10/06/2025 - 20:45

الرواية الإسرائيلية: أدواتها المفهومية والرمزية في تهويد الحيّز والذاكرة - النقب نموذجا

إن الصراع في النقب ليس مجرد صراع على الأرض، بل هو معركة على المعنى، والذاكرة، والانتماء. الرواية الإسرائيلية لا تكتفي بالاحتلال الفيزيائي، بل تسعى لاحتلال الوعي، عبر نفي الآخر من التاريخ، وتجريده من رموزه، ومفاهيمه، وحقه في السرد.

الرواية الإسرائيلية: أدواتها المفهومية والرمزية في تهويد الحيّز والذاكرة - النقب نموذجا

من المظاهرة الجبارة لأهالي النقب في بئر السبع نهاية أيار/ مايو المنصرم (عرب 48)

منذ نكبة عام 1948، يعيش النقب حربا تراكمية متعددة الأوجه، تطال الأرض والبيت، الهوية والتاريخ. فالهدم السنوي لأكثر من ألفي منزل، أي ما يعادل أربع قرى صغيرة، ليس سوى شاهد واحد على منظومة ممنهجة تهدف إلى إعادة تشكيل الجغرافيا والديمغرافيا لصالح المشروع الصهيوني.

تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"

جوهر هذه الإستراتيجية يقوم على تفريغ الأرض من أهلها، وحصر الوجود العربي في رقع ضيقة مقابل التوسع الاستيطاني اليهودي على مساحات شاسعة. يتجلى ذلك في إقامة أكثر من 80 "مزرعة فردية" تحتل عشرات آلاف الدونمات، ناهيك عن المخططات المستمرة لاقتلاع القرى غير المعترف بها، كمخطط المناطق العسكرية الذي يشمل المناطق الواقعة بين عرعرة والفرعة - بما في ذلك القرى: المزرعة، قطامات، المطهّر، غزةُ وغيرها — وكذلك منطقة سعوة وعتير.

تُضاف إلى هذه الممارسات مصادرات جائرة بدأت منذ الثمانينيات لأراضٍ أقيم عليها لاحقًا مطار "نيفاتيم" والمنطقة الصناعية "كيدما هنيغيف"، على حساب قرى البحيرة، السرة، بئط الصرايعة وتل الملح، بالإضافة إلى أراضي أبو تلول ومنطقة أم متنان لصالح الصناعات الكيمائية والعسكرية.

زد على ذلك، تُمارَس هذه المصادرات أيضاً عبر محاكم تُسخّر لخدمة الرواية الإسرائيلية، فيما يُعرف بـ"الدعاوى المضادة"، حيث يُطالَب أصحاب الأرض بإثبات ملكيتهم، في وقت تكون فيه الأحكام منحازة سلفًا نحو الرواية الصهيونية القائلة إن هذه "أرض إسرائيل" و"أرض الميعاد"، ولم يسبق أن كسب صاحب أرض عربي أي دعوى في هذه المحاكم.

أدوات الرواية الإسرائيلية: المفهومية والرمزية

لم يقتصر المشروع الصهيوني على السيطرة بالقوة، بل اعتمد أيضا على أدوات مفهومية ورمزية لترسيخ شرعيته الزائفة ونزع الشرعية التاريخية الحقة عن الوجود الفلسطيني، وهنا تبرز ثلاث أدوات رئيسية:

أولاً: الأدوات المفهومية (Conceptual Tools)

1. أسطورة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض":

تقوم هذه المقولة، التي شكّلت إحدى ركائز الفكر الصهيوني والدعم الغربي (نموذج وعد بلفور)، على إنكار وجود الفلسطينيين أصلا، وتصوير الأرض كفراغ ينتظر "شعب الله المختار". وقد تُرجمت هذه الفكرة إلى قوانين عنصرية مثل "قانون القومية"، وقوانين التخطيط والبناء، التي تحرم الفلسطينيين من الاعتراف بقراهم أو تنظيم مساكنهم، وتصنفهم كـ"غزاة الأرض" و"بدو شتات"، ما يجعل وجودهم غير قانوني في نظر الدولة.

