في وقت يشهد فيه الشرق الأوسط تدهورا خطيرا، تتزايد التساؤلات حول الأبعاد المستقبلية للصراع في المنطقة، خصوصا بعد الحرب الإسرائيلية على إيران، وما أثرها على الحرب على غزة والقضية الفلسطينية.
عن هذه الحرب ومساراتها وأبعادها نحاور الدكتور جمال زحالقة، النائب والرئيس السابق للتجمع الوطني الديمقراطي والأستاذ الجامعي، وعن مخاطر التصعيد العسكري في المنطقة، واحتمالات نجاح أو فشل تحقيق أهداف الحرب على إيران، وتأثيرات ذلك على القضية الفلسطينية والحرب على غزة وعلى الاستقرار الإقليمي والعالمي.
عرب 48: من خلال التقييمات المرحلية، يبدو أن إسرائيل عاجزة عن تحقيق أهدافها في الحرب التي شنتها منذ أسبوع على إيران، وهي تدمير البرنامج النووي ومشروع الصواريخ البالستية... هل تعتقد أن إسرائيل أخطأت التقدير حين أقدمت على ضرب إيران؟

زحالقة: يتعلق بأي معنى، هنالك أكثر من مفهوم لعبارة "أخطأت التقدير". أنا برأيي هي نعم أخطأت التقدير بحسابات معينة، وباعتقادي كان بالإمكان التوصل إلى اتفاق سياسي قبل العدوان، لكن إسرائيل لم تكن ترغب بأن يتم التوصل إلى اتفاق من خلال المفاوضات التي جرت بين الولايات المتحدة وإيران، اللتان كانتا قريبتين جدا من التوصل إلى صفقة، ثم تدخلت إسرائيل في الكواليس وبدأت تعبث بالمفاوضات في مسعى لإفشالها وتعطيلها، فهناك أمور وافقت عليها الولايات المتحدة في البدايةـ ولكنها تراجعت عنها تحت تأثير إسرائيل وأذرعها في واشنطن، مثل موافقة الولايات المتحدة على السماح لإيران بتخصيب اليورانيوم إلى مستوى 3.75% على الأراضي الإيرانية، ثم تراجعت وتبنت الموقف الإسرائيلي بمنع التخصيب على الأراضي الإيرانية.
إيران توافق على المبدأ الأساسي بأن لا يكون لديها قنبلة نووية، وهي قبلت وتقبل بالتقييدات والشروط المفروضة على التخصيب وبإخضاع منشآتها النووية للرقابة الدولية المشددة، كل هذه الأمور قبلت بها إيران، ولو جرى تطبيقها فعلا لكان من المستحيل أن تصل إيران إلى تطوير قنبلة نووية، لكن إسرائيل أرادت أمورا أخرى، ليس فقط المشروع النووي، وإنما لديها أهداف في الهيمنة الحصرية على المنطقة بالوكالة عن نفسها وعن الولايات المتحدة، وهي لا تريد لأي قوة إقليمية أن تصعد وأن تشكّل توازنا رادعا معها، حتى تستطيع أن تفعل ما تشاء في المنطقة.
بالنسبة لموضوع تحقيق الأهداف، دعني أقول ما هي نقطة النهاية، وعندها يمكن حساب الأهداف وما تحقق منها. فتحقيق الأهداف لا يقاس في بداية أو منتصف الطريق، وإنما في نهاياتها، وإسرائيل لن تستطيع تحقيق ما تريده لوحدها، وهي قد تستطيع الوصول إلى قسم من مبتغاها فقط بتدخل أميركي، وهي لن تستطيع أصلا أن تنهي الحرب من دون تدخل أميركي، إمّا عسكريا، أو سياسيا، أو الإثنين معا.
التدخل الأميركي العسكري سيؤثّر كثيرا على نتائج المواجهة، ولكن في النهاية، وفي كل حال، سيكون هناك اتفاق ما، والسؤال ماذا ستكون طبيعة هذا الاتفاق، هل هو مجرد اتفاق وقف إطلاق النار أم صفقة شاملة، وعندها فقط نقيس إذا ما حققت إسرائيل أهدافها من الحرب. أعتقد أن إسرائيل لن تحقق الأهداف التي حددها نتنياهو، لكنّها وكعادتها سوف "تنجح" في القتل والتدمير والتخريب.
