31/10/2010 - 11:02

نقلة نوعية بدأها التجمّع وتدوم به../ نبيل الصالح

نقلة نوعية بدأها التجمّع وتدوم به../ نبيل الصالح

من ضمن ما يُجمع عليه كثيرون من المحللين والسياسيين العرب، فيما يتعلق بتفسير وتحليل أوضاع الفلسطينيين في إسرائيل، هو تبنّي الدولة، ممثلة بمؤسساتها، مفهوم الإقصاء exclusion للعرب، ويُقصد بذلك استثناؤهم من عملية صنع القرار في المؤسسات المختلفة وإبعادهم عن اقتسام الحيز العام وما إلى ذلك.

لا يمكن فهم الادعاء العربي ضد سياسة الإقصاء إلا من داخل المفهوم التقليدي لمواطنة العرب في إسرائيل ، كما صاغه وكرّسه الحزب الشيوعي الإسرائيلي ثم الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، ومن صميم القناعة بحق المواطنة الكاملة للمواطنين أجمعين بغض النظر عن انتماءاتهم، إذ يتوجب أن تصبح العلاقة القانونية المسماة بالمواطنة أساس ارتباط المواطنين ببعضهم البعض وأساس تعامل الدولة معهم، دون فرق بين صاحب الأرض الأصلي وبين مهاجر يهودي استُجلب من إحدى جهات الريح.

ولو تتّبعنا تطوّر تيار التعايش والمساواة الذي سيطر على الخطاب السياسي العربي في الداخل منذ النكبة حتى التسعينيات، يمكننا أن نفهم التأكيد على ذم مفهوم الإقصاء باعتباره دليلا قاطعا على عرقلة الدولة للاندماج القائم على المواطنة المتساوية بالكامل، وأن نفهم دعوة الشيوعيين في الخمسينيات، لأن يُشمل المواطنون العرب في كل الأطر والمؤسسات. وقد أثارت هذه الدعوة غضبا حادًا في أوساط القوى الوطنية داخل الحزب الشيوعي وخارجه، في ذلك الحين. يقود التتبع النقدي لتطوّر هذا الفكر إلى اكتشاف دقة الدور الذي أدّاه التيار المذكور، منذ النكبة، في تحقيق القبول العربي في الداخل، حتى في السنوات الأولى بعد النكبة وجرائم اليهود، بالعمل من داخل علاقة المواطنة لتحسين شروط الوجود والمكانة وبضمنها تحسين شروط المواطنة نفسها.

أمام هذا التوصيف لتوق التيار التعايشي بين العرب في إسرائيل، وعلى رأسه الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، قد يدّعي اتباعه، للتبرير وإحراج المناهضين، أن التيار الوطني القومي ممثلا بحزب التجمّع أيضا لم ينجح في الإنعتاق من سطوة مفهوم المواطنة في العمل مقابل الدولة، ولكن هؤلاء يعرفون جيدا أن ثمة فرق شاسع بين فهم حزب التجمّع للمواطنة ضمن تصور شامل ذي بعد قومي عربي، وبين فهمهم هم للموضوع.

وردا على هذا الادعاء حول غياب الفروق الجوهرية، وعن أن الأمر لا يتجاوز حدود الرطانة اللغوية، حيث يريد كل حزب أن يثبت أن له توجها مختلفًا عن غيره هو مسوغ وجوده، يأتي الواقع للبرهان على إسهام الحركة الوطنية، وعلى رأسها التجمّع الوطني الديمقراطي، في تحديد مركبات الأزمة الفكرية السياسية المترسخة في فهم أفق الممكن في علاقة الأقلية القومية الفلسطينية في الداخل مع الدولة. تلك الأزمة التي أنتجها وكرّسها وأبّدها الحزب الشيوعي الإسرائيلي ثم الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة.

ورغم اختلافي مع حزب التجمع حول بعض الطروحات وأساليب العمل لمجابهة ما يترتب على سياسة الدولة ضد العرب إلا أنه ليس من الممكن عدم الالتفات إلى النقلة النوعية في المشهد السياسي العربي والعام في إسرائيل منذ نشأة الحزب، حتى أن لغته الاصطلاحية تحوّلت إلى منبع شعارات جميع الأحزاب الأخرى، وبضمنها الجبهة والحركة الإسلامية الجنوبية.

