حوار مع الطبيب نبيل جرايسي: الأزمات النفسية وحالات الخوف والتوتر والقلق في الحرب

قال الطبيب النفسي نبيل جرايسي، مدير قسم الصحة النفسية في مستشفى الناصرة (الإنجليزي)، إنه نلاحظ ارتفاعا في معدلات التوتر والقلق والكآبة أيضا، وهناك معطيات أولية نلاحظها من خلال الأبحاث التي أجريناها تشير إلى زيادة منسوب القلق والضغط النفسي.

حوار مع الطبيب نبيل جرايسي: الأزمات النفسية وحالات الخوف والتوتر والقلق في الحرب

آثار سقوط صاروخ إيراني ببئر السبع، صباح اليوم (تصوير "سلطة الإطفاء والإنقاذ")

تعدّ الحروب من أكثر مصادر القلق التي تؤثر على المجتمعات والأفراد، على حد سواء، إذ تتسبب في تدمير البنى التحتية المجتمعية، وتفتيت النسيج الاجتماعي، والانعزالية والضيق، إضافة إلى المعاناة النفسية العميقة التي تواجه الناجون من الحرب أو من ينتظرون مصيرهم!

تتعرض النفوس خلال حالات الحرب لأشكال متنوعة من الضغوط والصدمات، مما يؤدي إلى ظهور اضطرابات نفسية متعددة مثل اضطراب ما بعد الصدمة، الاكتئاب، والقلق، واضطرابات الكرب وفرط اليقظة، فضلا عن تدهور الحالة الصحية النفسية بشكل عام.

"عرب 48" أجرى حوارا مع الطبيب النفسي نبيل جرايسي، مدير قسم الصحة النفسية في مستشفى الناصرة (الإنجليزي)، تناول الحديث الاضطرابات النفسية التي تصيب الجمهور نتيجة لحروب، خاصة فيما يتعلق بالحرب الحالية بين إسرائيل وإيران.

د. نبيل جرايسي

هذه الاضطرابات لا تؤثر فقط على الأفراد الذين شهدوا أو عانوا من ويلات الحرب، بل تمتد آثارها لتؤثر على المجتمع بأكمله، مما يستدعي الاهتمام الجدي بالتدخلات النفسية والتأهيل النفسي لمواجهة التحديات النفسية الناتجة عن هذه الكوارث.

"عرب 48": بداية، هل تلحظون زيادة في التوجه إلى أقسام الصحة النفسية طلبا للمساعدة، وهل لديكم معطيات وإحصاءات؟

جرايسي: نعم، حالات الحرب هي حالات ضاغطة من الناحية النفسية، وتؤدي إلى ردود فعل نفسية هي عمليا ردود فعل عادية وطبيعية في ظروف غير عادية وغير طبيعية.

صحيح أننا نعيش حالة حرب متواصلة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ولكن الحرب في الأيام الأخيرة تأخذ منحى أكثر شراسة وأكثر توحشا وتتسع رقعتها لتشمل كافة البلاد من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها، وبالتالي فإن ردود الفعل ضاغطة من الناحية النفسية على كل فئات المجتمع، ومن منا لا يشعر بالضغط والقلق والخوف في حالات الحرب، وبالذات في حالات الإنذارات وانطلاق صافرات التحذير وسماع دوي انفجارات واهتزازات ناجمة عن اعتراض الصواريخ، والتحذير من سقوط شظايا؟ كل هذا يؤدي إلى ردود فعل نفسية من الخوف والقلق والتوتر، وهي ردود فعل عادية في ظروف غير عادية، مع أنه للأسف هذه الظروف غير العادية أصبحت في بلادنا خبزنا اليومي الذي نتذوقه باستمرار، وغالبية السكان يعانون من جرّاء هذا الوضع، والذي يرافقه شلل الحياة الاجتماعية التي تتطلب عدم الخروج للتنزه والترويح عن النفس والبقاء في البيت وفي الأماكن المحمية وفي الغرف المحصنة وفي زحمة الملاجئ والاكتظاظ بداخلها، والخوف من الخطر الداني، وأحيانا فقدان أشخاص من الأعزاء والأقارب والمعارف، كما حدث في مدينة طمرة، وهذا يؤدي إلى حالات توتر شديد وقلق.

