يحتار المراجع لمسار هزيمة العرب في حرب حزيران/ يونيو 1967 إن كانت نتيجة الحرب حتمية أم أنها خلل تقني في تاريخ العرب الحديث، ليستقر إلى الاثنين معًا؛ فمن ناحية التخطيط للحرب كانت الهزيمة حتمية، ومن ناحية القدرات العسكرية القتالية، كان بمقدور الجيش المصري منع الهزيمة على أقل تقدير، فقواته ومعداته في سيناء كانت أكثر وأكبر من الإسرائيلية، وطائراته ودبابته كانت متطورة مقارنة بإسرائيل.
كيف يحدث أن جيشًا عريقًا كبيرًا يخسر الحرب خلال ساعات ويتوه في الصحراء مشتتًا جريحًا؟ كيف لدولة مؤسسات وبيروقراطية عريقة أن تنهار بهذه السرعة؟ هل هو خلل ثقافي أو حضاري أو فشل الحداثة العربية أو عطب في "العقل العربي"، كما سارع كثر من المثقفين العرب حينها لتفسير الهزيمة؟ وهي تفسيرات تنميطية وتعميمية تكاد تكون عنصرية لدرجة تحقير الذات.
ليس الخلل في الإنسان العربي ولا في ثقافته وحضارته و"عقليته" ولا في دينه. يكمن الخلل أساسًا في النظام السياسي، ليس لجهة أكان ديمقراطيًا أو استبداديًا، بل لجهة إفراغ الدولة من وظيفتها، أو إفراغ بيروقراطية الدولة بما تعني من تخطيط وإدارة مهنيين للشؤون العامة، أي الإبقاء على بيروقراطية الدولة كجهاز لكن من دون الدور الوظيفي، أي عمليًا إفساد نظام إدارة الدولة وحصر صنع القرار بمكتب الرئيس بما فيه من مقربين ذوي نزعات أمنية ومصالح شخصية وصراعات داخلية، تجامل الرئيس بدلا من ترشيده.
إرادة عبد الناصر.. صناعة القرار عند عبد الناصر
تظهر دراسات حديثة أن مكتب عبد الناصر احتكر صناعة القرار وأجهزَ على البيروقراطية، ليس فقط السياسيّة، بل في كل ما يتعلق بالتخطيط الاقتصادي والتنموي والدبلوماسي، أي أنّه، عمليًا، أجهز على وظيفة مؤسسات الدولة، وهي مؤسسات عريقة، ومن أهم هذه المؤسسات العسكرية والأمنية. لقد أُخضعت المؤسسة العسكرية لحسابات وصراعات مجلس الثورة الداخلية، وكأن الثنائي الذي خطط ودبر الإطاحة بالرئيس بعد الثورة، محمد نجيب، أي عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، قد تقاسما "جمهورية يوليو"؛ السياسة والدبلوماسية لعبد الناصر؛ والمؤسسة العسكرية لعبد الحكيم عامر.
كان عبد الناصر مهووسًا بالسياسة الدولية حتى قبل أن يصبح رئيسًا، وسياساته الداخلية كانت انعكاسًا للخارجية؛ كانت عقدته الولايات المتحدة، ويدرك جيدًا أن صدامه معها قد يعني نهايته الشخصية ونهاية شرعية "جمهورية يوليو"، كونه زعيمًا لمحور تحرري عالمثالثي في زمن الحرب الباردة. وترجّح مراجع تاريخية عدة أن استقالته غداة هزيمة حزيران كانت موجهة للإدارة الأميركية، بأنه لن يكون عائقًا أمام تطور العلاقات المصرية – الأميركية في المرحلة المقبلة، لأن في ظنه أن الإدارة الأميركية ترى فيه عائقًا يجب التخلص منه. وقد أراد من خلال الاستقالة تحييد هذا العائق بنفسه.
لم يكن عبد الناصر رجل دولة بمعنى باني المؤسسات، ولم يكن عسكريًا بمعنى باني الجيش والمؤسسة العسكرية، لكنه كان زعيمًا حقيقيًا، ودفع بالاقتصاد والصناعة في مصر. في المقابل، حوّل عبد الناصر مصر إلى دولة الحزب الواحد والقائد الواحد والرأي الواحد. لم يكن بمقدور أي دولة في القرن العشرين أن تنتصر بحرب طالما لم يعد ممكنًا التمييز أو الفصل بين جهاز الدولة وجهاز الحزب، لأن ذلك يعني عدم القدرة على اتخاذ القرارات السليمة والتقدير الصحيح والمحاسبة والشفافية، لأنها كلها محكومة بالرأي الواحد الأوحد، وهذا ينتهي إلى الإدارة والتنظيم الفاشلين، سياسيًا وعسكريًا.
