نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية في الأيام الأخيرة خبرا مفاده التحقيق مع مشبوهين بقتل "مُخرّب" فلسطيني في يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ، أي في اليوم الأول من الحرب!
تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"
ما هذا يا هذا؟ يبدو من هذا التحقيق أنّ إسرائيل دولة قانون إلى درجة عجيبة من الالتزام، فرغم الهجوم عليها في السّابع من تشرين الأول/ أكتوبر الذي قتل فيه المئات، فهي تهتم بأن لا يقتل إنسان هكذا بصورة عشوائية، وأن القانون فوق الجميع إلخ... مما يوحي به هذا التحقيق!
يأتي الإعلان عن هذا التحقيق، ضمن محاولات مستميتة لإنقاذ صورة "الدولة الديمقراطية" فقد طلبت المستشارة القضائية للحكومة، غالي بهراف - ميارا بإغلاق معسكر اعتقال سديه تيمان فورًا.
هذا المعسكر الذي أقيم في النّقب كمحطة اعتقال انتقالية، ريثما يجري توزيع الأسرى على بقية المُعتقلات، إلا أنّه تحول إلى معتقل دائم، يجري فيه تعذيب الأسرى الفلسطينيين وتجويعهم وممارسة مختلف ألوان السّادية والعنف ضدهم، وبشهادة بعض الخارجين من جحيمه، فإن التعذيب أدّى إلى استشهاد كثير من المعتقلين، وقد اعترفت السّلطات بأنّ حوالي أربعين معتقلا لاقوا حتفهم تحت التعذيب في هذا المعتقل لوحده، وكانت أبشع الشّهادات عن إطلاق كلاب مدرّبة على الأسرى وهُم مقيّدون وعراة، وقد كشفت جمعيات حقوق الإنسان عن ألوان عديدة من التعذيب من تجويع وعصب للأعين طيلة اليوم، وإبقاء كشّافات مضاءة طيلة الليل، وإرغام الأسرى على الركوع لفترات تصل إلى عشرين ساعة، وضرب وإذلال من يطلب ماءً للشرب.
لم يُغلق هذا المعسكر حتى الآن، لأنّ وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، يضع عراقيل أمام إغلاقه، بحجة أنّ السُّجون لا تتسع لأعداد الأسرى، بينما يُحذّرُ حقوقيون من أنّ ما يجري في هذا المعتقل له إسقاطات خطيرة تصل إلى حد إدراجها ضمن جرائم الحرب.
منذ تأسيس دولة إسرائيل لعب النظام دور النّظام الديمقراطي، وثابر على بثّ صورة توحي بأنّ كلّ شيء يجري "بحسب القانون"، فالكنيست يسنّ القوانين، وعلى الشّعب أن يلتزم بها، بما في ذلك الشّعب الواقع تحت الاحتلال.
هكذا جرت مصادرة فلسطين بصورة تدريجية و"قانونية"، وهكذا استشهد عشرات آلاف الفلسطينيين، وهكذا أقيمت المستوطنات على الأراضي التي يعتبرها القانون الدولي مُحتلّة، بينما يعتبرها قانون الكنيست شرعية.
هكذا رسّخت القيادات الصهيونية في الوعي المحلّي والعالمي وجود استيطان قانوني وآخر غير قانوني، وممارسات عنصرية مغلفة بالقوانين، وأخرى عنصرية مفضوحة خارجة عن القانون، وهذه أهم وظائف الدولة، تنظيم وقوننة العنصرية والاحتلال والاعتقالات وحتى إطلاق النار على "مشبوه".
طلب المستشارة القضائية بإغلاق سديه تيمان، يوحي بأنّها دولة قانون، وبأنّها ما زالت متمسكّة بلقب الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.
كذلك فقد دعت المستشارة القضائية إلى التحقيق مع الوزير إيتمار بن غبير بشأن تصريحات له حول إبادة سكان قطاع غزة.
ما يجري في الواقع هو إبادة جماعية، ولكن يجب أن يرى العالم، ومحكمة العدل الدولية والجنائية وغيرها أن إسرائيل دولة قانون، وأنّ هناك من يطالب بالتحقيق مع وزير فاشي، ولكن الوزير الفاشي لم يرض الدخول في لعبة صورة الديمقراطية، فأصرّ ويصرّ على تصريحاته الداعية إلى قتل الغزيين، لأنه لا أبرياء في قطاع غزّة، ويصرُّ على تجويع الأسرى، لأنّهم لا يستحقون سوى رصاصة في الرأس.
