نصف عام من الدم وغياب الردع: تحول نوعي بأدوات القتل وسطوة منظمات الإجرام

128 قتيلا ونحو 300 مصاب في النصف الأول من 2025 بالمجتمع العربي، وسط تصاعد الجريمة وتطوّر نوعي في أدوات القتل في ظل تقاعس الشرطة وغياب الخطط الحكومية لمكافحتها.

نصف عام من الدم وغياب الردع: تحول نوعي بأدوات القتل وسطوة منظمات الإجرام

مظاهرة قبالة مركز الشرطة في طمرة عقب جريمة قتل شاب في شباط/ فبراير 2025 (أرشيف "عرب 48")

تتصاعد وتيرة جرائم القتل وأحداث العنف في المجتمع العربي بشكل يشير إلى انفلات وفقدان للسيطرة، مع وقوع جرائم عنف وقتل بشكل يومي وسط تقاعس الشرطة عن توفير الأمن والأمان للمواطنين العرب وتواطؤها مع عصابات الإجرام، بالإضافة إلى غياب الخطط الحكومية لمكافحة الجريمة.

تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"

وبعد انقضاء النصف الأول من العام الحالي 2025، قتل 128 مواطنا عربيا بينهم 9 نساء في جرائم اقترفت بأسلحة نارية منهم 9 دون سن 18 عاما و59 ضحية دون سن 30 عاما، ومن ضمن الحصيلة أيضا 8 شبان قتلوا برصاص عناصر الشرطة في كفر قرع وعرابة وإكسال وعرعرة النقب وسط روايات حول وقوع تبادل إطلاق نار أو تنفيذ جرائم إطلاق نار على منازل.

معطيات بالأرقام.. والبلدات الأكثر نزفا

وسجل شهر حزيران/يونيو 2025، أكبر عدد من الجرائم حيث قتل 28 شخصا خلاله، فيما وقعت 15 جريمة قتل خلال شهر أيار/مايو، و25 جريمة قتل خلال شهر نيسان/أبريل، و12 جريمة قتل خلال شهر آذار/مارس، و27 جريمة قتل خلال شهر شباط/فبراير، و21 جريمة قتل خلال شهر كانون الثاني/يناير، من بينها جرائم مزدوجة أسفرت عن ضحيتين وجرائم حصدت أكثر في آن واحد، بالإضافة إلى ضحايا جرى إقرار وفاتهم بعد أشهر من تعرّضهم لإطلاق النار.

من مكان إحدى الجرائم بالمجتمع العربي (أرشيف "عرب 48")

وتصدّرت مدينتا الناصرة واللد عدد الجرائم، بـ10 جرائم قتل في كلٍّ منهما، تلتهما مدينة الطيرة بـ9 جرائم، ثم الرملة بـ8 جرائم، وشفاعمرو بـ6 جرائم، ورهط بـ5 جرائم، وتل السبع وعرعرة النقب بـ4 جرائم في كلٍّ منهما.

دائمًا ما يكون تسليط الضوء على عدد القتلى، إلا أنه في خلفية مشهد الضحايا هناك وضع أكثر تعقيدًا لمئات الإصابات جراء العنف والجريمة. ويُستدل من بحث خاص أجراه "عرب 48" إصابة نحو 300 شخص في المجتمع العربي منذ بداية العام الحالي، بينها إصابتان برصاص الشرطة.

ومن بين الإصابات، وُصفت 70 إصابة بالخطيرة وهي تعادل نسبة 23% من مجمل المصابين، بينما بلغت الإصابات المتوسطة 125 أي ما يعادل 41.5%، فيما وُصفت باقي الإصابات بأنها طفيفة أو متفاوتة.

وتبقى هذه الأرقام تقديرية وغير نهائية، في ظل امتناع الشرطة في كثير من الأحيان عن نشر تفاصيل حول جرائم العنف، فضلًا عن وجود إصابات تُعالج في مراكز طبية دون تسجيلها أو الإبلاغ عنها رسميًّا، إلى جانب حالات تُنقل فيها الإصابات إلى المستشفيات مباشرة دون توثيق رسمي.

"الجريمة باتت نظامًا موازيًا لنظام الدولة.. 23% من الجرائم هذا العام كانت مزدوجة"

وتقول مديرة غرفة الطوارئ لمواجهة الجريمة والعنف في اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية، راوية حندقلو، لـ"عرب 48"، إن "الارتفاع الكبير في عدد القتلى هذا العام لا يُعبّر فقط عن حجم الجريمة والعنف اللذين نعيشهُما، بل يشير إلى عمق تغلغل الجريمة وسيطرتها في مجتمعنا. نحن لا نتحدث فقط عن أرقام، بل عن مؤشّر لتفكّك داخلي، حيث تصبح الجريمة جزءًا من الواقع اليومي، وهي ’سيدة الموقف’، وبتوصيف دقيق باتت تُعتَبر نظامًا موازيًا لنظام الدولة".

