ليس من السهل أن يُعبّر المرء عن شكوكه إزاء جدوى المشاركة في انتخابات الكنيست، خصوصًا في ظلّ النقاش المتصاعد حول إعادة تشكيل القائمة المشتركة، والرغبة الشعبية الواسعة في ذلك.
ومع ذلك، أجد من واجبي أن أتحدّث، انطلاقًا من حساسية اللحظة وخطورتها القصوى، وما تفرضه من براغماتية ضرورية، لكنها براغماتية ينبغي أن تبقى مؤطّرة بمرجعية وطنية وأخلاقية صلبة.
وعلى خلاف ما توقّعه كثيرون تحت وطأة الحرب الإباديّة، عادت فكرة المشاركة في الانتخابات إلى الواجهة بقوة، وبرزت الرغبة في بعث "المشتركة" من جديد كموضوعٍ مهيمن على النقاشات العامة وفي الشارع.
كثيرون يسألون بإلحاح: هل ستُبعث المشتركة من جديد؟ هذا السؤال المتكرّر يعكس قلقًا شعبيًا عميقًا، ورغبةً في وجود إطارٍ سياسي يوحّد الصفوف ويمنح الناس شعورًا بالأمان والشرعية، في مواجهة تصاعد القمع والفاشية، والأخطار الوجودية المحدقة بهم. لكن هذه الظاهرة تثير سؤالًا مؤلمًا في المقابل:
كيف يمكن لجماعةٍ من ضحايا نظامٍ إباديٍّ يُدان عالميًا أن تواصل المشاركة في مؤسساته وكأنها جزء طبيعي منه؟
لكن، عند كل منعطفٍ خطير، يتّضح أن الحياة، بطبيعتها، أعقد من الشعارات، وأنّ المشهد الراهن يفرض إكراهات قاسية لم تكن في الحسبان.
صحيحٌ أنّ فئة من أبناء شعبنا ما زالت ترى في المقاطعة الموقفَ الأخلاقي والسياسي الطبيعي، إلا أنّ هذه الفئة نفسها تتردد في خوض معركة علنية من أجلها، إدراكًا لتكاليف هذا الخيار في ظل غياب البدائل التنظيمية الجاهزة، وشعورها بوطأة الخطر الآنيّ المتعاظم على مجتمعنا.
التجربة الأولى للوحدة
قبل قيام "المشتركة" عام 2015، كنتُ من أوائل من نظّروا ودعوا وعملوا لتوحيد الأحزاب العربية في قائمة واحدة - دون أي نية شخصية للترشّح للكنيست. لم يكن ذلك عملاً فرديًا، بل تعبيرًا عن رؤية وطنية تبنّاها حزب التجمع الوطني الديمقراطي، الذي شكّل، منذ منتصف التسعينيات، نقلة نوعية في الخطاب السياسي لفلسطينيي الـ48.
لقد ربط التجمع النضال المدني ضد التمييز بالتحليل البنيوي للنظام العنصري الكولونيالي الاستيطاني، وبالبعد التحرّري الأشمل للشعب الفلسطيني، وقدم إسهامًا مهمًا في المقاومة الشعبية، التي بلغت ذروتها خلال مواجهة مخطط "برافر" عام 2013 في النقب.
وتحت ضغط الرغبة الشعبية، والخوف من السقوط تحت نسبة الحسم بعد رفعها، وُلدت القائمة المشتركة. وللحظة قصيرة، عمّ شعور عام بالانتصار، وبأن وحدةً وطنية جديدة قد انبثقت تُعيد الثقة بالعمل السياسي المنظّم.
لكن سرعان ما تبدد الأمل، إذ تحوّلت المشتركة إلى ساحة لتجاذب المصالح والصراعات الشخصية والحزبية، بدل أن تكون مشروعًا وطنيًا جامعًا. وسعى بعض مكوناتها إلى تحويلها إلى أداة لإقامة تحالفات مع قوى صهيونية "يسارية".
من يعرقل اليوم؟
رغم أنّ غالبية الجمهور والأحزاب - وفق استطلاعات الرأي - ما زالوا يفضّلون عودة المشتركة، فإنّ المفاوضات الجارية منذ أكثر من خمسة أشهر وصلت إلى طريق مسدود، وليس واضحًا ما ستؤول إليه الأمور.