جذور الهزيمة إذًا هي سياسية، أي خلل بنيوي عميق في النظام السياسي ليمتد إلى المؤسسة والثقافة العسكرية وصولا إلى التخطيط الحربي والأداء القتالي على كافة المستويات. هل لو كان نظام عبد الناصر ديمقراطيًا لما خسر الحرب؟ لا يمكن الحسم أو الجزم، لأن الدول الديمقراطية تخسر الحروب، لكن ربما لما تورط عبد الناصر في الحرب لو كان نظامه فيه الحد الأدنى من الشفافية والإدارة المهنية والقدرة على التخطيط والتنظيم السليمين. لكن المؤكد أن ما حصل لم يكن نتيجة عطب في الثقافة أو "الشخصية" أو "العقلية" العربية. مثل هذه الادعاءات هي "من آثار العدوان" التي يجب التخلص منها، وكُتبت تحت تأثير الصدمة ومن مضاعفات الهزيمة، ولتصفية الحسابات مع المشروع الناصري، سواءً من اليسار أو اليمين بما فيه الحركات الإسلامية.
بوادر الهزيمة ووقائع الحرب
لم يكن عبد الناصر راغبًا في الحرب. في أسوأ الأحوال توقّع مواجهة محدودة على غرار العدوان الثلاثي في 1956، لذا طلب قبل يومين من الحرب استبدال الخطة الهجومية التي أعدها الجيش (خطة الفجر) بخطة دفاعية، ويبدو أنه لم يطلع عليها من قبل، وقد قدّر بأن بمقدور مصر امتصاص الضربة الأولى كما حصل في 1956، ورفض البدء بالحرب لكي يتجنب زج الولايات المتحدة في الحرب.
كانت إسرائيل تبالغ بقوة مصر أمام الأميركيين، إلى درجة أنّها (أي إسرائيل) قد تخسر الحرب. فيما كانت التقارير الأميركية تؤكد أن إسرائيل ستحسم الحرب خلال ساعات أو أيام، وكذلك كانت قيادة الجيش الإسرائيلي تضغط على الحكومة للمبادرة لشن الحرب وحسمها سريعًا في الأرض المصرية.
لقد لاحت إشارات انهيار نظام عبد الناصر قبل الحرب بعام على الأقل، وحتى على الصّعيد الاقتصادي حصلت احتجاجات متفرقة قبل الحرب بعام أو عامين، وكذلك حملت الأعمال الفنية والمسرحية نبرة نقدية تحذر الرئيس من الخلل العميق؛ كذلك الحال في تأزم علاقات النظام الإقليمية وحرب اليمن؛ وبلغت ذروة هذه المؤشرات على الانهيار بأن قيادة الجيش أعدت خططًا منفصلة عن خطط الرئيس، أي خطط هجومية، وأشارت مراجع متعددة إلى أن عبد الحكيم عامر بالغ في تطبيق تعليمات عبد الناصر. فمثلا حوّل طلب الرئيس بإعادة انتشار القوات الدولية في سيناء إلى طلب بطردهم فورًا من سيناء وهو ما عجل من اندلاع الحرب. كان عبد الحكيم عامر مندفعًا للحرب بحسب شهادات ضباط وجنود، على عكس عبد الناصر. لقد ساور الأخير الشك بأن الجيش مخترق، وحتى مكتبه، بعد أن نقل له السوفييت تحذيرًا أميركيًا – إسرائيليًا من خطط الجيش المصر الهجومية، بعد يوم أو في اليوم ذاته من اطلاعه على "خطة الفجر" الهجومية، وهو ما دفعه إلى طلب تغيير الشيفرات العسكرية.
لم تباغت الحرب عبد الناصر بتوقيتها. فقد توقّع موعد نشوبها بالضبط، الخامس من حزيران/ يونيو، لاعتقاده أن إسرائيل ستبادر إلى الحرب قبل وصول قوات الدعم العراقية إلى الأردن. وهذا ما حصل رغم أنه أبلغ قيادة الجيش بذلك، لكنّها لم تحرك ساكنًا، بل أن العدوان الأول حصل على القاعدة الجوية في سيناء قبل دقائق من هبوط طائرة المشير عامر. يبدو أنّه كان اختراقا واسعا لقيادة الجيش، زاد من هوله الاستهتار بتقديرات عبد الناصر بتوقيت الحرب. هنا يظهر الجيش على أنه "كيان موازي" لعبد الناصر، الذي لم يكن على اطلاع على خططه حتى قبل أيام من نشوب الحرب.
