04/10/2014 - 08:18

فصل جديد في تاريخ الجماهير العربية في الداخل../ عزمي بشارة

في الذكرى الـ١٤ لانتفاضة القدس والأقصى، يعيد عرب ٤٨ نشر مقالة كتبها الدكتور عزمي بشارة مباشرة بعد إندلاع الهبة في الداخل ونشرت على حلقات في صحيفة فصل المقال، كما نشرت في مجلة الدراسات الفلسطينية.

فصل جديد في تاريخ الجماهير العربية في الداخل../ عزمي بشارة

 في الذكرى الـ١٤ لانتفاضة القدس والأقصى، يعيد "عرب ٤٨" نشر مقالة كتبها الدكتور عزمي بشارة مباشرة بعد إندلاع الهبة في الداخل ونشرت على حلقات في صحيفة فصل المقال، كما نشرت في مجلة الدراسات الفلسطينية.


 كان مسار أوسلو يقود بالضرورة إلى المأزق الناجم عن عدم الاتفاق على مبادئ الحل الدائم. وقد حاولنا طوال الفترة السابقة أن نؤكد أن الحلّ الدائم ليس في متناول اليد، لا بسبب موازين القوى المختلة لمصلحة إسرائيل فحسب، بل لإصرار إسرائيل على تحكيم هذا الخلل في عملية فرض تسوية أيضًا. وقد توجسنا من "كامب ديفيد" وحذرنا منه كمحاولة لمحاصرة الموقف الفلسطيني دوليًا بمجرد طرح أفكار أميركية-إسرائيلية تبدو مرنة في عهد حزب "العمل"، وتؤدي إلى إظهار الطرف الفلسطيني كرافض للسلام. هكذا طرحت مبادئ الإجماع الوطني الإسرائيلي معدلة من قبل إيهود براك وأحدثت توقعًا أوروبيًا وأميركيًا أن يقبلها الفلسطينيون – لأنهم إذا لم يستطيعوا صنع السلام "حتى" مع براك (!!) فمع من سوف يصنعون السلام؟

لقد بدأ العد العكسي نحو الانفجار بقيام الولايات المتحدة، ممثلة برئيسها، بتحميل الفلسطينيين عمليًا مسؤولية فشل المفاوضات. وكان هذا الحكم إيذانًا لضغط دولي على القيادة الفلسطينية لقبول تسوية تحت سقف لاءات براك تسمى حلاً دائمًا، وتنهي حالة الصراع. لقد ضيّق الإسرائيليون المحتفلون لا بالسلام وإنما بالانتصار الدبلوماسي في كامب ديفيد، والأميركيون الذين تحولوا إلى مجرد ناقل لرسائل وأفكار اسرائيلية، مجال المناورة وهامش التحرك الدبلوماسي الفلسطيني بشكل يُذكر بالحالة الفلسطينية بعد حرب 1982. وعندما أوشكت الحالة على الانفجار لم يوجد من يوقفها أو يستوعبها، إذ لم تعد السلطة الفلسطينية قادرة أو جاهزة لأداء هذا الدور، وإنما وُجد من يحث تنظيم فتح وشباب قيادة الانتفاضة الأولى على تصدّرها. ولا غرابة في أن يدوي الانفجار على خلفية القدس والأقصى وانطلاقًا منهما، إذ تمترس المفاوض الفلسطيني خلفهما في عملية تعبئة للرأي العام العربي والفلسطيني، كما حوّله اليمين الإسرائيلي الى امتحان لمدى التزام حكومة براك مبادئ الإجماع الإسرائيلي.

ومنذ طلب الشعب الفلسطيني حق الكلام، وخرج الرأي العام الفلسطيني إلى الشارع مؤكدًا، تارة عبر الرموز المشحونة (الأقصى، والشهادة، إلخ)، وتارة عبر الكلام السياسي الصريح، ضرورة توفر الحد الأدنى من العدالة في الحل الدائم، وأنه لا يمكن إنهاء حالة الصراع من دون إيجاد حل لأي عنصر من عناصره الأساسية، تحول الموضوع إلى صراع إرادات، ولم يعد في إمكان إسرائيل إملاء شروطها للحل الدائم من دون إملائها على الشعب الفلسطيني.