عرب 48: هل باعتقادك الهدف هو القضاء على النووي الإيراني - كما هو معلن - أم أن هناك أهداف غير معلنة تسعى إسرائيل لتحقيقها؟
زحالقة: دعنا نقول أن هناك ثلاثة أهداف وضعها رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، بشكل علني.
الهدف الأول هو القضاء على المشروع النووي الإيراني؛ ثانيا، تسديد ضربة قويّة لمنظومة إنتاج الصواريخ البالستية؛ وثالثا، تفكيك ما سماه "شبكة الإرهاب الإيرانية في المنطقة". لكن إلى جانب هذه الأهداف الرسمية المعلنة، هناك هدف غير معلن رسميا يجري تداوله كثيرا، ألا وهو إسقاط النظام الإيراني، وهذا الهدف إسرائيل تتحدث عنه كنتيجة وليس كهدف ملزم، بمعنى أنه قد تكون نتيجة الحرب سقوط النظام، لكن إسرائيل أو نتنياهو تحديدا خشي أن يدخل في هذه المصيدة، لأنه في النهاية قد يُحاسب على أنه وضع هدفا ولم يحققه، وعندها لا يستطيع أن يدّعي النصر المطلق.
إضافة إلى الاعتبارات الإستراتيجية والسياسية والأمنية عند نتنياهو، نشير إلى اعتبارين إضافيين يشغلانه، هما كسب الأصوات في انتخابات مقبلة، والثاني هو مكانته في التاريخ، وهو يريد أن يتذكره التاريخ كمن استطاع أن يقضي على المشروع النووي الإيراني، الذي منذ عشرات السنين وهو يردد كالببغاء أن هذا المشروع هدفه القضاء على إسرائيل. وهو يردد أيضا أن أباه كان مؤرّخا وأوصى بالقضاء على التهديد الإيراني، وفي مقابلة له خلال الحرب على إيران لخّص تاريخ الدولة العبرية: بن غوريون أقامها وأنا أنقذتها!
عرب 48: أسأل جدلا، إذا سقط النظام الإيراني من سيأتي بعده، أو ماذا سيكون بعده؟
زحالقة: هناك من يخشى بأن يأتي نظام أكثر تشددا على إسرائيل، وهنالك من يخشى من أنه إذا ما أقدمت إسرائيل على اغتيال المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، بأن يأتي قائد شاب متحمس وفعال ويمنح إيران قوة أكبر. فبعد أن كانت إسرائيل قد اغتالت زعيم حزب الله الأسبق عباس موسوي عام 1992، جاء بعده حسن نصرالله، الذي كان أشد صلابة وديناميكية منه، وهم يخشون من تكرار هذا الحدث، لكن باعتقادي أن إسرائيل – ولو أن الأمر مستبعد جدا – تسعى ليس فقط إلى إسقاط النظام، وإنما إلى تفكيك الدولة الإيرانية بالضبط كما هي تسعى لتفكيك سورية، فهي تريد للمنطقة أن تكون عبارة عن دول صغيرة مفككة ومنقسمة على نفسها، فهي دعمت الأكراد في السابق للانفصال عن العراق، ودعمت جنوب السودان للانفصال عن السودان، وترغب في تفتيت المنطقة إن أمكن ذلك.
هناك اعتقاد غير معلن ولا يجري الحديث عنه، وهو أنه إذا سقط النظام في ايران سيكون هناك تفكك للدولة الإيرانية وفق الانتماءات الإثنية والعرقية والدينية والطائفية... فالفرس يشكلون نحو 50% فقط من سكان إيران، والبقية هي مجموعات موزعة على مناطق مختلفة، وحلم إسرائيل هو أن تتفكك، وهذه مسعى إسرائيلي ينبغي الانتباه إليه. ومع ذلك باعتقادي أنها لن تحصل على ذلك، لأن الادعاء بأن الهجوم الإسرائيلي على إيران يحظى بشعبية لدى المعارضين للنظام في إيران هو كذبة كبرى، فالمعارضة في إيران تلتف حول العلم، وهناك وحدة وطنية أكثر مما كان في السابق بسبب العدوان الإسرائيلي، وربما لا تجد سوى القلائل من أصل 90 مليون إيراني يصفقون لنتنياهو، وأنا استمعت إلى بعض قادة المعارضة يقولون إن "الادعاء بأننا ندعم الحرب على دولتنا فيه من الاستهتار والاستخفاف بالإيرانيين".