نعم، كسائر الشعوب والمجتمعات، نلاحظ ارتفاعا في معدلات التوتر والقلق والكآبة أيضا، وهناك معطيات أولية نلاحظها من خلال الأبحاث التي أجريناها تشير إلى زيادة منسوب القلق والضغط النفسي منذ اندلاع الحرب، ونلاحظ كذلك زيادة في التوجهات إلى قسم الطوارئ وقسم الصحة النفسية في مستشفى الناصرة (الإنجليزي) طلبا للمساعدة بسبب حالات الهلع وحالات القلق والتوتر، ونلاحظ كذلك من خلال معطيات الصيدليات ووزارة الصحة زيادة في استهلاك العقاقير المهدئة للأعصاب، والمضادة للاكتئاب.

"عرب 48": ما هي أبرز الحالات التي تشخّص لدى المتوجهين لطلب المساعدة، هل هي اضطرابات النوم وفرط اليقظة، أم الاكتئاب أم الكوابيس؟

جرايسي: كل سلوكيات الإنسان قد تتأثر في حالات الضغط والتوتر والخوف من الحرب وتداعيات الحرب علينا، وإذا ذكرت موضوع النوم، فهناك من يفارقه النوم بسبب القلق، وعلى عكس ذلك هنالك من يلجأ إلى الفراش ولا يعود يغادره، يظل نائما، وإذا تكلمنا عن الغذاء والطعام نلاحظ أن هناك من ينقطع عن تناول الطعام بسبب القلق، وبالمقابل هناك يلجأ إلى الأكل بشراهة وهو ما نسميه "التغذية العاطفية" كمهرب في القلق ويأكلون أكثر من المعتاد وقت الوجبات وما بين الوجبات، وكذلك السلوكيات الأخرى فهناك من يخرج من بيته ويلجأ إلى ممارسة الرياضة بشكل أكبر، وبالمقابل تجد من يمتنع عن ممارسة الرياضة، وآخر قد تجده يلتصق بالتلفاز لمشاهدة نشرات الأخبار أو بالمذياع أو بوسائل التواصل، وهناك من يعزف عنها كليا وينعزل وينأى بنفسه عن سماع الأخبار والتواصل مع الآخرين وحتى أنه ينقطع عن الأصدقاء، وآخر قد يتقرّب من الأصدقاء ويستأنس بهم. بالتالي كل السلوكيات الإنسانية العادية والطبيعية التي ترافقنا طيلة الحياة، قد تتراجع أو تتفاقم لنفس السبب ألا وهو حالة الحرب، وهذا يعود إلى المبنى الشخصي للإنسان وكيفية تأقلمه مع الأزمات ومع الضغوطات.

"عرب 48": هل الحالات التي تلجأ إلى طلب المساعدة النفسية بغالبيتها تعالج عن طريق جلسات علاجية أم تدخل فيها العلاجات بالعقاقير والأدوية المهدئة؟

جرايسي: يجب التمييز بين الحالات التي تصل لطلب العلاج بسبب الخوف والقلق من الحرب. هناك حالات جديدة لم تكن لديها خلفية بالماضي، وبسبب الحرب يتوجهون لطلب المساعدة والمساندة النفسية ولا أسمي هذا علاجا، لأنها كما ذكرت لك سابقا ردود فعل عادية وطبيعية في ظروف استثنائية، ونحن نسميه تدخلا نفسيا وليس علاجا.. تدخل من أجل الإسناد والدعم النفسي، وهناك عدة طرق من التدخل بدون استخدام الأدوية، إلا إذا كانت هناك حالات هلع شديدة جدا بحاجة إلى إعطاء بعض الأدوية المهدئة لفترات مؤقتة، لكن الدعم والمساندة والخدمة النفسية تكمن عمليا بتفهّم المتوجّه ومرافقته عن طريق شرح الحالة وإشعار طالب الخدمة النفسية بأنه موجود في مكان آمن وأننا معه وسنبقى بجانبه حتى يتجاوز الأزمة، وأن الأحداث المقلقة أصبحت من ورائنا، ونجعله يسيطر على نفسه يتحرّك لقضاء احتياجاته بنفسه، نمنحه الشعور بأنه غير عاجز وأنه قادر على القيام بواجباته، ألا نجعله يركن إلى زاوية بسبب خوفه، بل أن يبقى كل ما يحتاجه تحت سيطرته.