ردت أجهزة الأمن الإسرائيلية على خروج الشعب الفلسطيني إلى الشارع بإجراءات غير مسبوقة، مستفيدة من بدايات الانتفاضة الأولى درسًا واحدًا، يتلخص بضرورة استثمار أكبر قدر من القوة السافرة لوأد الانتفاضة في بداياتها. وكانت النتيجة أن رأى العالم، ورأى أبناء الشعب العربي الفلسطيني الباقون على أرضهم، في إطار المواطنة الإسرائيلية، صورة الطفل يُقتل بزخات من الرصاص وهو يستنجد مع أبيه خلف كتلة إسمنتية.

وضاعفت إسرائيل استخدام القوة السافرة بالمروحيات والدبابات ضد الشعب الفلسطيني في انتفاضته المجيدة في سباق مع الزمن، وقبل أن تزداد الضغوط الدولية، محاولة استخدام القوة إلى وسيلة ضغط لإعادة القيادة الفلسطينية إلى طاولة المفاوضات كي تقبل بما رفضت قبوله في كامب ديفيد، وهكذا تحوّل الصراع على الأرض الى استمرار للمفاوضات بوسائل أخرى، وانتقلنا من انتفاضة الشعب الفلسطيني ضد فرض السيادة الإسرائيلية على القدس والأقصى، التي تمثلت باقتحامه من قبل شارون وبمجزرة بن عامي في باحته وضد بقاء الاستيطان وضد الأحوال التعيسة التي يعيشها هذا الشعب إلى استخدام إسرائيل القوة العسكرية لمحاصرته وكسر إرادته مهددة بإعلان الحرب على مؤسسات السلطة الفلسطينية، لا على الشعب الأعزل فحسب. لكن إسرائيل اكتشفت حدود استخدام قوتها، كما اكتشفت السلطة الفلسطينية حدود استخدام ضعفها. فالشعب الفلسطيني يرفض أن يؤدي دور الضحية فقط، والعالم لا يتضامن سياسيًا مع الضحية فحسب، بل مع الضحية صاحبة الحق، وقد يقتصر التضامن على التعاطف إذا لم تقم الضحية صاحبة الحق بعمل سياسي لإحقاق ذلك الحق.

لقد افتتحت حالة جديدة من الصراع – وسنعود إليها مرة أخرى، لكن لم يكن ممكنًا التحول إلى مناقشة الهبة الشعبية العربية داخل الخط الأخضر من دون مقدمة قصيرة عن الانتفاضة الفلسطينية، موضوع هذه الهبة.

الظاهرة

ما زلت أعتبر تشخيص الظاهرة أكثر أهمية من تعداد أسبابها. وقد يتفنن المعلقون في ذكر أسباب ظاهرة هبة عرب الداخل الشعبية في عملية مزايدة تضيف سببًا جديدًا بعد كل حوار. 1) حالة التمييز العنصري التي يعيشها عرب الداخل؛ 2) خيبة الأمل بحكومة براك؛ 3) البعد الديني في التفاعل مع قضية الأقصى؛ 4) البعد الوطني والتفاعل مع الشعب الفلسطيني؛ 5) النقمة المتراكمة على الشرطة الإسرائيلية وممارساتها العادية واليومية ضد المواطنين العرب، وهكذا...

الأسباب قديمة، لكن الظاهرة جديدة، ولذلك لا تصلح الأسباب عادة لشرح الظاهرة. وتشكل الهبّة الشعبية العربية من دون شك ظاهرة جديدة، فما هي أهم مميزاتها:

بغض النظر عن الأسباب والخلفية اليومية الحياتية التي أدت إلى جهوزية الناس الكفاحية، تنادت الجماهير العربية للخروج إلى الشارع تفاعلاً مع شعبها العربي الفلسطيني في الضفة والقطاع. فقد أقرت لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية إضرابًا عامًا للتعبير عن احتجاج سياسي، وليس للمطالبة بإزالة غبن أو تحقيق مطلب يومي. لكن الإضراب تحول إلى هبة شعبية عارمة، وكان الإضرابان المتتاليان اللذان أعقبا الأول تعبيرًا عن احتجاج على القمع الوحشي الذي تعرضت له الجماهير الغاضبة. وحاول البعض أن يخفف من وقع إعلانات الإضراب المتكررة فبرّرها بالحداد على الشهداء، لكن كل إضراب حدادي كهذا كان يؤدي إلى مواجهات جديدة، وإلى سقوط المزيد من الشهداء.