وعودة إلى نبش مفهوم الإقصاء Exclusion كمثال واضح على ما يميِّز التجمع، ويؤكد على أهميته في إظهار العجز المفهومي الذي تحكّم بالعمل السياسي في الداخل، منذ النكبة، وأنتج ما أنتج من تآكل بطيء في مفاهيم العدل الفلسطيني ومن سعي إلى استبدال هذا العدل بالاستحقاقات اليومية، التي تأخذ مسمّيات مختلفة مثل المقولة المكرورة "كرامة وخدمات" و" مساواة الحقوق المدنية". لقد بيّن التجمّع أن المشكلة السياسية الأساسية في تعامل الأقلية الفلسطينية في إسرائيل مع الدولة لا تكمن في الإقصاء بل في الاحتواء والاستيعاب Inclusion اللذين تمارسهما إسرائيل منذ قيامها بشكل محسوب، وتتواطأ القيادات معها في تحقيقهما على أرض الواقع، مع استمرارها في اتهام مؤسسات الدولة بتبنّي الإقصاء.

لا يأتي هذا التواطؤ بدافع سوء النيّة، وإنما لأنه ما كان من الممكن أن يقود احتواء ترسم حدوده إسرائيل إلى واقع أفضل من هذا الذي نحن فيه. الاحتواء وتذويت العجز بصفته حكمة وعقلانية التعامل مع الاوقع هما اللذان يقفان وراء الرضوخ لكل فعل قمعي تنتهجه إسرائيل ضد العرب. وفي الوقت الذي لا أرى فيه داعيا إلى إدراج الأمثلة والبراهين على خطورة الاحتواء والاستيعاب، أجد أن ما يحتاج إلى التوضيح هو فهم فضائل الإقصاء، أو فضائل إقصاء الذات كمنطلق لتفكير استراتيجي عربي محلي متحرر من ضيق مساحة المناورة التي تتيحها الدولة عن وعي سابق، وكمحفز لفعل قادر على التأثير الذي تعجز عنه أدوات العمل التي تتيحها حالة المواطنة القاصرة التي نظّر لها الحزب الشيوعي الإسرائيلي، ثم الجبهة التي سارت على خطاه. هذا أمر ما كان لنا أن نلتفت إليه لولا وجود التجمّع الوطني الديمقراطي، وما كان للعرب في الداخل أن يبتكروا أساليب عمل جماعي جديدة تتفق مع المساعي الجمعية لولا إصرار التجمّع على كشف قصور الفكر السياسي المتحكّم، حتى منتصف التسعينيات، دون منازع.

ليس غريبا، والحال هذه، أن يتصرّف حرّاس الفكر المأزوم، المُحرجون من نشأة التجمّع ووجوده، بالشكل الذي يتصرفون، منذ أن سنحت فرصة ضرب التجمّع عند اضطرار رئيسه ومفكره الأول والأهم عزمي بشارة إلى ترك وطنه مكرهًا مهددًا بالعقوبة القصوى بحجة مساعدته لحزب الله للعدوان أثناء مقاومته للعدوان الإسرائيلي الأخير.

رافق قضية عزمي بشارة جو من التحريض اليهودي الإسرائيلي العارم، على المستويات الرسمية والسياسية كافة، مما منح شرعية "قانونية" كاملة لقيام الكنيست بسن تشريعات ملاحقة عنصرية ضد القيادات السياسية العربية المشاكسة في عرف إسرائيل، ولقيام الأجهزة الأمنية بملاحقة قادة وناشطي حزب التجمع في مواقع عديدة.

وقد حظيت هذه الممارسات بترحيب جميع الأحزاب الصهيونية. كان هدف هذا الهجوم إضعاف التجمع وإشاعة أجواء بين الناس تهدف إلى إبعادهم عن الحزب بصفته "من المغضوب عليهم". وفي حين كان التجمّع يستجمع قواه جرّاء الضربات المتتالية، وجد حرّاس الفكر المأزوم فرصتهم لضرب التجمع من حيث لم يتحسّب. وتأتي الإشاعات الأخيرة الشامتة عن تراجع قوة التجمّع ضمن مساعي الانتقام من وجود التجمع وإزالته عن المشهد السياسي العربي للعودة بنا إلى العهد السابق للتسعينيات. ولا غرابة في أن التيار الذي صمت بالكامل عند انقضاض إسرائيل على الحركة الإسلامية الشمالية وقائدها الشيخ رائد صلاح هو نفس التيّار الذي نشط في محاولات الإساءة إلى التجمّع ورئيسه عزمي بشارة.

إزاء هذا الهجوم لا أجد مبررًا للقبوع في موقع المتفرج. لا يعني هذا تغييب الخلاف والنقاش مع الحزب وطروحاته وقياداته بل يعني جعل المرحلة تحدد ترتيب الأولّيات، فدوام منعة وقوة الحركة الوطنية هو الهدف الأساسي الآن.

التعليقات