عرب 48: دعوة إسرائيل للولايات المتحدة بأن تدخل وأن تشارك في الحرب مباشرة أصبحت تردد في إسرائيل وكأنها نشيدها الوطني... حسب رأيك إلى حد واشنطن شريكة في الحرب اليوم، وماذا يعني أن تدخل الولايات المتحدة فعليا في الحرب؟ وما الذي يمنعها من اتخاذ القرار حتى اللحظة؟
زحالقة: الولايات المتحدة لا تدعم إسرائيل فحسب، بل تشارك في الحرب بشكل واسع وبنسبة لا تقل عن 80%، لأنها هي من تزود إسرائيل بالأسلحة الفتاكة. الإسرائيليون كانوا يشكون قبل أسبوع من امتلاء مخازن الأسلحة بالذخيرة الأميركية، فبعد دخول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، جرى تزويد إسرائيل بكل ما طلبته من أسلحة وذخائر، ولم تبخل عليها في شيء من القنابل الضخمة لاستخدامها في ضرب إيران، إضافة إلى دعم استخباراتي كامل، وأكثر من نصف المعلومات التي تحصل عليها إسرائيل هي من مصادر استخباراتية أميركية، وهناك معسكر "هار كيرن" الموجود في موقع المدينة النبطية القديمة "الرحيبة " في النقب، وفيه رادار بعيد المدى الذي يستكشف الصواريخ الإيرانية لحظة إطلاقها، وهو يزود غرفة العمليات الإسرائيلية بالمعلومات الفورية، كذلك الأقمار الصناعية ومحطات الاستشعار المنتشرة في المنطقة تمد إسرائيل بالمعلومات مباشرة. التعاون الاستخباري بين إسرائيل والولايات المتحدة هو كامل، وكأنهما جهاز واحد.
عرب 48: هناك أيضا المنظومات الاعتراضية التي تتصدى للصواريخ والمسيرات الإيرانية مثل منظومة "ثاد" وغيرها... فهي تشارك بشكل فعال أيضا.
زحالقة: الولايات المتحدة تدافع عن إسرائيل برا وبحرا وجوا. هناك منظومات "ثاد" المنصوبة في إسرائيل، لا نعرف عددها بالضبط، لكنها أكثر من ثلاث، ويتولّى أمرها مئات الجنود الأميركيين، وهي المسؤولة عن إسقاط الصواريخ الثقيلة، وهي أقوى وأدق من منظومات "حيتس" الإسرائيلية، والطائرات الأميركية أيضا تقوم بإسقاط المسيرات قبل أن تصل إلى إسرائيل، وكذلك تساهم البحرية الأميركية في المجهود الحربي الإسرائيلي وتقوم بإسقاط الصواريخ الإيرانية.
المبدأ الذي وضعه بن غوريون عام 1955 بأن "إسرائيل تدافع عن نفسها بنفسها" انهار تماما في هذه الحرب التي تعتمد على شبكة أمان دفاعية أميركية، من دونها ما كانت إسرائيل لتخوض الحرب أصلا.
الآن، بالنسبة لموضوع قصف منشأة "فوردو" النووية، واستخدام طائرا بي 2 العملاقة والقنابل الضخمة لتفجير هذه المنشأة العميقة داخل الأرض، وهو ما تريده وتنتظره إسرائيل. يجب الانتباه إلى لغة نتنياهو وتكراره لعبارة "نحن لا نطلب..."، وكأنه يريد أن يترك القرار لترامب، لكي لا يظهر بأن ترامب ينجر وراء رغبات إسرائيل. في التصريحات العلنية يقولون في إسرائيل "نحن لا نضغط على ترامب وأميركا حرّة في أن تتخذ قرارها، في المقابل هي تفعّل اللوبي وبقية أذرعها في واشنطن لجر الولايات المتحدة للحرب. هناك انقسام في الحزب الجمهوري بين الصقور الداعمين للمشاركة في الحرب، وبين الانعزاليين الذين يعارضون ذلك بشدّة. انتبه إلى أن هناك أيضا تيار انعزالي قوي في اليسار الأميركي يرفض كل التدخل العسكري في الخارج، باعتبار أنها تدخلات داعمة لقوى الطغيان والقوى المعتدية وليس دفاعا عن العدالة وعن المستضعفين، ويعتبرون هذا التدخل غير أخلاقي ويسيء إلى صورة الولايات المتحدة ويجعل الشعوب معادية لأميركا. ولكن دعنا نتحدث عن التيار الانعزالي في الحزب الجمهوري، الذي نجح في تحويل تعبير "المحافظين الجدد" إلى شتيمة تبعا لتوريطهم الولايات المتحدة في حروب طويلة باهظة الثمن. لهذا التيار تأثير قوي جدا على ترامب.
