في السابع عشر من أيلول/ سبتمبر 1957، وتحديدًا عند الساعة الثانية بعد الظهر، وبينما كان أهالي صندلة يعملون على بيادر القرية، تناهى إلى مسامعهم دويّ انفجار غير معهود، هزّ أركان كافة بيوت قريتي صندلة والمقيبلة المتجاورتين، والمبنية بمعظمها من الطوب.
تصاعدت سحابة دخان كثيفة أخفت وراءها ما تناثر من أشلاء أطفال كانوا في طريق عودتهم من المدرسة. كان ذلك الدويّ صوت انفجار قنبلة خلّفت أكبر مجزرة أطفال في تاريخ فلسطين: 15 طفلًا شهيدًا وثلاثة جرحى من طلاب وطالبات مدرسة القرية (مدرسة التتر)، تراوحت أعمارهم بين ثماني سنوات وثلاث عشرة سنة، وكان معظمهم في الثامنة والتاسعة.
لم يكن أطفال صندلة يعرفون شيئًا عن القنابل. ففي أثناء عودتهم من المدرسة، الواقعة على طريق صندلة - المقيبلة، سيرًا على الأقدام، استوقف بعضهم جسمٌ حديدي مستدير، يلمع كبريقٍ، كان ملقىً على مسافة نحو عشرة أمتار على جانب الطريق. اقتربوا منه جميعًا، وحاولوا تقاذفه والعبث به، فانفجرت القنبلة، وحوّلت معظمهم إلى أشلاء تناثرت على تراب السهل.
منذ سنوات، يحيي أهالي قرية صندلة في هذا اليوم من كل عام (17 أيلول) ذكرى المجزرة التي حصدت أرواح ما يعادل صفًا دراسيًا كاملًا، وأحدثت صدمة في نفوس سائر الطلاب، حتى تحوّل يوم المجزرة إلى حدثٍ فاصل، له ما قبله وما بعده، في تاريخ القرية.
كان عدد سكان صندلة 250 نسمة في عام النكبة 1948، فيما يبلغ اليوم نحو 1900 نسمة، جميعهم من أبناء عائلة واحدة، هي عائلة العمري، التي يعرف جميع أفرادها بعضهم بعضًا.
التقى موقع "عرب 48" اثنين من أهالي قرية صندلة، كانا شاهدين على المجزرة، في الذكرى الـ68 لوقوعها، بعد أن عجزت الأيام والشهور والسنوات عن محو معالم ذلك اليوم الأسود الذي اتشحت به القرية.
العمري: مشهد لا يوصف!
لا يذكر المربي المتقاعد خالد إبراهيم العمري (أبو مأمون)، البالغ من العمر 79 عامًا، كم كان عمره بالضبط في ذلك اليوم، لكنه قال لـ"عرب 48": "كنت قد ترفعت إلى الصف الخامس، وأبلغ من العمر نحو التاسعة أو العاشرة. كنا نذهب إلى المدرسة كل صباح سيرًا على الأقدام، وفي أيام الشتاء والمطر كنا نخلع أحذيتنا ونمشي حفاة. المدرسة كانت عبارة عن بناية مؤلفة من 5 - 6 غرف، قائمة وسط طريق ترابي يمتد بين قريتي صندلة والمقيبلة، وهي أقرب إلى المقيبلة منها إلى صندلة، ويتعلم فيها طلاب المرحلة الابتدائية من أبناء القريتين. وبجوارها كانت هناك بناية أصغر كنا نطلق عليها 'الدار البيضاء'، لأنها مبنية من الطوب ومطلية باللون الأبيض، وكانت تُستخدم كغرفة للمعلمين والإدارة. وكان مدير المدرسة في حينه عبد القادر محاجنة (أبو نبيل) من أم الفحم".
وأضاف أبو مأمون: "في يوم 17 أيلول/ سبتمبر 1957، وإن لم تخنّي الذاكرة فقد كان يوم ثلاثاء، خرجتُ من المدرسة مع صديق لي من أبناء صفي يُدعى محمد. وأثناء عودتنا، شاهدنا تجمعًا لعدد من الطلاب يحملون جسمًا غريبًا يشبه إلى حد كبير عبوة مشروبات غازية بحجم ليتر ونصف. كانوا يطرقون عليه محاولين اكتشاف ماهيته، فيما ازداد عدد الطلاب حوله بدافع حب الاستطلاع، وكلٌّ منهم يقترح طريقة لتفكيك هذا الجسم المشبوه".
وتابع: "صديقي محمد انتبه للأمر وقال لي: 'خالد، تعال نبتعد، هذه عبوة قد تنفجر!". وسار أمامي، وتبعته بخطى بطيئة. وما إن ابتعدنا نحو مئة متر عنهم، حتى دوّى انفجار هائل في السهل. نظرنا إلى الوراء، فإذا بسحابة من الدخان يمتزج فيها الغبار والتراب وأشلاء الأطفال في مشهد لا يوصف!".