راوية حندقلو

وأضافت "إذا كانت سنوات ما قبل 2023 قد شهدت تصعيدًا خطيرًا، فإن ما نراه اليوم هو لحظة فقدان سيطرة تام، يُقتل فيها الناس في وضح النهار ونعيش جميعًا من دون أي شعور بالأمان، إذ أن جرائم إطلاق النار تقع بالتوازي في أكثر من بلدة، علمًا بأن 23% من جرائم القتل هذا العام كانت مزدوجة، ناهيك عن تهديد موظفي الجمهور والمسّ في مؤسسات الحكم المحلي، من دون أي خطوات جدية أو نتائج على أرض الواقع من قبل سلطات تطبيق القانون، بخلاف الدور الذي تقوم به في المجتمع اليهودي، وأيضا بخلاف قضايا التعبير عن الرأي والملاحقة السياسية تجاه المواطنين العرب. هذا كله يؤكد أنه ليس مجرد فشل في الأداء الحكومي، إنما سياسات مقصودة تجاه المواطنين العرب. لذلك تلعب هذه الحكومة بالذات دورًا في تصاعد وتعميق الجريمة".

"مئات العائلات المتضررة، ومئات من القصص التي لم تُروَ"

وأشارت حندقلو، إلى أن "هناك مئات الإصابات التي غالبًا ما تُهمّش في التغطية الإعلامية والخطاب العام، وهذه الإصابات لا تنتهي دائمًا بالشفاء، كثير منها تخلف إعاقات دائمة وصدمات نفسية وعبئًا اقتصاديًّا هائلًا، لنا أن نتصور كيف تؤثر علينا كأفراد وكمجتمع. بحسب بحث غرفة الطوارئ، فإن 87% من المجتمع العربي يعرف شخصًا ضحية للجريمة والعنف، أي أننا جميعًا ضحايا لها".

من الرشاش والعبوات الناسفة وحتى الطائرات المسيّرة

وفي سياق تصاعد وتيرة الجريمة والعنف، لا بد من التطرق إلى تطوّر أساليب القتل، التي باتت أكثر تطوّرًا ونوعية. حيث شهد هذا العام ولأول مرة أكثر من حدث ألقت خلاله طائرات مسيّرة تابعة لمنظمات إجرامية قنابل نحو منازل، وقد وُثّقت حالتان في مدينة سخنين وبلدة إكسال. فضلًا عن الزيادة الملحوظة في استخدام العبوات الناسفة، التي تُزرَع في المركبات وتُفجّر عن بُعد.

تفجير مركبة بعد زرع عبوة ناسفة فيها (أرشيف "عرب 48")

وتطرقت حندقلو إلى ذلك بالقول "نحن لا نواجه مجرد تصاعد كمي في الجريمة، بل تحوُّلًا نوعيًّا خطيرًا في طبيعتها. المجتمع الفلسطيني في الداخل يشهد اليوم ’عسكرة’ متسارعة للجريمة المنظمة. إذ أن 3% من ضحايا الجريمة منذ بداية العام قُتلوا جراء تفجير عبوات ناسفة عن بُعد".

وأكملت "حتى الطائرات المسيّرة باتت جزءًا من مشهد مألوف في محاولات القتل والترويع، وذلك عدا عن التصعيد في الوحشية والسادية في جرائم القتل التي لم نشهدها من قبل، مثل قطع الرؤوس وحرق الجثث. نحن اليوم لا نتحدث عن أدوات عشوائية أو تقليدية، بل عن وسائل متقدمة تتطلب تمويلًا وتخطيطًا دقيقًا وقدرات استخباراتية.

وتابعت "هذا يدل على أننا نتعامل مع منظمات ذات بنية تحتية قوية، ولا يمكننا فصل هذا التحول عمّا أعقب 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 من تسرب غير مسبوق للأسلحة من الجنوب وتوزيع السلاح المرخص على المواطنين اليهود. بحسب المعطيات فإن 88% من الجرائم استُخدم فيها أسلحة نارية وأسلحة متطورة، وهذا كله في ظل غياب الردع وتطبيق القانون".