ظاهرة الهبة الشعبية الشاملة ضد موضوع سياسي هي ظاهرة جديدة لا شك. فقد درجت أوساط واسعة من الجماهير العربية، عادة، على التذمر من إفراط القيادات العربية في التدخل في الشؤون السياسية، وحثها على الانشغال الكامل بقضايا عرب الداخل المعيشية والحياتية – لكن الجديد هو تفاعل هذا الشعب الواسع نفسه مع الإضراب السياسي، بل الخروج عن مساره وعن المسيرات الاحتجاجية المخطط لها سلفًا إلى التعبير عن الغضب بقوة وبشكل عفوي فاق كل التوقعات.

هذه الجماهير هي نفسها أيضًا التي كانت ستؤيد بأغلبيتها أي حل دائم يتفق عليه "الطرفان" الإسرائيلي والفلسطيني، بغض النظر عن عدالته. وعلينا ألا ننسى ذلك لحظة. لكن عنصر التفاعل الوطني والقومي والإنساني دفع الناس إلى الشارع. ومن الصعب تشخيص العامل المباشر: هل هو مذبحة الأقصى في اليوم الذي تلا اقتحام شارون الاستفزازي له؟ أم هو صورة الطفل القتيل في حضن والده؟ أم تقارير الفضائيات العربية المفصلة عما يجري؟ أم كل هذه مجتمعة؟ المهم أن الظاهرة انطلقت بأبعادها السياسية والاجتماعية.

تعاملت أجهزة الأمن الإسرائيلية مع الاحتجاج السياسي الغاضب لعرب الداخل كعمل عدائي بكل ما يحمله هذا التعبير من معان. وبدا أنها تنفذ سياسة مبنية على دروس استخلصت من تحليل ظاهرة الجهوزية الكفاحية المتزايدة لدى المواطنين العرب. ويبدو أن الدرس الذي تم استخلاصه هو ضرورة زيادة منسوب القوة القمعية، بما في ذلك إطلاق النار بهدف القتل. وقد لوحظ في السنتين الأخيرتين نقاش بين الجهاز السياسي والجهاز الأمني في الدولة العبرية بشأن أسلوب التعامل مع عرب الداخل كظاهرة سياسية باتت أكثر نشاطًا وتأكيدًا لذاتها. وكان الجهاز السياسي يميل، عادة، إلى الاستيعاب بالدمج المتدرج، في حين ازدادت الأحداث الأمنية الداعية إلى استخدام الردع. ويبدو من تعامل جهاز الأمن الإسرائيلي مع الهبة أن الجهاز السياسي قد حرّر يديه وأطلق له العنان.

عادت أجهزة الأمن الإسرائيلية، الشرطة وحرس الحدود والشاباك والمستعربون، إلى احتلال المدن والقرى العربية النشيطة. واستخدمت الذخيرة الحية في قمع تظاهرات احتجاجية. صحيح أن التعبير عن الاحتجاج اتخذ شكل إغلاق شوارع رئيسية في بعض الحالات، لكن إجابة السلطة الحاكمة على ذلك بهدف القتل بقيت منذ يوم الأرض مقصورة على المتظاهرين العرب. ولا شك في أن الكثيرين من رجالات أجهزة الأمن قد تجاوزوا بعنصريتهم البهيمية والحاقدة حتى استخدام الأسلحة النارية لتفريق التظاهرات، إلى درجة إطلاق النار على المارة العرب، أو إلى إعدام شباب بعد أن كان في الإمكان اعتقالهم. لقد تعاملت أجهزة الأمن الإسرائيلية مع المواطنين العرب في ساعة الامتحان كأنهم أعداء. وعندما امتحنت "الديمقراطية الإسرائيلية" قوميًا سقطت في الامتحان.

كنا دائمًا نؤكد أن امتحان الديمقراطية والمساواة هو قضية المواطنين، وأنه ما دامت الدولة ليست لجميع المواطنين، فإن لا قيمة حقيقية للمساواة شعارًا وبرنامجًا. وهكذا فرض العطب الأساسي ذاته، وكاد ينسف كل شيء، لأنه عطب لاحق بأساس تعامل الدولة مع العربي: من "التسامح" معه كفرد يطالب بالمساواة في إطار البنية الصهيونية القائمة، إلى معاداته إلى درجة القتل والجرح عندما يتحدى هذا الهامش ويتصرف كعربي فلسطيني، أو حتى كمواطن عربي له الحق في التعبير عن الغضب السياسي لمشروع من دون أن يُقتل أو يجرح. لقد تبين أن المساواة في الدولة الصهيونية هي مفهوم هش لا اساس له في مواطنة متساوية.