68 عامًا على مجزرة صندلة.. خالد إبراهيم العمري يستعيد مع "عرب 48" تفاصيل اليوم الدامي وما تركه من فقد وذاكرة لا تُمحى pic.twitter.com/w3IJHjQGtd
— موقع عرب 48 (@arab48website) September 17, 2025
وأكمل الشاهد على المجزرة: "هرع أهالي صندلة إلى المكان لتفقد أولادهم، ففقد بعضهم طفلين، وآخرون فقدوا ثلاثة أبناء خلال ثوانٍ معدودة. كانت الحصيلة النهائية للمجزرة استشهاد 15 طفلاً وطفلة، وإصابة ثلاثة آخرين. من بينهم الطفلة ميسَر، ابنة أبو عزيز، وقد بُترت ساقها، والطفل فتحي، وهو من أقاربي، أُصيب في ساقه، وكذلك خليل أحمد العبد، وهو أيضًا من أقربائنا. نُقل الثلاثة إلى المستشفى للعلاج، فيما شُيّعت جثامين الأطفال الشهداء إلى المقبرة في الجهة الشرقية للبلدة".
وأكد أبو المأمون أنه "أُقيمت في حينه ذكرى للشهداء، رغم أن القرية كانت خاضعة للحكم العسكري، ولم يكن من السهل التنقل أو المشاركة في التشييع أو الفعاليات التذكارية. ورغم ذلك، حضر الشاعر والصحفي راشد حسين من بلدة مصمص في المثلث الشمالي، وكان حينها لا يزال في عنفوان شبابه، وألقى قصيدة بعنوان 'الغلة الحمراء' أمام الناس".
انتقل طلاب صندلة، بعد تلك الحادثة الكارثية، للتعلّم في غرف خُصّصت للتعليم داخل القرية وفي المسجد.
لم يكن من السهل على الطلاب استيعاب الحدث أو تجاوزه، فقد ترك أثرًا بالغًا في نفوسهم. ويقول أبو المأمون: "لو أنهم بقوا ولم يُستشهدوا، لكانت ذريتهم اليوم تُشكّل ما يعادل ربع سكان القرية!".
ورداً على سؤال حول سبب غياب المجزرة عن الذاكرة الفلسطينية لعقود، وعودتها إلى الواجهة بعد أكثر من عشرين عامًا من وقوعها، قال: "نعم، بالفعل، لم يكن لدى الأهالي الوعي الكافي لتخليد الذكرى، كما لم يُفتح أي تحقيق في ملابسات المجزرة، ولا كيف وصلت القنبلة إلى طرف الشارع الذي يمر به طلاب المدرسة، ولا ما هو مصدرها".
ولفت إلى أنه "لاحقًا، قام الحاج أبو ناظم، أحد أبناء القرية، بالمبادرة لإحياء الذكرى وتنظيم مهرجان لتخليد الشهداء".
وعن مصدر القنبلة، أوضح العمري: "أنا أعتقد أنها كانت من مخلفات الاحتلال عام 1948، لكن هناك روايات أخرى، إحداها تقول إن فلاحًا يهوديًا من أصل عراقي كان يعمل على حصادة تعود لمسؤول في الوكالة اليهودية، قد عثر على القنبلة وحملها على الحصادة معتقدًا أنها طاحونة ذرة. وعندما رآها المسؤول، طلب منه التخلص منها فورًا لأنها تبدو كقنبلة معرّضة للانفجار. فما كان من العامل إلا أن ألقاها على جانب الطريق الترابي المؤدي إلى المدرسة".
ساحوري: هذه قنبلة.. ابتعدوا عن المكان÷
أما زهير ساحوري (أبو جورج)، ابن بلدة المقيبلة في حينه، فقد كان طالبًا في مدرسة "التتر" عام 1957، وكان شاهدًا على المجزرة.
وفي حديثه لـ"عرب 48"، قال: "أنا ابن لعائلة مسيحية كانت تسكن في بلدة المقيبلة، وكنتُ في تلك الفترة أتعلم في مدرسة 'التتر' الواقعة بين صندلة والمقيبلة. كنا نتوجه إلى المدرسة عبر طريق ترابي يمتد بين القريتين. كانت المدرسة أقرب إلى بلدتنا، المقيبلة، منها إلى صندلة، لكنها لم تعد قائمة اليوم، إذ أُقيمت على أنقاضها مستوطنة 'ماغين شاؤول' المجاورة".
وأشار إلى أنه "أذكر أنني كنتُ في الصف السادس، المشترك بين الطلاب والطالبات. وعلى مقربة من المدرسة، كانت تقع مستوطنة زرعين، وفيها خزان مياه كنا نملأ منه البراميل ونحملها على عربات، في ظل غياب صنابير المياه في البيوت".
