تُجرى غدًا، الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر، الانتخابات الرسمية في مدينة نيويورك لاختيار عمدة المدينة، التي يخوضها الشاب زهران ممداني. وتشير المؤشرات الأولية إلى اقترابه من تحقيق فوزٍ تاريخيٍّ تتجاوز دلالاته حدود الجغرافيا الأميركية.
أن يتقدّم شاب في الثالثة والثلاثين من عمره، وُلد في أوغندا لأبوين من أصول هندية، ولم يحصل على الجنسية الأميركية إلا قبل سبع سنوات، ليقود مدينة تُعدّ مركز المال والإعلام، وفيها أكبر تجمّع يهودي في العالم وأنشط اللوبيات الصهيونية، بينما يتعرّض لتحريضٍ مباشر من ترامب واللوبيات الصهيونية ومؤثرين يعملون لصالح البروباغاندا الإسرائيلية، فهذا بحدّ ذاته حدث سياسي استثنائي يكسر كلّ المعادلات التقليدية في المجتمع والسياسة الأميركيين.
لكن ما يميّز زهران ممداني ليس سيرته وحدها، وكونه شابًا واعدًا وصاحب حضور قوى وبارز، بل الأهم من ذلك هو وضوح مواقفه تجاه فلسطين. فهو يعلن بلا مواربة أنّ العدالة لا تتجزأ، وأنّ الموقف من فلسطين هو معيارٌ أخلاقي قبل أن يكون سياسيًا. في زمنٍ يُجرَّم فيه التعاطف مع الشعب الفلسطيني بالذات على المستوى الأميركي بعد الحراك الطلابيّ الواسع الذي كان ضد الإبادة في عدد من أهم الجامعات الأميركية، يصبح صوته داخل ذلك المشهد شهادةً على اتساع الدائرة الأخلاقية الداعمة للقضية، وعلى قدرة الحقيقة على اختراق أكثر البيئات تعقيدًا وصعوبة.
صوت زهران هو امتدادٌ لجيلٍ عالميّ جديد يرى في فلسطين مرآةً للعدالة، وفي قضيتها معيارًا للضمير الإنساني. هذا الجيل الذي كسر حدود الانتماءات القومية والعرقية، يعيد اليوم تعريف الفعل السياسي انطلاقًا من قيم الإنسان، لا من مصالح القوة. ومن قلب هذا التحوّل، تبرز غزة بوصفها الحدث الذي غيّر العالم وأعاد تعريف الموقف الإنساني في ضوء المجازر الهائلة والتخاذل العالمي والسكوت عنها.
إنّ أهمية ما يجري لا تكمن في فوز انتخابي بحدّ ذاته، بل في رمزيته وهو أن تتحوّل قضية كانت تُهمَّش وتُحرَّف وتُعادى، إلى خطابٍ مشروع داخل المؤسسات الأميركية ذاتها وفي واحدة من أهم وأكبر مدن العالم. ففلسطين لم تعد مجرّد قضية في الهامش، بل أصبحت عبر أمثال زهران ممداني اختبارًا للضمير الإنساني، ولقدرة الأجيال الجديدة على إعادة تعريف السياسة بلغة القيم لا بلغة المصالح.
أن يفوز زهران ممداني في نيويورك يعني أن جيلًا جديدًا من الشباب في العالم بدأ يغيّر المعادلة. جيلًا لا يخاف من قول الحقيقة ولا يخشى المنظومة مهما بلغت هيمنتها. لم يعد دور الشباب مجرّد "أملٍ للمستقبل" كما اعتادت الخطابات القديمة أن تقول، بل أصبح اليوم عنصرًا حاسمًا في الحاضر نفسه.
نجاح زهران ممداني، إن تحقق غدًا كما تشير المؤشرات، سيكون مثالًا حيًّا على هذا التحوّل ودعوةً مفتوحة للشباب الفلسطيني والعربي لتذويت أنّهم ليسوا على هامش التاريخ بل في صُلبه. فدورهم لا يُمنح، بل يُنتزع بالمعرفة والعمل وتحمل المسؤولية وأخذ زمام المبادرة لتغيير هذا الواقع للأفضل ومجابهة اليأس والإحباط ومحاولة كسر عزيمة جيل كامل، رغم كل ما نعيشه من دمار وخراب وتحديات جسام إلا أنّ أمام الشباب الفلسطيني فرصة تاريخية بعيدًا عن اللعن والشتم وتحميل المسؤولية.
هذا الجيل الفلسطيني ليس "جيل ما بعد الهزيمة" كما يقال، بل جيل ما بعد الخوف، وجيل ما بعد الخوف لا يجب أن يُهزم.
التعليقات