بعد أن شرعنت أجهزة الأمن الإسرائيلية عملية قتل العرب وأخرجتهم خارج سيادة القانون، وذلك في ظل حكم اليسار الصهيوني "وقوى السلام" (أنظر كفر قاسم ويوم الأرض) انفلت عقال العنصرية اليهودية تمامًا. وما دام هذا هو تصرف حكومة حزب العمل فكيف لا ينطلق جمهور اليمين باحثًا عن العربي، أي عربي، في طريقه من وإلى العمل للاقتصاص منه، وكيف لا يعمل رعاع الصهيونيين العنصريون في أعمال الحرق والتدمير في المحلات التجارية العربية في المدن اليهودية، وكيف لا يهاجم زعران وعنصريو "نتسيرت عيليت" الحي الشرقي في ناصرة الجليل؟ هذه الظاهرة لا تقل خطرًا عن تعامل أجهزة الأمن، لأنها تكشف ما يجري في عمق المجتمع الإسرائيلي وطبقاته الدنيا. لقد خرجت نتائج استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي، والتي كررت طوال العقود السابقة أغلبية عنصرية يهودية، من الجداول الإحصائية إلى الشارع؛

غاب النقد والمراجعة الذاتية والرأي الآخر عن المناظرات الإعلامية التي يشتهر بها المجتمع السياسي الإسرائيلي. وغاب المثقفون الليبراليون تعتصرهم "خيبة الأمل" بالعرب، وتفقدهم عقلية الوصاية رشدهم وصوابهم، وانضم قسم كبير منهم إلى جوقة التحريض ضد السلطة الفلسطينية لأنها رفضت سلامهم، وضد عرب هذا البلد لأنهم تمردوا على الهامش الذي فسحه لهم أولئك ضمن "التعايش" القائم على سياسة التمييز داخليًا وتحويل العرب إلى أصوات احتياط لائتلافات حزب العمل في كل ما يتعلق بالسياسة تجاه القضية الفلسطينية وقضية السلام مع الدول العربية.


وقد استفاق أولئك المثقفون الليبراليون على اليمين الإسرائيلي يعيث خرابًا في الشارع. وعندها فقط بدأنا نسمع أصواتًا تنتقد قتل المواطنين العرب؛ أي عندما أحسوا بالخطر يدهمهم. وكان نقدهم مترددًا ومشككًا في ولاء العرب الذين انجروا وراء المحرضين، كما اقتصر على زيارات تعزية بالشهداء في المدن والقرى العربية، الشهداء أنفسهم الذين سقطوا في ظل صمت قوى اليسار الصهيوني أو تحريضها. واحتاج الأمر إلى فترة صراع طويل ليقر أولئك إقامة لجنة تحقيق رسمية في الأحداث، ودافعهم الأكيد هو تمييز شهداء المواطنين العرب من شهداء بقية أبناء الشعب الفلسطيني وإطار التحقيق هو القانون الإسرائيلي الذي يرى في التظاهرات مجرد خروج عن القانون – هدف التحقيق ليس فحص عنف الشرطة، وإنما تجاوزات بصورة عامة بما فيها "تجاوزات المتظاهرين".

الهبة الوطنية

لم تنفجر هذه الهبة الوطنية في لحظة غضب، أو في موجة تضامن فقد سبقها فعل تراكمي يعاد فيه ترميم ما هدمته عملية الأسرلة من هوية المواطنين العرب الوطنية. وقد تجلى ذلك مؤخرًا في الامتناع من التزين بالأعلام الإسرائيلية في يوم الاستقلال، وفي إحياء ذكرى النكبة، وفي اكتشاف الطلبة الجامعيين لهويتهم القومية الوطنية في عملية البحث عن معنى بعد فترة طويلة من فقدان المعنى وبعد فراغ رهيب، إذ لم تنجح عملية الأسرلة في ملء الفراغ. كما تجلى ذلك في ازدياد التنافس في شأن النبرة الوطنية والقومية بعد أن أثبت التجمع الوطني الديمقراطي أن في الإمكان تبني برنامج وطني وقومي في أوضاع المواطنة الإسرائيلية، بل توريط حلبة السياسة الانتخابية بالتنافس في شأنه. وهذا يعني أن في الإمكان قيام حركة قومية وطنية ديمقراطية في الداخل من دون أن تفقد الصلة بواقع الجماهير اليومي الحياتي الإسرائيلي الطابع.

