02/10/2025 - 15:41

ذكرى هبة القدس والأقصى: من "التصوّر المستقبلي" إلى الفراغ... آن أوان الفعل الجماعي الجديد

إذا لم نكتب نحن ميثاقنا الجديد، فسوف يكتبه غيرنا ضدنا، وإذا لم نرسم نحن تصورنا لمستقبلنا، فسوف يُرسم لنا مستقبل من المحو والذوبان.

ذكرى هبة القدس والأقصى: من

أرشيفية (Getty Images)

مرّت خمسة وعشرون عامًا منذ اخترق الرصاص صدور شبابنا في تشرين الأول/ أكتوبر 2000، لتتدفّق الدماء في شوارع قرانا ومدننا، وتتحوّل هبّة القدس والأقصى الشعبية إلى لحظة مفصلية غيّرت وعي الفلسطينيين في الداخل إلى الأبد.

لم تكن هبّة القدس والأقصى مجرد احتجاج على ممارسات الشرطة أو على التمييز، بل كانت صرخة وجودية عارية في وجه العقد الزائف الذي فُرض علينا منذ النكبة، وضد واقع التهميش، والعنصرية، والتمييز البنيوي، والاعتداء على الحق الفلسطيني المسلوب، وانتهاك المقدسات. لقد فجّرت لحظة الدم تلك حاجة عميقة إلى مراجعة جذرية لعلاقتنا مع الدولة، وإعادة التفكير في مكانتنا كأقلية أصلانية تعيش في وطنها من دون اعتراف كامل بوجودها.

في أعقاب تلك الأحداث، صدر تقرير لجنة "أور"، الذي حمّل الشرطة مسؤولية مقتل ثلاثة عشر شهيدًا، وأوصى الدولة بـ"تحسين تعاملها مع مواطنيها العرب". يا للمفارقة! فأي تحسين هذا الذي أوصلنا، بعد عقدين ونصف، إلى ما نحن عليه اليوم؟

لكن الأهم من التقرير الرسمي لم يكن ما قالته الدولة عن نفسها، بل ما قلناه نحن عن أنفسنا.

من رحم الصدمة، خرجت "وثائق التصوّر المستقبلي": الدستور الديمقراطي، وثيقة حيفا، ووثيقة لجنة المتابعة العليا ومؤسسات المجتمع المدني.

لم تكن تلك النصوص مكتملة، ولم تدّعِ الكمال، لكنها كانت إعلانًا جماعيًا عن رغبة في صياغة مشروع وطني جامع، ومحاولة لتأسيس عقد اجتماعي بديل، يضمن المساواة القومية والمدنية، ويضع سقفًا مشتركًا لمستقبلنا.

كانت تلك آخر مرة اجتمعنا فيها كأقلية على ضرورة صقل مشروع فكري - سياسي جامع، يواجه الأسئلة الوجودية والسياسية الكبرى في آن واحد.

ومنذ ذلك الحين، تغيّر كل شيء. ارتفعت نسب التعليم والانخراط في سوق العمل، لكن الفجوات بقيت عميقة، وظلّ الفقر والتهميش سمة مركزية.

تراجع التمثيل السياسي من كتلة وازنة إلى حالة من التشرذم والتفكك، وانزلقت الأحزاب العربية إلى حضن اللعبة السياسية الإسرائيلية، مدفوعة بوهم الاندماج والبحث عن مقعد صغير في منظومة مصمّمة لنفي وجودنا القومي.

وفي الوقت ذاته، تفاقمت الجريمة المنظّمة وأعمال القتل والترهيب، حتى صارت تهديدًا داخليًا وجوديًا، بينما غابت الدولة أو تواطأت، تاركة مجتمعنا ينزف دمًا ورعبًا.

ثم جاء أيار/ مايو 2021، لتنفجر "هبة الكرامة" وتعيد لحظة المقاومة الشعبية إلى الشارع، لكن سرعان ما أُخمِدت بالقمع الأمني والاعتقالات والملاحقات، لتدخل التجربة العربية في الداخل مرحلة جديدة من الردع والشلل.

لم يكد يمضي وقت طويل، حتى هبطت علينا حرب الإبادة على غزة في 2023 - 2024، لتقضي على ما تبقّى من هوامش العمل السياسي.

صار الصوت العربي خافتًا، يتهامس في البيوت بدل أن يهتف في الساحات، مترددًا، خائفًا، محاصرًا بالقوانين، بالتحريض، وبالرقابة؛ ومفتّتًا إلى مبادرات فردية متناثرة، لا تملك وزن الفعل الجماعي ولا زخمه.

ما نعيشه اليوم ليس أزمة عابرة، بل فراغ سياسي قاتل.

فراغ يُعد نتيجة طبيعية لانزياح الأحزاب نحو الاندماج في المنظومة الإسرائيلية على حساب المشروع الوطني الجامع، ولتحوّل لجنة المتابعة من إطار قيادي جامع إلى هيئة تقتصر على ردود الفعل العاجزة، ولانكماش المجتمع المدني الذي كان، في مطلع الألفية، قادرًا على إنتاج وثائق إستراتيجية، فإذا به اليوم مقيّد ومفتّت.

وهكذا، وجدنا أنفسنا بعد ربع قرن على هبّة أكتوبر، بلا رؤية، بلا مشروع، بلا أفق.

لكن الفراغ لا يمكن أن يستمر إلى الأبد؛ فالتاريخ لا يقبل المساحات الفارغة، والسياسة لا تعترف بالصمت.

إذا لم نكتب نحن ميثاقنا الجديد، فسوف يكتبه غيرنا ضدنا، وإذا لم نرسم نحن تصورنا لمستقبلنا، فسوف يُرسم لنا مستقبل من المحو والذوبان.

ما نحتاجه اليوم ليس ترفًا فكريًا ولا نصًا أكاديميًا محفوظًا في الأدراج، بل فعلًا جماعيًا جديدًا؛ مشروعًا يعيد الاعتبار لفكرة "التصوّر المستقبلي"، ولكن بصيغة أكثر واقعية وجذرية في آنٍ معًا.

مشروع يأخذ بعين الاعتبار ما عصفت بنا السنوات: الجريمة المنظّمة، انهيار الثقة بالقيادة التقليدية، سياسات الأسرلة المتسارعة، والتحولات الإقليمية والدولية.

مشروع يعيد تثبيت هويتنا الجمعية كجزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، مع الحفاظ على خصوصيتنا كأقلية أصلانية داخل إسرائيل، ويضع حقوقنا القومية والمدنية على الطاولة؛ لا كمكرمة ولا كاستجداء، بل كحق تاريخي غير قابل للتفاوض.

لقد جُرّب كل شيء: المشاركة الاندماجية، اللعب البرلماني، وحتى الصمت المذل، والنتيجة واحدة: تراجع، تفكك، وانكسار.

آن الأوان لأن نصرخ مرة أخرى، ليس لنذرف دموع الذاكرة، بل لنكتب رؤيتنا نحن.

آن الأوان لفعل جماعي يعيد تعريف وجودنا في هذه البلاد، ويُعيد الاعتبار لصوتنا وكرامتنا.

إما أن نكون أصحاب رؤية، أو أن نُمحى من التاريخ كأقلية بلا صوت، ويكتب غيرنا رؤية مستقبلنا - ضدنا.

التعليقات