نجحت دمشق بعد سنواتٍ خمس عجاف في علاقاتها العربية والدولية من أن تسمّى “ميزان المشرق” فوق اللسان الأمريكي بعدما شغلت ضلعاً في المحور الذي أسماه الرئيس الأمريكي السابق “محور الشر” . ونجحت في تثبيت موقعها في تصريح جيفري فيلتمان الذي قال: “كنّا نتصوّر أنفسنا وكأننا نحاصر سوريا، فإذا بنا نجد أنفسنا محاصرين من سوريا”، وفيه إقرار بالنجاح الكبير الذي حققته سوريا على المستويين الداخلي والخارجي في سياستها الأميل الى الصمت.
ونجح بشّار الأسد سيّد المطبخ السياسي السوري الذي يتجاوز في روائحه المدروسة الهندسية، الأقاليم ليظفر بصفة رجل العام من على على شاشة ال”سي .إن .إن”، وهو ما اعتبر حدثاً لافتاً حملت عبره دمشق “مفتاح السلام والاستقرار في الشرق الأوسط.. فالكل يعرف مكانة سوريا في هذه المنطقة” كما قال ساركوزي.
هذه بعض أحداث أو مؤشرات ونتائج سياسية توحي بتحولات في ملامح خارطة الشرق الأوسط من مشهد الى آخر جاءت على إيقاعات الرفض الذكي لكلّ ما يتناقض مع المبادئ والثوابت العربية القديمة، وبدا الشرق الأوسط جديداً فعلاً يمسك “جوهرته” المقاومة في كفٍّ، ويرفع بالكفّ الثانية غصن الزيتون مصرّاً على السلام، وحيداً على الأرجح، من خلال الإلحاح اليومي في تنفيذ قرارات مجلس الأمن ومبدأ الأرض مقابل السلام.
لماذا هذا الكلام؟ لأمرين اثنين:
الأمر الأول، الطموح الى تنقية اللسان والمواقف العربية واللبنانية تحديداً من مقاربات الاستقواء بسوريا أو استعدائها وإهمال مسائل جوهرية مثل الانتماء العربي وضروراته الملحة في عصر التنازلات الرهيبة التي انحدرت اليه الكرامة العربية في الصراع العربي - “الإسرائيلي”. ليست الدبلوماسية عداوة وجمود وندية غالباً ما تكون بفتح النون، حيث يتحقق معناها اللغوي بالوقوف على تلٍّ مرتفع وقذف الآخر شقيقاً أو جاراً بأقذع النعوت والأوصاف. وليست الدبلوماسية محصورة بحركة السفير العربي السوري ممثل الدولة الذي هو على الدوام في موقع النقد والنقض والاتهام مهما فعل وكيفما نطق، في الوقت الذي تكاد البلاد تشبه ساحةً مفتوحة الآفاق أمام السفراء الغربيين، بينما تشيح العيون عمّا حصل ويحصل من خروقات “إسرائيلية” يومية للسيادة اللبنانية وشبكات المخابرات والعملاء، وترفع الأغطية على البصائر تجاه العربدة “الإسرائيلية” في سماء المنطقة، وآخرها تلك الفضائح والخروقات “الإسرائيلية” التي كشفت المستور في الفضائح التي خرقت كلّ السقوف والقوانين الدولية والدبلوماسية، وأحرجت الدول الكبرى مع عملية اغتيال محمود المبحوح القيادي في حماس في مدينة دبي التي تجاوزت حجمها بكثير في فرط تهذيبها وحزمها وأدائها الخليجي الراقي في التحقيقات وصياغة المشهد عبر دمج صوره بتقنية عالية. للخليج طعم آخر ومستقبل آخر .
وهنا ملاحظة كم كنّا نخجل في ذواتنا ومتابعاتنا لهذا الحدث من تعليقاتٍ مرتجلة عربية كانت ترى في عدد أفراد الشبكة الذين نفّذوا العملية مبالغة، والسبب أن الصمت كان أفضل بكثير بل الخرس حيال ما كان العالم يتابعه قلقاً متحيراً خجولاً مقابل وقاحة “إسرائيلية” تفرعنت ولم يوقفها أحد بعد.
أمّا الأمر الثاني ففي التضامن العربي وأمامنا صورتان مختلفتان: صورة القمّة العربية المقبلة في ليبيا حيث “السماح العربي الأخير والنهائي لأمريكا ولفترة أشهر أربعة كي تحيي مساعي التسوية الفلسطينية “الإسرائيلية” للمفاوضات الجديدة غير المباشرة برعاية ميتشل” وصورة القمة المماثلة التي سبقتها في دمشق حيث وقفت عاصمة الأمويين، وقوطعت لتبين وكأنها وحيدة في زمن التهاون الذي لا يفرح الحبر بتكراره. إننا ذاهبون الى قمة انتظارية، وكأنها أفرغت من نبضها بحكم زمن الوقوف العربي لمزيدٍ من المفاوضات التي تشبه علك الماء وللتفكير بين طريقي المقاومة والمساومة. وليس من أفق سوى باللحمة العربية البادية مثل السراب.
ماذا يعني التضامن العربي غير المحاولات المستمرة بحثاً عن القرار العربي المستقل الذي سيعود العرب إليه مهما تعثّروا، ولو أنهم في يقين من فشل كلّ ما يحصل، “يهدّدون”، نعم يهدّدون، لكن بين قوسين بالعودة (أو بالتعريج) بالقضية الفلسطينية والسورية واللبنانية الى مجلس الأمن ليضطلع بدوره.. لأنه من غير الممكن والمعقول أن نظلّ الى الأبد في مفاوضاتٍ لا طائل منها، خصوصاً أن “إسرائيل” تجاهر برفض السلام وتعميم الاستسلام.
ألم يقرأ زعماؤنا الكاتب “الإسرائيلي” جدعون ليفي مجاهراً بالحقيقة المرّة في “هآرتس” (5/3/2010) عندما كتب: “لا تريد “إسرائيل” سلاماً مع سوريا. تعالوا ننزع جميع الأقنعة عن وجوهنا ونقول الحقيقة كما هي. تعالوا نعترف بأننا لاتعجبنا أي صيغة سوى السلام مقابل السلام، وتعالوا نعترف أمام أنفسنا، على الأقل، بأننا غير مستعدين للتخلّي عن الجولان، وليكن ما كان. جميع الكلام هدر، وجميع الوسطاء هدر، وجميع الجهود هدر، وانتهى الأمر”.
من يتكفّل بهذا الكلام؟ ومن يستطيع ترجمته باللهجات المحليّة العربية؟
هل نغالي لو قلنا أننا على شفير زمانٍ وضيع يستعصي وصفه؟
لا جواب، لكن يبقى بين الأمرين المذكورين مفارقات وورطات لا تنتهي تتعب الحبر من دون أن يتصفّى في بديهيات في العلاقات العربية العربية، وتتحوّل المقالات والتعليقات والخطب والمواعظ والمحاضرات والندوات والقمم الى ما يشبه دروس التاريخ في العروبة والقومية التي لا تحيا وتحقق مرادها سوى بالتفجير الدائم والقاسي.
التعليقات