المباغتة والمفاجأة كانت في نوعية السلاح الإسرائيلي. وضع الجيش المصري خططه على الأغلب استنادًا إلى تقديراته لنوعية وقدرة الأسلحة الإسرائيلية، سواءً الجوية القتالية أو المدفعية، ووضع خطط الهجوم والدفاع على هذا الأساس، ليتفاجأ في الساعات الأولى من الحرب أن الجيش الإسرائيلي طوّر طائراته الحربية المقاتلة الفرنسية، وزاد من قدرتها على التحليق من خلال زيادة قدرتها على تخزين الوقود. كذلك تفاجأ من أن مديات المدفعية الإسرائيلية زادت عن المعروف، أي أن إسرائيل قامت ذاتيًا بتطوير دباباتها ومدفعياتها، وهو ما أدى إلى انهيار خطط الدفاع بسرعة مذهلة، إذ فوجئت القوات المصرية أن الطائرات والمدرعات الإسرائيلية تتقدم بأكثر من جهة، كانت خطط الجيش تستبعد حصولها نتيجة تقديرها الخاطئ للقدرات القتالية للطائرات والمدفعية الإسرائيلية. كما فاجأ عدد الطائرات التي شنت الهجمات في اليوم الأول في سيناء على قواعد الجيش المصري، إذ أرسل الجيش الإسرائيلي معظم طائراته القتالية لأجواء سيناء وأبقى على عدد قليل في القواعد الخلفية تحسبًا من هجوم مصري مضاد، وهو ما لم يحصل. كان ذلك مغايرًا للحسابات المصرية.
كان هذا عاملا أساسيًا في الهزيمة وعدم القدرة على تنظيم مقاومة برية للتقدم الإسرائيلي حتى بعد تدمير قواعد الطيران المصري. لقد تفوّقت إسرائيل في الحرب نتيجة الجهد الاستخباري المتفوق وتطوير وسائل القتال ذاتيًا دون علم أي طرف، ربما الأميركي فقط، وهو ما أربك خطط الحرب المصرية، التي لم تكن خططًا حقيقية. يروي الطيار المقاتل المصري، ممدوح عبد الله الملط، إن عامر قال للمقاتلين "ما تخافوش يا ولاد، والله لنحارب"، ردا على غضبهم على عبد الناصر بعد طلبه باستبدال الخطط الهجومية بالدفاعية. لكن أي خطة هجومية كانت ستنجح وحال الجيش كما روى الطيار ممدوح، الذي وضع على رأس سرب طائرات في سيناء لتنفيذ الخطة الهجومية: "ما هو التدريب الذي تلقيته لكي أكون جاهزا للقتال في 5 يونيو. لقد كنت واحدًا من فريق الألعاب البهلوانية في القوات الجوية، وفي هذا الفريق كنت قد وصلت إلى مستوى عال من المهارة، فقد كنت أقوم بالألعاب البهلوانية الصعبة بعدد 11 طائرة وكان مركزي حرجًا جدًا وسط هذا التشكيل، وعملي كان يحتاج إلى مهارة جبارة ولكنها للأسف استعراضية... اكتشفت أنني لم أتدرب على ضرب النار الحي طوال مدة خدمتي من عام 1956 إلى 1967 إلا ثلاث مرات فقط طوال هذه المدة، وكانت من الجو إلى الأرض". ويضيف الطيار ممدوح الذي كان شديد الحماس للحرب: "الحقيقة أننا لم تكن لدينا معلومات حقيقية عن العدو الذي سوف نواجهه. لم نكن نتصور أن العدو ممكن أن يهزمنا بهذه البساطة. كنا نتصور أننا أقوى قوة في الشرق الأوسط. شعرت بأن كل ما قيل لنا كان غير حقيقي".