لكن الهبة الوطنية الأخيرة كنست حتى جيوب الذل والهوان، ومنحت الهوية الوطنية صلابة وزخمًا وتجربة جماعية نحتاج في الحياة العادية إلى أعوام لمراكمتها. وقد ظهرت وحدة الأقلية القومية العربية كوحدة شعبية لم نعهدها في السابق، وذلك ببروز مظاهر التضامن بين القرى والمدن، وبين الجماعات التي يتألف منها هذا الشعب. كما عززت الانتفاضة الأخيرة الروابط الوطنية والإنسانية بين أبناء الشعب الواحد على جانبي الخط الأخضر.

لقد هدف الإضراب إلى رفع رسالة سياسية احتجاجية على ما يجري في المناطق المحتلة من قبل قيادات محافظة، في أغلبيتها، في كل ما يتعلق بمسألة العلاقة بالدولة؛ فكانت النتيجة عملية تسييس مكثفة لم يسبق لها مثيل تعرض لها المواطنون العرب. ولم تشهد الأقلية القومية العربية في الماضي ما تشهده حاليًا بيوت الشهداء والجرحى من تفاعل وتضامن إنساني شمل قطاعات المجتمع كافة.

وعلى الرغم من ارتفاع أصوات الذل والهوان القليلة والمتوقعة التي تحمّل السياسة الإسرائيلية المسؤولية لفظيًا وكضريبة كلامية، لكنها تحمل القيادة العربية عمليًا مسؤولية القتل والجرحى، فإن شعبنا في مجمله يرفض هذه الأصوات التي تمجد الكرباج والجلاد وتدين الضحية، ويعتبرها خائنة وساقطة، فأبناء هذا الشعب يعرفون جيدًا أن الناس في هذه الدولة الصهيونية يقومون بالاحتجاج وبإغلاق الشوارع من دون أن يتعرضوا لإطلاق الرصاص، لا الحي ولا المطاطي، وحتى من دون غاز مسيل للدموع، كما ترى الجماهير العربية كيف تحمي أجهزة الأمن الإسرائيلية "سائبة" العنصريين وهم يهاجمون الناصرة. لقد قتل الكثيرون من أبناء هذا الشعب البررة من دون أن يشاركوا في تظاهرة أو عمل احتجاجي.

نشأ تناسب طردي بين ازدياد جهوزية شعبنا الكفاحية ووعيه السياسي وقدرته على تشخيص الدوافع والنيات الإسرائيلية وبين رعب بعض الأنذال الذين اعتادوا على الكرباج فجعلوه القاعدة، وجعلوا التمرد عليه خطيئة تحمل الضحية مسؤولية العقاب. لا يمكن مناقشة ناشري التشكيك والمغالطات بالحجة، فالقضية قضية موقف وراءه مصلحة... وكما يبدو، آن الأوان لإخراج هذا الموقف خارج الشرعية الوطنية العربية، وقد نشأت شرعية كهذه. هذا موقف خياني بحق هذا الشعب وهذه الأمة وهذه الضحايا.. وستستخدمه وسائل الإعلام الإسرائيلية الرسمية، وخصوصًا العربية منها طوال الفترة المقبلة، وعلى الحركة الوطنية أن تستعد لذلك. وقد بدأت العملية ببعض اللقاءات التي تجري في الجامعات الإسرائيلية لتقويم ما جرى متزينة بطابع أكاديمي، ويشارك فيها "الباحثون: من رجالات الأمن الإسرائيليين السابقين واللاحقين، وتلامذتهم العرب من موظفين وباحثين، وهم جميعًا يحملون الحركة الوطنية المسؤولية. كما تبين أن ثمة صحفًا عربية مرتبطة حتى النهاية المرة بدائرة الإعلانات الحكومية، وبالأحزاب الصهيونية والوزارات الإسرائيلية، ولذلك تقوم هذه الصحف بأداء دور تحريضي على القيادات العربية وعلى المواطنين العرب، وتفسح المجال لرجالات الاستخبارات السابقين لكتابة مقالات كاملة بالعربية، موجهة إلى الوسط العربي.

لا شك في أن الهبة الشعبية الأخيرة كشفت، فيما كشفت، عن عدة نواقص في البنية السياسية العربية، وفي بنية المؤسسات العربية. لكن هذا الموضوع لا يناقش في سياق تحديد المسؤول عن الجريمة التي اقترفتها حكام إسرائيل.