إذا دخلت الولايات المتحدة الحرب الهجومية بشكل مباشر، فسيكون هناك رد فعل إيراني على القواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في الخليج، وهي كثيرة، وإيران ليست بحاجة إلى صواريخ بعيدة المدى لضربها. وهنالك خشية حقيقية بأن يؤدي التدخل الأميركي إلى توسع الحرب وتعرض قواعدها ومصالحها في الخليج للخطر.

أمر آخر أريد أن أقوله وهو إنه بين عدم القصف وبين القصف يوجد حل وسط، وهذا الحل يعود إلى قانون الإعارة والتأجير الذي سنه الكونغرس الأميركي عام 1941 قبل دخول الولايات المتحدة إلى الحرب العالمية الثانية، وهذا القانون يتيح للولايات المتحدة أن تؤجر أسلحة لحلفائها على أن تستعيدها بعد انتهاء الحرب، فهناك إمكانية بأن تقوم الولايات المتحدة بتأجير القاذفات من طراز بي 2 لإسرائيل لتستخدمها مع القنابل الثقيلة، دون أن تتورط أميركا بشكل فعلي في ضرب إيران.
لكن يبقى السؤال هل هناك طيارون إسرائيليون يستطيعون قيادة مثل هذه الطائرات؟ لا أملك إجابة عن هذا السؤال، وسمعت آراء مختلفة ومتباينة بشأنه بين نعم ولا.
أكثر ما تخشاه إسرائيل أن يؤدّي عدم التدخل الأميركي إلى إطالة الحرب، وحتى إلى تحوّلها إلى حرب استنزاف.
عرب 48: لننتقل إلى تأثير هذه الحرب على ما يجري في غزة والإبادة الجماعية التي لم تعد تحظى باهتمام عالمي ودولي... في غزة ترتكب مجازر يومية لا يتم تسليط الضوء عليها. ما رأيك؟
زحالقة: في هذا الأسبوع استشهد في غزة ما يزيد عن عشرة أضعاف الإسرائيليين الذين قتلوا في الحرب، والتغطية الإعلامية التي تركّز على مقتل 25 إسرائيليا بصواريخ إيرانية تعادل أكثر من 100 ضعف تغطية مجازر غزة! فالعالم مشغول بالحرب على إيران، وإسرائيل تستغل انشغال العالم بها لارتكاب المزيد من المجازر والجرائم في غزة.
ما قاله نتنياهو بصلف وصل إلى حد من الغرور الذي يكشف أوراقه حين يقول بأن إسرائيل ستخرج من الحرب قوية، وعندها تستطيع أن تنفذ ما تريد. بمعنى أن هذه هي المعادلة، كلما كانت إسرائيل أقوى أو كلما ازداد انفلاتها الفتّاك وشعورها بالغرور، وأكثر وحشية عدوانية على الشعب الفلسطيني. وهو تحدث بشكل واضح أن مشروع التهجير في غزة ما زال قائما، وحتى أنه ألمح بأن إسرائيل بعد الحرب ستكون أقوى، وسيكون من السهل عليها تنفيذ هذا المشروع. لا نعرف ماذا يقصد بالضبط، ولكنه يتحدث من جهة أخرى عن توسيع التطبيع...
المصيبة الكبرى أن تنتصر إسرائيل في هذه الحرب، لأن هذا يعني أنها ستتحوّل إلى "إمبراطورية الشرق"، وتفرض هيمنتها على الجميع في المنطقة. لذلك، فإن الذين لديهم الآن انتقادات ضد إيران ويمقتون نظامها عليهم أن يعلموا بأن القادم هو هيمنة إسرائيلية في غاية الخطورة، لأنها تأتي وهي أكثر تطرفا ووحشية، ولن تتحدث بلغة السلام، وإنما بلغة القوة والتخويف، وتريد من شعوب المنطقة أن يأتوا إليها أذلاء وخاضعين.
هذه هي الإستراتيجية الإسرائيلية الآن، والمصيبة الكبرى تكمن في أن تحقق إسرائيل مبتغاها، لأنها سوف تستغل قوتها المكتسبة لفرض إرادتها على الشعب الفلسطيني وعلى محيطها، وهي اليوم أكثر خطورة بسبب التغيّرات الكبرى في عقيدتها الأمنية وجنوحها لاستخدام المزيد من العنف لتحقيق مآربها.