وأضاف الشاهد على المجزرة: "أتذكر جيدًا أن الحصة الأخيرة في ذلك اليوم كانت مخصصة لتعليم الدين الإسلامي، وكنا - أنا والطالب وفيق سعد - الطالبين المسيحيين الوحيدين في المدرسة، ولذلك كنا مخيرين بين حضور الدرس أو التغيّب عنه. وقد غادرتُ المدرسة مبكرًا، والتقيت بجدي، الذي طلب مني مرافقته إلى زرعين لملء المياه من الخزان".
في الذكرى الـ68 لمجزرة صندلة: شهادة حية يرويها زهير ساحوري تكشف تفاصيل اللحظات الأخيرة pic.twitter.com/EbjrIqdi3l
— موقع عرب 48 (@arab48website) September 17, 2025
وتابع ساحوري: "في طريق العودة التقيت بالطالبة سهام ابنة زكريا، وهي طالبة في صفي، وعلى مقربة منها شاهدت مجموعة من الطلاب (10 - 15 طالبا) يتحلّقون حول جسم غريب لمّاع داخل السهل، فنادتني سهام وقالت لي 'تعال اقترب، لقد وجدنا كنزا من الذهب'! نظرت إلى الجسم المشبوه وقلت لها 'هذه قنبلة.. ابتعدوا عن المكان'، لم يستجيبوا وواصلوا العبث في الجسم المشبوه. في تلك الأثناء مرّ من المكان والد الطفلة سهام، الذي كان يعمل سائق سيارة أجرة، وقد ركب معه ابنه سمير، لكن سهام بقيت في المكان مع الطلاب الذين يعبثون بالجسم الغريب، وما أن ابتعدت أنا عن المكان وإذا بي أسمع انفجارا مدويا هزّ أركان البلدة، وهرع الأهالي إلى المكان، وبدت الصدمة وحالة الذهول على الوجوه عندما اتضح وجود 15 جثة صغيرة بعضها أشلاء مقطعة، وكانت من بينهم الطفلة سهام ابنة صفي التي كنت أتحدث معها قبل دقيقة من وقوع المجزرة".
شارك ساحوري في تشييع جثامين عدد من زملائه من الأطفال الشهداء، ويقول: "ما لن أنساه أبدًا هو بيت الشعر الذي قاله شاعر حضر موكب التشييع وألقى قصيدة جاء فيها: «مرج ابن عامر، هل لديك سنابل أم فيك من زرع الحروب قنابل؟» ولا زلت أحفظ هذا البيت عن ظهر قلب منذ ذلك الحين".
وعلى عكس ما ورد في بعض المصادر من أن كل عائلة جمعت أشلاء أبنائها وتوجهت إلى المقبرة بشكل منفرد، يؤكد ساحوري أن قرية صندلة خرجت عن بكرة أبيها في موكب جنائزي واحد تم خلاله تشييع جثامين شهداء المجزرة، أعقبه تنظيم فعالية تأبينية تخليدًا لذكراهم، ألقى خلالها الشاعر راشد حسين قصيدته الشهيرة.
ورغم مرور عشرات السنين على المجزرة، تأبى الذكرى أن تفارق ذاكرة ساحوري، الذي لا يزال يحفظ أسماء الشهداء من أبناء صفّه وأقرانه، ويضيف: "كانت علاقتنا قوية بطلاب صندلة، كنا كأبناء بلد واحد. وقد تركت المجزرة أثرًا بالغًا في نفسي، وسادت بعدها حالة من الاضطراب في المدرسة، استغرق وقتًا طويلًا حتى استطاع الطلاب استيعاب ما حدث والتأقلم مع واقع ما بعد المجزرة. بل إن كل شيء تغيّر، ولم تعد المدرسة كما كانت، حتى تفرّق طلابها وعاد كل منهم ليتعلم في بلدته".

الشهداء
15 شهيدًا وشهيدة من قرية صندلة الصغيرة، ومن عائلة واحدة هي آل العمري، بأسماء عربيّة فلسطينيّة حتى النخاع استُشهدوا في عمر الزهور، وهم:
1- آمنة عبد الحليم عمري - 10 سنوات
2- طالب عبد الحليم عمري - 13سنة
3- غالب عبد الحليم عمري - 8سنوات
4- محمد عبدالله عبد العزيز عمري - 13سنة
5- اعتدال عبد القادر عمري - 9 سنوات
6- رهيجة عبد اللطيف عمري - 8 سنوات
7- سهام زكريا عمري - 8 سنوات
8- صفية محمود عمري - 8 سنوات
9- عبد الرؤوف عبد الرحمن عمري - 8 سنوات
10- فاطمة أحمد يوسف عمري –10 سنوات
11- فهيمة مصطفى أحمد عبد الرحمن عمري - 8 سنوات
12- محيي الدين سعد عمري - 9 سنوات
13- يوسف أحمد محمد عمري - 8 سنوات
14- يحيى أحمد حسن عمري - 9 سنوات
15- فؤاد عبد الله محمد عبد العزيز عمري - 8 سنوات.
اقرأ/ي أيضًا | مجزرة أطفال صندلة.. لماذا وقعت من ذاكرتنا؟
التعليقات