سورية: للقيادة حسابات أخرى
ينطبق ما تقدّم عن نظام "جمهورية يوليو" أيضًا على النظام السياسي في دمشق حينها. كان انقلاب "القيادة القطرية" بقيادة صلاح جديد وحافظ الأسد في حزب البعث على "القيادة القومية" بقيادة ميشيل عفلق وصلاح البيطار، والسيطرة على الدولة والجيش بداية اختزال الدولة بالحزب الواحد والقائد الأوحد. وقد استدعى ضمان ولاء الضباط في الجيش للقيادة الجديدة في سورية أواسط الستينيات من القرن الماضي، إلى تطييف الجيش ومذهبته، فالولاء في الجيش أصبح قائمًا على الانتماء للطائفة والمذهب، وحتى داخل المذهب نفسه حدثت صراعات بين الحلفاء أنفسهم، صراع صلاح جديد وحافظ الأسد مثالا، بعد الانقلاب على رئاسة أمين حافظ و"القيادة القومية" للبعث.
ربما يبدو ذلك غريبًا لمن يظن أن البعث هو حزب قومي عروبي، لكن في واقع الأمر كان الحزب محكومًا بذهنية أقلاتية وتحالفات مذهبية لعبت على ثنائية "المدينة – الريف"، بل وصل الأمر بعد انقلاب جديد – الأسد، أن اختطف أحد قادة البعث الجدد، سليم حاطوم، صلاح جديد ورئيس الجمهورية - الأتاسي - وقادة آخرين في منطقة السويداء، بعد غضب ضباط وقادة دروز من بينهم حاطوم نفسه من تحييد تأثيرهم في الحكم الجديد، رغم أنهم كانوا شركاء أساسيين في الانقلاب على "القيادة القومية". هل هذا نظام يخطط ويستعد لمواجهة إسرائيل وتحرير فلسطين؟ كان ذلك أبعد ما يكون عن طموحاته. لقد دمروا الجيش السوري وعملوا على تطييفه ومذهبته بشكل علني، ولم يعملوا على تطوير الجيش استعدادًا لمواجهة المخاطر الخارجية، بل حولوه إلى قوة أمن داخلي لحفظ النظام. مقارنة بهم وبجرائمهم بحق الجيش السوري، يعتبر جمال عبد الناصر رجلَ دولةٍ وجيشٍ كبيرا.
هذا النظام الجديد، صاحب "البيان 66" الذي أعلن سقوط القنيطرة في حرب حزيران قبل احتلالها فعليًا، كان أشد المعادين لنظام عبد الناصر، لكن في الوقت نفسه ورطه في الحرب وزايد عليه؛ وقع الطرفان على معاهدة دفاع مشترك. ورّط حكام دمشق الجدد بتواطؤ سوفييتي عبد الناصر في حرب لم يكن يرغب بها رغم تصريحاته النارية الحربجية. لقد نقل السوفييت لعبد الناصر معلومات خاطئة عن حشد إسرائيلي كبير في الجبهة الشمالية مع سورية. زار رئيس الأركان محمد فوزي، سورية للاطلاع على الحشد بتكليف من عبد الحكيم عامر، ولم يجده في 14 أيار/ مايو 1967. دعا ليفي إشكول السفير السوفييتي في تل أبيب لجولة جوية لتفنيد المعلومات عن الحشد.
ظن السوفييت أن تهديدات عبد الناصر سوف تردع إسرائيل من تنفيذ اعتداءات في سورية قد تشكل خطرًا على النظام الجديد في دمشق الذي كان ينسج تحالفا مع موسكو. سبق ذلك بفترة قصيرة اعتداءات إسرائيلية أسقطت 6 طائرات حربية سورية. كان بالنسبة للحكام الجدد في دمشق أن انهيار جبهة الجولان تعني سقوط دمشق ومن يحكمها. ورّطوا عبد الناصر في مزايدات دفع هو ثمنها في الحرب فيما تخلص حكام دمشق من الجولان التي كانت ساحة للمناوشات المتكررة مع القوات الإسرائيلية. تخلصوا من كتلة بشرية ظنوا أنها لن تكون موالية لحكمهم الجديد بعد أن انقلبوا على شركائهم في الانقلاب على "القيادة القومية". تجربة سليم حاطوم وتنظيمه السري المعارض في السويداء لحكم صلاح جديد وحافظ الأسد كانت ماثلة في أذهانهم على ما يبدو. خسروا الجولان ولكنهم أحكموا السيطرة على الحكم، ولاحقًا تخلص الأسد من رفيق عمره صلاح جديد. هكذا كانوا وما زالوا حكام دمشق منذ أواسط القرن العشرين، يصفي الحلفاء أنفسهم بأنفسهم وورطوا المشروع الناصري في هزيمة معلنة.
التعليقات