تشير المعطيات بوضوح إلى أنّ الحركة الإسلامية الجنوبية (الموحدة) هي من يعرقل إعادة التشكيل، نتيجة لنهجها السياسي القائم على الاندماج في النظام الصهيوني، والمشاركة في الحكم على حساب البعد الوطني لحقوقنا، وعلى حساب الخطاب الوطني الفلسطيني.
لقد ترسّخت لدى قيادة الموحدة، بل وأوساطٍ من قواعدها، قناعة بأنّ مكانهم "الطبيعي" هو إلى جانب قادة الاستيطان مثل نفتالي بينيت، تحت ذريعة "الواقعية السياسية". غير أنّ هذه الواقعية تحوّلت، في جوهرها، إلى أسرلة ممنهجة أضعفت الحس الوطني، وبدّلت البنية الفكرية والسياسية للحركة، حتى باتت ترى نفسها شريكًا في إدارة المنظومة الاستعمارية، لا طرفًا في مقاومتها - دون أن تشعر بأي تناقضٍ أو حرج.
وما يثير السخرية، أنّ هذا النهج مستمر، رغم التصريحات الصهيونية المتكررة الرافضة لأي شراكة مع العرب. ومع ذلك، تُصرّ الموحدة على التمسك بوهم التحالف مع المستوطنين الذين يخططون لإبادتنا!
المسؤولية الأخلاقية والسياسية
تحديد المسؤوليات أمر ضروري
صحيح أنّ قيادة الموحدة تتحمّل المسؤولية الأولى عن تعطيل إعادة بناء المشتركة، بسبب إصرارها على التمسك بخيار الشراكة مع الصهيونية.
لكن المسؤولية الأخلاقية والسياسية تقع أيضًا على من يصفون أنفسهم بـ"المعارضين" داخل الحركة، الذين وعدوا - كما جاء في مراسلاتهم الداخلية، معي شخصيا، قبل الانتخابات الأخيرة، بالعمل على إسقاط هذا النهج، لكنهم لم يفعلوا شيئًا يُذكر. لقد بات من الملحّ أن يتحمّل هؤلاء المعارضون مسؤوليتهم التاريخية، الأخلاقية.
إن خطيئة الموحدة ليست مجرد تكتيك انتخابي، بل تحوّل إستراتيجي خطير في الخطاب والموقع. فقد انقلب خطابها الوطني إلى خطابٍ متماهٍ مع مرتكزات الصهيونية: تثبيت "يهودية الدولة"، التنصّل من القضية الفلسطينية، وإدانة المقاومة ضد الاحتلال.
فنحن لسنا أمام "براغماتية سياسية"، بل أمام انحراف سياسي وأخلاقي يهدّد جوهر المشروع الوطني لفلسطينيي الداخل.
إذا أرادت الموحدة استعادة مكانتها الوطنية، فعليها أن تتخلّى نهائيًا عن نهج المشاركة في الحكومات الصهيونية، وأن تعيد مرجعيتها السياسية إلى لجنة المتابعة العليا، التي توحد وتمثل كل المواطنين الفلسطينيين، بدل مكاتب نفتالي بينت وحلفائه.
هذا التحوّل لن يكون تضحية، بل خطوة إنقاذية مفيدة للحركة قواعدها ولمجتمعنا بأسره.
إن إعادة بناء القائمة المشتركة لا يمكن أن تتم إلا برؤية وطنية جديدة، تستند إلى مشروعٍ يعيد تنظيم المجتمع الفلسطيني في الداخل، ويقوي لجنة المتابعة العليا لتصبح مؤسسة فاعلة قادرة على الدفاع عن حقوقنا اليومية والقومية، وربطها بالمشروع التحرري الشامل على مستوى الشعب الفلسطيني كله.
بهذا فقط يمكن أن نعيد تعريف دور الفلسطينيين في الداخل كجزءٍ أصيل من الحركة الوطنية الفلسطينية، لا كجاليةٍ تسعى لتحسين شروط حياتها في ظل نظام فصلٍ عنصري.
فما لم يُحسم الصراع بين نهج التكيّف مع المشروع الصهيوني ونهج مقاومته، ستظل المشتركة إطارًا هشًا يعكس أزمة أعمق في الوعي السياسي والهوية الوطنية.
اقرأ/ي أيضًا | انتخاب رئيس جديد وسط متاهة لجنة المتابعة
التعليقات