تطويع الاقتصاد بيد منظمات الجريمة

يُلاحظ في السنوات الأخيرة تغلغل منظمات الإجرام في الاقتصاد العربي المحلي وسيطرتها على جزء كبير منه، سواء في المؤسسات الرسمية كالمناقصات التي تطرحها السلطات المحلية أو عبر توجهات غير رسمية، وحول ذلك تقول حندقلو "لا يمكن فهم سيطرة الجريمة على المجتمع العربي من دون الغوص في جذورها الاقتصادية والاجتماعية. الفقر والبطالة وانعدام الفرص، خصوصًا في أوساط الشباب، لا يولّد فقط إحباطًا فرديًّا، بل يفتح المجال أمام منظمات إجرامية متطورة تقدم نفسها كبديل ’فعّال’ في ظل غياب الدولة".

موقع جريمة قتل أخرى في المجتمع العربي (أرشيف "عرب 48")

وأضافت أن "منظمات الجريمة لا تتحرك بدوافع أيديولوجية، إنما بدافع المال والسيطرة الاقتصادية. هذه المنظمات تدير شبكات واسعة من الربا والسوق السوداء وتجارة السلاح والمخدرات وابتزاز أصحاب المصالح. لكنها لا تكتفي بذلك، بل تحرص على بناء واجهات ’نظيفة’ لشرعنة نشاطها مثل شركات وهمية وعقارات ومقاولات ومؤسسات تعليمية، كلها تُستخدم لتبييض الأموال وتوسيع النفوذ".

وختمت حندقلو بالقول، إن "الخطير أن العديد من الأشخاص يُستدرجون دون وعي ليكونوا واجهة قانونية لهذه الأنشطة كموظفين وأصحاب مهن مختلفة ومقاولين، أو حتى أصحاب مشاريع صغيرة يجدون أنفسهم موقّعين على صفقات مشبوهة أو متورطين في غسيل أموال. الجريمة هنا لا تعني فقط القتل بل اختراق المجتمع وإغراقه في دائرة يصعب الخروج منها. منظمات الجريمة تستغل الأزمات الاقتصادية كفرصة ذهبية للتمدد، وتتحول إلى لاعب رئيسي يفرض قواعده، ويمنح ’فرص عمل’ وقروضًا مالية، ولكن بثمن باهظ من الحق في الحياة والكرامة والأمان. ببساطة، الجريمة المنظمة تبني اقتصادًا موازيًا وتستخدم أدوات قانونية لتمويه نشاطها، وتحوّل الأفراد إلى أدوات داخل منظومة مربحة تحمي نفسها بالعنف".

"كنت على وشك أن أفقد حياتي بالخطأ"

د. زياد محاميد

ويقول د. زياد محاميد من مدينة أم الفحم، الذي كان قد أُصيب في جريمة إطلاق نار قبل 8 سنوات وسبّبت له إعاقة دائمة، في حديث لـ"عرب 48"، إنه "في صباح يوم 23 آذار/مارس 2017، أُصبت برصاصتين في بطني ورجلي اليسرى أثناء تواجدي عند مصلحة تجارية في حي الشاغور بالمدينة. وقع إطلاق النار بسبب خلاف ليس لي علاقة به، وقد أُصبت عن طريق الخطأ".

وروى محاميد تفاصيل الأيام الأولى بعد الإصابة، قائلا إن "الإصابة أذهلتني وأدخلتني في غيبوبة لمدة 20 يومًا في مستشفى العفولة إثر وضعي الخطر حينها. كنت بين الحياة والموت وقد سبّبت الإصابة تمزقًا وتلوثًا في الأمعاء، ولاحقًا خضعت لـ8 عمليات جراحية خلال 3 أشهر، وبقيت في حالة صعبة لأكثر من عام ونصف".

"الإصابة سبّبت لي إعاقة مستدامة ومنعتني من ممارسة عملي كطبيب لفترة طويلة"

وأشار إلى آثار الإصابة التي لا تزال ترافقه، بالقول إن "الإصابة جعلتني معاقًا، إذ أنني أعاني من شلل بسبب تمزق عصب الساق والقدم وأسير بصعوبة كبيرة وبشكل متقطع، وما زلت أشعر بالآلام حتى اليوم، بالإضافة إلى خسارتي جزءًا من الأمعاء".

وتابع محاميد "ما زلت أعاني من حالة نفسية صعبة بسبب صدمة الإصابة. بفضل الله عدت للعمل وافتتحت عيادتي الخاصة بعد 3 سنوات من الحادث بدعم من زوجتي وأهلي ورفاقي، وأقمت جمعية باسم ’بأحسن تقويم’ لردع العنف المجتمعي، وحتى اليوم ما زلت مستغربًا كيف أُصبت وأنا إنسان مسالم تمامًا".

التعليقات