"عرب 48": متى يكون الخوف عاديا في ظروف غير عادية ومتى يتحوّل الخوف إلى حالة مرضيّة؟

جرايسي: الخوف يكون طبيعيا حين يكون على شكل رد فعل على حدث معيّن، ولكنه لا يكون طبيعيا عندما يرافقنا طوال الوقت، في الليل والنهار، ما يجعله يغير برنامج حياة الشخص والمحيطين به يوما بعد يوم، وعندما نرى بأن هذا الخوف يتفاقم أسبوعا بعد أسبوع لدرجة أنه سيطر على مجرى حياة الشخص وجعله يخاف من التوجه إلى مكان عمله ويحدث لديه اضطراب في النوم وفي تناول الطعام والعصبية وخلل في التواصل مع الآخرين، ونبدأ بالتفكير باقتراب ساعة الموت.

عندما يستمر هذا الخوف وهذا القلق لأيام وأسابيع عندها نقرر بأن هذا الخوف لم يعد رد فعل طبيعي لحدث أو أزمة معينة وإنما هو حالة مرضية، وعندها يكون من الضروري التدخل العلاجي الكلامي في الطرق العلاجية السلوكية في البداية، وإذا استمر هذا الخوف يتم التدخل العلاجي الدوائي عن طريق العقاقير المضادة للقلق.

"عرب 48": ما الذي يشتكي منه طالبو العلاج النفسي بالأساس، هل هو الخوف من سماع صافرة الإنذار، أم من دوي الانفجارات، أم من الاستيقاظ في ساعات الليل والركض إلى الملاجئ والغرف الآمنة؟

جرايسي: كل الأشياء التي ذكرتها هي تراكمية، فقد أصبحنا حين نسمع صافرة دورية الإسعاف أو الشرطة أو الإطفائية في الشارع ونستشعر الخطر حتى بدون حرب، وأنه هناك خطر على حياة شخص ما، ومن تجاربنا أصبحنا ندرك أن الصافرة التي يعلو صوتها وينخفض هي نذير خطر، وأُضيفت إليها مؤخرا الصافرة المرعبة والمزعجة التي تنطلق من الهواتف المحمولة التي تنذر بهجوم من إيران، وهي مقصودة لبث الرعب في النفوس وتحذيرهم بشكل مرعب من خطر محدق ويجعلهم يتنبهون له بكل حواسهم.

"عرب 48": هل البطالة والجلوس في البيت لمن لا تُعدُّ وظيفته "حيوية" حسب تعريف الجبهة الداخلية، تزيد من منسوب التوتر والقلق، والضغط النفسي، والمادي، والاقتصادي؟

جرايسي: بدون شك أن الاكتظاظ داخل البيت والاحتكاك بين أفراد البيت، والصعوبات المادية والاقتصادية والأطفال والأولاد المتواجدين المتعطلين عن مدارسهم وأطرهم التعليمية، وكل هذه الأشياء مجتمعة تزيد من عوامل التوتر والقلق، الخوف من الموت والخوف من الحرب والخوف من الفقدان والخوف من الخطر ومن الأذى النفسي والجسدي والخوف من الضائقة المادية لانعدام العمل، وعدم الترفيه عن النفس والخروج من البيت للزيارات وللمناسبات التي تُلغى الواحدة بعد الأخرى، كل شيء توقف بسبب الحرب وحالة الطوارئ التي نعيشها في البلاد.

"عرب 48": سؤال أخير.. أنت ذكرت أن منطقتنا حافلة بالحروب والعمليات العسكرية ولا تكاد تمر سنة واحدة إلا كنا نشهد فيها حربا أو حملة عسكرية، هل يمكن لكثرة الأحداث العدائية أن تطور مناعة نفسية لدى الفرد بحيث لا يعود يخشى الحروب؟

جرايسي: نعم.. نعم أنا اليوم في الثالثة والسبعين من عمري وقد شهدت كل الأحداث والحروب في المنطقة باستثناء الاحتلال عام 1948 وثورة عام 1936 اللتين عايشتهما من خلال أحاديث والدي، أما بقية الحروب منذ العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 حتى اليوم فقد شهدت وعايشت كافة الحروب والحملات العسكرية بأسمائها التوراتية المختلفة من "عناقيد الغضب" إلى "الرصاص المصبوب" إلى "عامود الغمام"، كلها أسماء مأخوذة من الكتاب المقدس لأعمال ليس فيها قدسيّة وتتنافى مع كل ما هو مقدّس.

التعليقات