الصورة الديمقراطية المرجوّة، تنطبق على إعلان الجيش بأنّه سيجري تحقيقًا حول تحميل شاب فلسطيني جريح في مخيم جنين على مقدمة سيارة جيب والطواف فيه، ومنع سيارات الإسعاف من الوقوف لإسعافه!
الممارسات في الواقع أدهى وأمرّ من مجرّد حمل جريح على مقدّمة سيارة الجيب، التي رآها العالم، فجرائم الاحتلال أكثر من أن تحصى، وأكثرها تجري من غير شهود، وبعيدا عن عيون الكاميرات، ولهذا فإن الصحافيين مستهدفون.
وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، وقّع على مصادرة 24 ألف دونم من أراضي الضفة الغربية، وعلى إقامة خمس مستوطنات جديدة، هذا من وجهة نظر الاحتلال قانوني، ولكن في الوقت ذاته يجري إجلاء مستوطنين بالقوّة لأنّهم أقاموا بؤرة استيطانية بصورة غير شرعية، والمدّعي العام يُطالب في التحقيق مع مستوطنين متورّطين في مهاجمة بيوت الفلسطينيين، طبعًا لأجل الصورة الديمقراطية.
وضمن الجهود لأجل الصورة الديمقراطية، قرّرت إسرائيل إرسال ممثّل لها إلى محكمة العدل الدولية مكان القاضي أهارون باراك الذي استقال، وأرسلت البروفيسور في الحقوق رون شابيرا، رغم أنّه لا يعترف بمحكمة العدل الدولية، ووصفها بأنّها جسم لا يستحق الثّقة ويدفع إلى التطرّف، بمعنى آخر ترسل إسرائيل ممثلا إلى محكمة العدل الدولية، لأجل توبيخها ثم التقاط صورة للدولة الديمقراطية.
ولأجل الصورة، فوجئ العالم بحشد قوات كبيرة من "حرس الحدود" والشّرطة بالمئات، لإخلاء مستوطن "متطرّف" بنى له مستوطنته الخاصة على أرض خاصة لمواطن فلسطيني! فجأة استيقظت الدولة كلها لإخلائه، لأجل التقاط الصورة، ونقلها في ما بعد إلى الصحافة العالمية، وإلى البيت الأبيض ولكل المعنيين و"القلقين" على ديمقراطية وصورة إسرائيل القانونية.
في الوقت الذي يموت الناس جوعا في قطاع غزة بسبب الحصار الذي يعتبر جريمة حرب، وقصف مراكز إيواء النازحين، يقوم الجيش الإسرائيلي بإعادة تشغيل خطّ كهرباء لتشغيل محطة تحلية للمياه في جنوب قطاع غزة، لأجل الصورة.
إسرائيل تدّمر مستشفيات قطاع غزة، وتأمرها بالإخلاء، وفي الوقت ذاته تتحدث عن مباحثات في آلية تحويل مرضى من قطاع غزة إلى مصر أو غيرها، هذا يعني أن تدمير المستشفيات، يجري بحسب القانون.
إطلاق سراح مدير مستشفى الشفاء في قطاع غزة، سبّب بلبلة، فمن الذي أمر بالإفراج عنه؟ لأن الإفراج عنه يعني أنه غير مدان بأية تهمة أمنية رغم اعتقاله مدة سبعة أشهر! ورغم أن إسرائيل بذلت جهودًا جبّارة، لشيطنة مستشفى الشّفاء وإدارته ووصفه كمركز قيادة لحركة حماس! فكيف يطلق سراحه؟ لأجل الصورة طبعًا.
في بداية الحرب استخدمت كلَّ ثِقلها الإعلامي بما في ذلك تصوير امرأة محجّبة تحدثت بعربيّة ركيكة ناشدت فيها العالم لإنقاذ المرضى من يد حماس الذين "سرقوا الدواء المخصّص للمرضى"، تبيّن فيما بعد أنّها ممثلة إسرائيلية، ولكن صورتها وصلت إلى أميركا والغرب على أنها امرأة غزاوية تطلب إنقاذ المرضى من يد حماس، بينما إسرائيل ترتكب حتى يومنا جرائم حرب بحق المرضى والمستشفيات.
لا احتلال مع ديمقراطية، ولا ديمقراطية مع احتلال، لا موضوعية ولا عدل ولا إنصاف ما دام أن هنالك احتلالا، فهو بالضرورة يمارس العنصرية وجرائم الحرب والموبقات بكل أشكالها وألوانها.
التعليقات