أثبتت الهبة الشعبية أن لا بديل من التيارات السياسية المنظمة على صعيد القاعدة، وبينت وجود قواعد منظمة وفاعلة فقط لقلة من القوى السياسية المعروفة إعلاميًا. كما أبرز الإعلام الإسرائيلي قوى غير قائمة على الأرض فعلاً، وقامت الفضائيات العربية، في بعض الحالات، بنسخ ذلك من الإعلام الإسرائيلي. وفي الواقع، هنالك "قوى" عربية موجودة في الإعلام الإسرائيلي العربي والعبري فحسب، ولا أساس لها على أرض الواقع. وإذا كان هنالك نقاط ضعف في الهبة الوطنية ومظاهر اختلال وتجاوز هناك، أي بالضبط عند القوى ذات العلاقات القاعدية والتأثير الجماهيري والقادرة على ضبط الأمور لو توحدت ميدانيًا على الأقل، فالموضوع ليس لجنة متابعة، أو رؤساء مجالس بلدية، أو نوابًا عربًا، هذه كلها قوى هيئات تمثيلية لا تنجح إضرابًا ولا تعبئ ولا تحشد. القوى القادرة على التنظيم، على صعيد القاعدة، هي المسؤولة عن القوة، وهي المسؤولة عن الضعف. أما القوى التي لا علاقة لها أصلاً بما يجري إلا عبر الإعلام، والتي اكتسبت شرعية عبر غباء الفضائيات العربية ، فستستمر في الحديث بلغتين: واحدة للعرب، وأخرى لليهود.

لقد أنجبت الهبة الوطنية جرأة غير عادية وتصديًا للقمع البوليسي لم نعهده، كما جسدت تضامنًا إنسانيًا ومجتمعيًا افتقرت إليه قرانا ومدننا العربية مؤخرًا. هذه أبعاد الهبة الوطنية التي يجب تأكيدها وترسيخها والمراهنة عليها نحو مستقبل افضل لمجتمعنا العربي. ولا يمكن الحفاظ على هذه من دون بناء قواعد التيار الوطني السياسية بصورة حثيثة وسريعة، كما لا يمكن الحفاظ عليها من دون بناء مؤسساتنا الوطنية في كل المجالات: التعليم والصحة والبحث والتخطيط كذلك لا يمكن خوض تجربة كهذه في المستقبل من دون لجان شعبية قاعدية تنظم الأحياء والقرى والمدن العربية، ومن دون حد أدنى من التنظيم الهرمي من القيادة الميدانية الى القيادة القطرية.

لا يمكن السيطرة على مجريات الاحتجاج السياسي المشروع حتى لو كان غاضبًا، وفصله فصلاً واضحًا عن أعمال التخريب التي لحقت بالأملاك هنا وهناك، كما لا يمكن ضبط عناصر فردية عفوية تفرض إيقاع المواجهات محملة الآخرين تبعات أعمالها، من دون لجان شعبية قاعدية تشارك النضال والصراع، وتستطيع أيضًا ضبط الأمور من منطلق مشاركتها ميدانيًا.

طبيعة القمع

لم يكن القمع الإسرائيلي أيضًا لحظة غضب أو ردة فعل، بل شكل قفزة نوعية سبقها تراكم كمي. إذ لم تخل مواجهة الشرطة للأعمال الاحتجاجية، على قضايا الأرض والمسكن والميزانيات وهدم البيوت، من إطلاق النار في السنوات الأخيرة. لقد ووجهت مظاهر الاحتجاج العربية بالعنف في الروحة وأم السحالي واللد، وحتى أمام مكتب رئيس الحكومة.

وملاحظة، لا بد من البوح بها، لضعاف النفوس: لم يتفجر العنف البوليسي نتيجة التضامن مع الموضوع الفلسطيني. فقد حذرنا طوال السنوات الأخيرة من تدهور في ممارسات الشرطة ضد المواطنين العرب والاعتداء عليها حتى من دون سبب. ولم يعاقب شرطي واحد بجريرة الاعتداء على نائب في البرلمان، أو بتهمة إطلاق النار على عربي بسبب مخالفة سير في السنوات الثلاث الأخيرة. وراقبنا جميعًا كيف يتم تصعيد الممارسات القمعية ضد العرب، وكيف يحمي الوزير بن عامي الضابط أليك رون من أي دعوة إلى استقالته طوال السنتين الماضيتين.

إذًا، لا علاقة لاستخدام العنف البولييسي بكون التحرك هذه المرة سياسيًا ومرتبطًا بالقضية الفلسطينية وليس مطلبيًا. فقد ارتكب القمع الوحشي لأن المتظاهرين هم عرب، ولأن الشرطة هي شرطة عنصرية، لكن البعد السياسي الوطني كشف حالة العداء وأسقط الأقنعة كليًا، ولذلك بدا العنف البوليسي أنه حالة احتلال جديدة. وهذا الوضع لا ينتهي بإقالة أليك رون أو بن عامي، إلا إذا تم ذلك كخطوة لإعادة النظر في مجمل علاقة أجهزة الأمن الإسرائيلية بالمواطنين العرب.

