّ جانبًا عميقًا من هوية الإنسان.

على الرغم من ارتفاع الأسعار، تبقى القهوة رمزًا متجذرًا في ثقافات الشعوب، وطقسًا يجمع بين القلوب والذاكرة.

التعليقات