عرب 48: دعنا نعرّج على الموقف الأوروبي الذي كان قبل أسابيع يندد ويدين جرائم إسرائيل، وحتى أن بعض الدول الأوروبية تجرأت في فرض عقوبات على وزراء إسرائيل المتطرفين، اليوم نرى بأن هذا الموقف يتغير وتعود أوروبا لتؤيد حق إسرائيل بـ"الدفاع عن نفسها"، وإن كانت هي المعتدية؟!
زحالقة: الدول التي تسمى بـ"دول الحضارة الغربية" تؤيّد إسرائيل في عدوانها وهجومها على إيران، وذلك تحت يافطة "الحق في الدفاع عن النفس"، ولم تعترف أي منها بهذا الحق لإيران التي تعرّضت للعدوان. غالبية دول العالم الأخرى تعارض الحرب أو الهجوم على إيران، وهذا يعود في خلفيته، باعتقادي، إلى النظرة النمطية ضد الفرس وضد المسلمين، فالإيرانيون هم فرس وهم مسلمون أيضا، ومصدر هذه النظرة النمطية والعنصرية والعدائية تجاه الفرس تعود إلى الحروب الفارسية اليونانية (أو الحروب الميدية) في القرن الخامس قبل الميلاد، وفي السرديات التاريخية، وفي الأدب والفن، تصوير للفرس على أنهم وحوش بشرية، وأنهم غير عقلانيين وغير حضاريين، وما إلى ذلك من الأوصاف التي تشوّه صورتهم. والحقيقة أن هذا ترسّخ عميقا في الثقافة الغربية، وعاد لينفجر من جديد بعد انتصار الثورة الإيرانية وقيام الجمهورية الإسلامية، فأصبحت الصورة مشوّهة مرتين، أولا لأنهم فرس، وثانيا لأنهم مسلمون، وأنت تعرف مدى تغلغل العداء للمسلمين في المجتمعات الغربية.

لا بد من الإشارة هنا إلى أن بداية ثنائية الشرق والغرب كانت بعد حرب فارس والمدن اليونانية، عندها جرى بناء الهوية اليونانية مقابل الآخر الشرقي، واعتبر اليونانيون أنفسهم شعبا عقلانيا، حرا متنورا، مقابل الظلاميين الفارسيين المتوحشين. ففي الثقافة الغربية هناك هذه الشحنة المعادية للفرس. ومن يريد مثالا صادما لهذا التنميط العنصري، يمكنه أن يشاهد فيلم 300 (إخراج زاك سنايدر، 2006) الذي يروي قصة مجموعة صغيرة من المحاربين اليونانيين الأبطال مقابل عشرات الآلاف من "الوحوش البشرية الفارسية".
للمقارنة، أنظر إلى الغضب الكبير على إسرائيل بسبب الحرب على غزة، لكن لا أحد من الدول الغربية يقبل بأن تطلق رصاصة واحدة على إسرائيل، ولا أحد يقبل حتى بفرض عقوبات جدية عليها، فالاختلاف معها يكون على شكل اختلاف بين أبناء العائلة الواحدة، فترى كيف التسامح مع إسرائيل رغم أنها هي الدولة النووية وليس إيران، ولكن كما يقول المثل العربي "فرفور ذنبه مغفور". بالنسبة للغرب إسرائيل هي جزء من "نحن" وإيران في خانة الآخر. الصورة التي وصفها إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" هي الصورة النمطية للآخر الشرقي، التي تُسهّل اتخاذ موقف معاد لإيران.
عرب 48: صورة نتنياهو بنظر الإسرائيليين تراجعت بعد هجوم السابع من أكتوبر 2023، يحاول الآن مجددا استعادة "نجوميته" واستطلاعات الرأي الأخيرة تعيد حزب الليكود إلى الصدارة... ما هو تفسيرك، هل الشعب الإسرائيلي "عاشق" للحروب؟!