2. الخطاب الأمني:

تستخدم إسرائيل مفردات الأمن والتهديد الوجودي كمبرر لتوسيع المستوطنات واقتلاع القرى. تُرسم الخطط التخطيطية بناء على منطق عسكري، يهدف إلى قطع التواصل الديمغرافي الفلسطيني، والسيطرة على المرتفعات مثل نموذج "همتبسيم" في الجليل والطرق الحيوية، كما هو الحال في مشروع زرع شارع 25 بين بئر السبع وديمونا بالمستوطنات. تتكامل هذه السياسة مع الإستراتيجية الأوسع لفصل النقب عن الضفة الغربية وغزة، وعزل الفلسطينيين عن بعضهم.

3. إنكار النكبة وشيطنة الفلسطيني:

تستند الرواية الإسرائيلية إلى خطاب "الضحية الأبدية" ما بعد الهولوكوست، وتُقدّم نفسها كواحة ديمقراطية وسط "بحر من الديكتاتوريات". وبذلك، تُطمس النكبة، وتُشوَّه الرواية الفلسطينية، ويُقصى الفلسطيني من الحيّز التاريخي والرمزي. وهذا الإنكار ليس مجرد تجاهل، بل هو تبرير أخلاقي للعنف الاستعماري، مدعوم بإنتاج ثقافي وإعلامي ضخم يخدم هذه السردية. حرب الإبادة الجماعية على غزة اليوم نموذجا.

ثانياً: الأدوات الرمزية (Symbolic Tools)

تعتمد إسرائيل على رموز توراتية مثل "أرض الميعاد"، و"شعب الله المختار"، و"الهيكل" لبناء شرعية دينية وتاريخية بديلة للذاكرة الفلسطينية. كما تستغل الخرائط لعرض فلسطين كأرض خالية قبل 1948، وتستخدم اللغة كوسيلة استعمار ثقافي، عبر طمس اللسان العربي، وتحويله تدريجيا إلى مزيج من العربية والعبرية، ظاهرة أطلقت عليها في أحد مقالاتي السابقة لغة "العربريت"، حيث فقد قطاع لا يستهان به من عرب الداخل، وخصوصا النخب، القدرة على التعبير عن نفسه باللغة العربية من دون استعمال مصطلحات وكلمات عبرية. وهذه ظاهرة لغوية تنم عن اغتراب الهوية وفقدان أدوات التعبير، وسبق أن مارسها الاستعمار الفرنسي في الجزائر ودول المغرب. والمقارنة هنا بين نموذج فرنسة الجزائر وعبرنة اللسان العربي في إسرائيل. أضف لكل ذلك الصور والبروباغندا، فهي أدوات تغذية مستمرة للصورة النمطية: الفلسطيني عنيف، بدائي، متخلف؛ في مقابل الإسرائيلي المتحضر، الضحية، الحالم بالسلام.

خلاصة القول: بين الحيّز والذاكرة.. النقب جبهة كاشفة

إن الصراع في النقب ليس مجرد صراع على الأرض، بل هو معركة على المعنى، والذاكرة، والانتماء. الرواية الإسرائيلية لا تكتفي بالاحتلال الفيزيائي، بل تسعى لاحتلال الوعي، عبر نفي الآخر من التاريخ، وتجريده من رموزه، ومفاهيمه، وحقه في السرد. وفي مواجهة هذا المشروع، تصبح إعادة بناء الرواية الفلسطينية وتثبيتها في الفضاء العام - ثقافيا، لغويا، وحقوقيا - أولوية إستراتيجية لا تقل أهمية عن الدفاع عن الأرض نفسها. فالنقب، الذي يسكنه التاريخ كما يسكنه أهله، يقدّم نموذجا حيا لفهم آليات تفكيك الهوية وإعادة تشكيل الجغرافيا وفق أدوات استعمارية جديدة، ما يستدعي منا جميعا قراءة هذا المشهد بعمق، ومقاومته بما يستحق من وعي وثبات.

وهذه مهمة جيل الشباب، من الجنوب والشمال، الذي صنع هبة النقب في المظاهرة الأخيرة، وقادر أن يصنعها بزخم أكبر في مظاهرة الخميس المقبل.

إن المقاومة المدنية والثقافية حق شرعي لكل المواطنين، سواء العرب أو اليهود، وعلى اليسار الإسرائيلي وكل من هو معني في العدالة والمساواة والسلام من خلال إقامة دولة ديمقراطية واحدة بين النهر والبحر، أو حتى حل الدولتين، الذي أصبح مستحيلا، نعم عليه المشاركة في نضال عرب النقب لنيل حقوقهم.

التعليقات