لا يشكل العنف البوليسي ضد المواطنين العرب حالة شاذة، بل هو انعكاس لحالة الغربة التي يعيشها المواطن العربي في الدولة، كما يعكس تعامل الشرطة وأجهزة الأمن مع العربي كخصم أو كعدو. ولا يمكن تلخيص حالة تعامل الدولة مع العرب في إسرائيل كحالة تمييز ضد مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة، بل يجب رؤية الدولة العبرية في أوقات الأزمات، لا تتعامل مع العرب كمواطنين.

الاندماج

في الإمكان تشخيص التحول الأهم من ناحية إسقاطات الهبة الشعبية الأخيرة على مبنى العلاقة بين المواطنين العرب كأفراد وكجماعة، من ناحية، وبين الدولة من ناحية أخرى وحصره في سقوط مقولة الاندماج. وشكل "اندماج العرب في حياة الدولة والمجتمع الإسرائيليين" إستراتيجية عمل سياسي لدى قوى سياسية فاعلة في المجتمع العربي وأخرى فاعلة على خط التماس بينه وبين المجتمع اليهودي، كما شكل وهمًا بالنسبة إلى عدد غير قليل من المواطنين الأفراد. ويكمن الوهم هنا في اعتبار الاندماج في المجتمع والدولة الإسرائيليين أنه الطريق من أجل المساواة، وفي اعتبار العائق الأساسي أمام الاندماج، لا يهودية الدولة، وإنما غياب السلام الإسرائيلي الفلسطيني.

وهذا ما فسر، طبعًا، اندفاع مؤيدي نظرية الاندماج هذه إلى دعم أي اتفاق يتم التوصل إليه بين الفلسطينيين وإسرائيل من أوسلو حتى شرم الشيخ، وسارعوا إلى دعم "اتفاق شرم الشيخ" بعد الهبة مباشرة كأنه لم يحدث شيء، بنمط دعم كامب ديفيد نفسه (والسلطة نفسها لا تدعي أنه اتفاق). ويندفع كل أولئك الذين يريدون "تصحيح" الانطباعات عن الوسط العربي التي خلفتها الهبة الشعبية في الوسط اليهودي إلى تجديد دعم التسوية، أي تسوية. فبموجب هذه النظرية يعتبر كل توتر خارجي عائقًا أمام الاندماج، ودعم التسوية هنا لا ينطلق من أهمية السلام العادل أو من أهمية إيجاد حل للقضية الفلسطينية، وإنما من ضرورة إزالة العوائق أمام "اندماج العرب في حياة الدولة" وذلك لأن العائق الحقيقي أمام الاندماج هو كون الدولة يهودية، ونستطيع أن نضيف بعد الهبة الأخيرة أن تمسك العرب بهويتهم القومية هو أيضًا عائق أمام الاندماج وقد اثبتت التجربة المتراكمة أنه حتى في أوضاع تقدم عملية السلام، لا يتقدم الاندماج بقدر ما يزداد وهم الاندماج انتشارًا.

نسفت الهبة الشعبية الأخيرة حتى وهم الاندماج من ناحية النظر إلى العربي من فوهة البندقية، والتعامل معه كخصم سياسي لا كطرف سياسي "مندمج" ومنافس، ضمن تعددية سياسية إسرائيلية، ومن ناحية التمسك بالهوية الوطنية والقومية حتى عندما يكلف ذلك ثمنًا، وليس فقط كحالة رفاهية، ومن ناحية ردة فعل المجتمع الإسرائيلي العدائي بأغلبيته. وعندما نذكر ردة فعل المجتمع الإسرائيلي لا نقصد الرعاع الباحثين عن العرب لضربهم وملاحقتهم وحرق محالهم التجارية فحسب، كما لا نقصد الأغلبية المتفهمة لهؤلاء الرعاع بموجب استطلاعات الرأي العام فحسب، بل نقصد أيضًا هشاشة ما يسمى بالعبرية الإسرائيلية "النسيج المشترك". ويقصد عادة بذلك، الإطار الحياتي المشترك الذي يمكن الناس من التعايش، وهو الإطار المدني – الاجتماعي، لكن الاقتصادي - السياسي في أساسه.

