يُروّج في الصحافة المصرية استخدام مقولة "جورج الخامس يفاوض جورج الخامس"، في إشارة إلى ملك بريطانيا في العقود الأولى من القرن العشرين. ويُنسب هذا القول إلى الزعيم المصري سعد زغلول خلال المفاوضات مع بريطانيا في عامي 1919 – 1920.
فقد سأل زغلول الممثل البريطاني في المفاوضات عام 1920: من الذي يعيّن المفاوضين؟ فردّ البريطاني أن الحكومة المصرية اختارتهم؛ فأجابه زغلول بأن عدلي عُيِّن من قبل السلطان، والسلطان مُعَيَّن من الإنجليز، أي أن عدلي يفاوض الإنجليز الذين عيّنوا سلطانه. وباختصار: الملك جورج الخامس يفاوض نفسه.
وقد أحيا هذه الجملة محمد حسنين هيكل في توصيفه للعلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وأعاد اقتباسها مؤخرًا كاتب مصري في صحيفة "الشروق" بذكرى رحيل هيكل، وأضاف إليها عدة اقتباسات للتأكيد على راهنيّة رؤية هيكل للصراع مع إسرائيل، منها أن إسرائيل ترغب بإزاحة قطاع غزة باعتباره قنبلة موقوتة، "وتريد أن تزيحها إلى مصر، وقلتُ قبل سنوات طويلة: نفسي أن تنتبه مصر إلى يوم تدفع فيه إسرائيل قنبلة غزة الموقوتة تجاه مصر".
وقول آخر من عامي 2007 و2008، بأن "ما تريده إسرائيل بالأساس هو السعودية، وليس الفلسطينيين، أي التطبيع مع كل دول الخليج"، وأن إسرائيل "سوف تتفاوض في الفترة المقبلة مع نفسها، أي مع إسرائيل أو أميركا، على طريقة مقولة سعد زغلول: جورج الخامس يفاوض جورج الخامس".
ويضيف: إن "السياسة الأميركية هي الاحتفاظ بالجناح الشمالي المطوِّق للعالم العربي، أي تركيا وإيران وإسرائيل الموجودة في قلب المنطقة. إسرائيل وأميركا لا تريدان ضرب إيران، بل ضرب وتغيير النظام، وإعادة إيران إلى نظام قريب وموالٍ لها على غرار نظام الشاه".
ومع الشكر للكاتب المصري على تذكيرنا بهذه المقولات، إلا أننا أمام خلاصة مقيتة، وقد قالها هيكل مرة لقناة الجزيرة، بأن العرب خرجوا من التاريخ، أخرجوا أنفسهم من التاريخ. وذلك قبل الانتفاضات الثورية للشعوب العربية في عامي 2010 – 2011، التي دبّت الأمل بعودة عربية مجلجلة إلى الحاضر، أو "عودة الوعي". لكن تَعلُّق النظام العربي بالخارج، وتدخُّل إيران وتركيا وإسرائيل بثوراتنا، أدخل الشعوب العربية المحيطة بإسرائيل في عقد ضائع، ولا يجوز تصور حالة العرب اليوم في ظل الحرب على غزة، بانفصال أو بقطع عما حل بثوراتنا والتآمر عليها من الثلاثي المذكور، المعادي للهوية العربية.
فإسرائيل لا ترغب فحسب، بل تُحبط وتُقاتل من أجل ألا ترى حولها شعوبًا في دولة عربية ديمقراطية قوية. بل إنها تعاونت مع "جبهة النصرة" – "تحرير الشام" اليوم – "الإرهابية والداعشية" بعُرفها، بهدف مذهبة وتأجيج الصراع في سورية. أما إيران، فلا ترى فينا إلا مللًا ومذاهب، وقد فتّتت العراق وسورية ولبنان إلى حدٍّ ما، على طريق تحرير القدس. وأما تركيا، فهي عضو مخضرم في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ورئيسها لا يرى في العرب إلا ساحة نفوذ إمبراطوري من نافذة الإخوان المسلمين.
ليست تركيا أو إيران عدوّتين للعرب بالطبع، ولا يجوز مقاربتهما بإسرائيل، فهما دولتان أصيلتان في المنطقة، وليستا طارئتين. لكن عداءهما للهوية القومية العربية مشكلة حقيقية. فبالنسبة لإيران، نحن العرب سنّة وشيعة، ودم الحسين على أيدينا حتى اليوم؛ وبالنسبة لتركيا، نحن "فرقة ضالة منشقة"، سببٌ في انهيار إمبراطوريتها بتحالفنا مع الغرب ضد خليفتها. وفي السطر الأخير، ترى فينا – إيران وتركيا – أمة ودولًا عاجزة، ساحات نفوذ. وربما هذا يُعبّر عن حالنا وواقعنا أكثر مما يُعبّر عن الذهنية الفوقية لإيران وتركيا تجاه أمتنا وهويتنا. والعرب لم يُقصّروا في تغذية هذه الذهنية بسلوكهم السياسي وأنظمتهم.
الواقع العربي عبّرت عنه خطة ترامب الأخيرة: لا وزن لهم ولا اعتبار. يتفق قادة دول عربية وإسلامية وازنة مع ترامب على رؤية لوقف الحرب في غزة، وخلال ساعات تتحول إلى خطة إسرائيلية، بلقاء بين نتنياهو والصبي كوشنر. لا قيمة ولا اعتبار للعرب، إلى درجة أن الصبي والعجوز (كوشنر وبلير) صارا يريدان تحديد شكل المنطقة العربية، بمنح إسرائيل الهيمنة المطلقة من بوابة الإبادة على غزة، على جثث المدنيين.
ليس ما يهم كوشنر وبلير وترامب حقن دماء المدنيين في القطاع، بل الاستثمار في هذه الكارثة الإنسانية غير الطبيعية، لمشروع إقليمي ترامبي يحوّل إسرائيل إلى "قلب العروبة النابض"، تهرول إليها الدول العربية – والإسلامية أيضًا – لتصبح المنطقة إسرائيلية صهيونية، عبارة عن تحالف دولة صليبية مع إمارات قبلية، بلغة الأسير الجنائي المحرَّر توم باراك، يربط بينها الاقتصاد والعداء للعروبة والشعوب.
إن خطة ترامب المكتوبة بأيدي وحبر نتنياهو فيها من الإذلال والإهانة للعرب، أنظمة وشعوبًا، ما يستدعي أن نتساءل: هل هذا هوان وضعف، أم استذلال في الحقيقة، يعبّر عن احتقار واستحقار للذات، بحيث يصبح صبي مثل كوشنر يُملي على المنطقة مشاريع إسرائيل، بتواطؤ عربي ذاتي؟ مثل أن نقرأ في الأخبار أن دولة مثل الإمارات تتوسط لدى مصر لاستقبال بلير ليطرح خطته لغزة.
التعليقات