زحالقة: حتى الآن الحرب تعود لصالح نتنياهو الشخصية والحزبية، لكن الأمور تقاس بخواتيمها، إسرائيل عادة تعرف كيف تبدأ الحرب، لكنها لا تعرف كيف تنهيها، ونتنياهو يسوّق نفسه وكأن العناية الإلهية قد اختارته لينقذ شعب إسرائيل من الكارثة الإيرانية المحدقة، وقد سعى لتهيئة الرأي العام بأن هذه الحرب ستأتي يوما ما لا محالة، وهي ليست حرب مفاجئة، بمفهوم أنه حدثت نتيجة تطورات في المرحلة الأخيرة، بل مرّت 30 سنة والشعب الإسرائيلي ينتظر هذه الحرب، وجرى تجهيزه وتعبئته، لذا تحظى هذه الحرب بتأييد كبير جدا في الشارع وفي صفوف النخب الإسرائيلية. قبل نشوب الحرب بأيام جرى تداول رأيين، الأول يؤيد عملا عسكريا، وآخر يفضل التوصل إلى اتفاق، لكن بعد أن نشبت الحرب صار الكل يدعمها. النخب الإسرائيلية تصرفت كالقطيع تردد دعمها للحرب ولا صوت (تقريبا) يغرد خارج السرب، مع أن الكثيرين جادلوا قبل أيام بإمكانية التوصل إلى اتفاق معقول.
عرب 48: ما الذي سيحدث في تصوّرك خلال الأيام المقبلة وهل يمكن أن تتحول إلى حرب استنزاف تبقي إسرائيل مشلولة مع تكاليف باهظة؟
زحالقة: هنالك إمكانيات كثيرة منها مثلا أن تفشل الحرب الإسرائيلية، وأن تعود إيران إلى برنامج التخصيب، وعندها ستكون الحرب قد شكّلت دافعا ومحفّزا لإيران لامتلاك سلاح نووي، والدليل على ذلك الحرب بين الهند وباكستان، كيف أنها توقفت بسرعة بسبب أن الدولتين نوويتين، وأن لا أحد يجرؤ على مهاجمة كوريا الشمالية لأنها تمتلك سلاحا نوويا، فالحرب هي بمثابة رسالة من إسرائيل إلى إيران بأنه طالما أنكم لا تمتلكون سلاحا نوويا فأرضكم مستباحة، ما قد يجعل إيران تهرول مسرعة لامتلاك قدرات نووية.
وأخيرا، ما أريد أن أقوله بأن هذه الحرب تكشف مدى سوء حالة الوضع العربي. نحن نعيش في الزمن العربي الرديء لأنه في الموضوع "النووي" المصلحة العربية تتطلب أن لا يكون سلاحا نوويا في المنطقة، وكان على العرب، ولا زال، ربط النووي الإيراني بالنووي الإسرائيلي، وأن تسعى الدول العربية لأن تكون منطقة الشرق الأوسط خالية من الأسلحة النووية.

أما أن يكون التركيز على إيران فيما يسمح لإسرائيل بامتلاك السلاح النووي، فهذا سيجعلها تفرض هيمنتها على المنطقة. أعتقد أنه على المدى البعيد، لن تبقى إسرائيل وحدها تمتلك السلاح النووي في المنطقة، ومهما كانت نتائج الحرب على إيران، فعاجلا أم آجلا سيكون هناك دافع قوي لدول المنطقة لكي تنتج سلاحا نوويا، وهناك دول قادرة على ذلك مثل مصر وتركيا وغيرها. ولهذا السبب، فإن المطلوب الآن هو إطلاق مبادرة عربية تركية إيرانية لوقف الحرب أولا، وطرح مشروع نزع السلاح النووي من المنطقة، والعمل الدؤوب لتحقيق هذا الهدف.
العربدة الإسرائيلية تتطلب فورا تفاهما تركيا عربيا، وكذلك تفاهم تركي إيراني للحفاظ على شعوب المنطقة في وجه العدوانية الإسرائيلية المتفاقمة. هذا التفاهم سيحل العديد من المشاكل في العراق وسورية ولبنان واليمن، وحتى في ليبيا والسودان. هذا التفاهم يمنح شعوب المنطقة قوّة أكبر بكثير، لأن إسرائيل تستغل الخلافات بين هذه الشعوب العريقة والأصيلة من أجل أن تفرض هيمنتها.
وأدعو المثقفين العرب والإيرانيين والأتراك للحوار والحديث عن تفاهم إقليمي إستراتيجي، فهذا هو المستقبل والأمل، أي وجود نصير وازن للشعب الفلسطيني، فلا توجد أي قوة دولية في العالم اليوم تدعم الفلسطينيين عمليا وفعليا في وجه مشاريع الإبادة والتهجير والاحتلال والتدمير وحصار الوجود. وجود تفاهم من هذا النوع سيمنح القضية الفلسطينية قوة كبيرة، وسيمنع الدول العربية من الهرولة للتطبيع مع إسرائيل.
التعليقات