بعد هذه الأحداث اكتشف العرب أن مستوى المعيشة ونمط الحياة الاستهلاكية اللذين يعيشونهما داخل دولة اسرائيل لا يستندان إلى أي ركائز اقتصادية داخلية أو محلية، وأن المحال التجارية العربية التي قامت على محاور الطرق الرئيسية لتقديم خدمات للمسافرين اليهود لا تشكل مرفقًا اقتصاديًا حقيقيًا، ولا قاعات الأعراس التي تشكل "الصناعة" العربية الوحيدة القائمة والمعتمدة على رجال أعمال عرب وسوق عربية بالكامل.

امتنعت شركة "بيزك" التي تحتكر الاتصال الهاتفي الثابت في إسرائيل، فجأة من تقديم خدمات أو تصليح خطوط هاتف في القرى العربية، وكذلك شركة الكهرباء القطرية. وقررت شركات تموينية معينة عدم دخول القرى العربية. حدث كل هذا كردة فعل بعد الهبة الشعبية وفي فترات هادئة يحاول فيها الناس العودة إلى الحياة الطبيعية. وحتى "الحاخامية" باتت تعرض عضلاتها على العرب، إذ "حرمت" أربعة عشر مصنعًا عربيًا صغيرًا للغذاء شهادات "الكشروت" الأمر الذي أدى إلى إغلاقها بالكامل عدة أيام في انتظار شهادة "كشروت" مشروطة بتزويد المصانع لمفتشي "الحاخامية" احتياطات أمنية باهظة الثمن.

لا نريد إعداد بحث في شأن الموضوع حاليًا، لكن يكفي أن نذكر أنه لا يوجد مصرف عربي برأس مال عربي، ولا شركة تأمين عربية، ولا حتى مطبعة عربية قادرة على طباعة صحيفة. لقد اتضح تمامًا حتى لمؤيدي الأحزاب الصهيونية أن الاندماج هش تمامًا، ومع ذلك لم تظهر بعد براعم حالة عربية اقتصادية قائمة، ولو بشكل غير مستقل، ولو ضمن الاقتصاد الإسرائيلي القائم، وينسحب هذا أيضًا على المؤسسات التعليمية والجامعات وغيرها. وهذا هو الفارق الأساسي بين الأقلية العربية في إسرائيل وبين فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة، إذا وضعنا الأهداف والأوضاع السياسية جانبًا. فقد قامت في الضفة الغربية وقطاع غزة، حتى في أوضاع الاحتلال، جامعات ومؤسسات ومرافق اقتصادية باستثمار عربي، من المصانع والمطابع وشركات التأمين.

ولا يستطيع المبادرون العرب بناء مرافق من هذا النوع باستقلال كلي عن الاقتصاد الإسرائيلي. إنما في الإمكان بدء التفكير في مرافق اقتصادية لها جسم ومبنى وهيكل وسوق وعمالة محلية، لكنها مرتبطة بالاقتصاد الإسرائيلي بنقاط تماس محددة. كما في الإمكان بدء التفكير جديًا في التعاون مع رجال أعمال عرب في الضفة الغربية وقطاع غزة لبناء مرافق من هذا النوع. هنالك أمور يجدر توفرها بالحد الأدنى. وإذا كانت السوق الإسرائيلية تشترط "الكشروت" لمصانعنا الغذائية، مثلاً، فلماذا لا يفكر رجال الأعمال في تكامل في هذه القطاعات مع أسواق الضفة والقطاع. لقد بات عرب الداخل يشكلون سوقًا أساسية لبعض المرافق الاقتصادية في الضفة، مثل صناعة السكاكر في الخليل والأحذية وغيرها، لماذا لا يتم التفكير بالعكس أيضًا؟!!

هذه جبهة واحدة مهمة. لكن الجبهة الموازية لها لا تقل أهمية. لقد أشار تعامل "بيزك" وشركة الكهرباء مع القرى والمدن العربية في لحظات الأزمات إلى ما أثرناه في السابق من طروحات بشأن تشغيل العمال العرب في مثل هذه الشركات. فلو كان هنالك عدد كاف من العمال والفنيين العرب لغابت الحجة الأمنية الباطلة أصلاً، في عدم وصول هذه الشركات إلى القرى والمدن العربية.

يجب أن يتواصل الصراع في كل ما يتعلق بحقوق المواطن العربي في علاقته بالدولة، وكذلك فيما يتعلق بحقوق الأقلية تجاه الأغلبية. لكن هنالك قضايا أساسية وحياتية لا يمكن الاعتماد فيها على المزاج السياسي للشارع اليهودي وتقلباته. ويجب العمل على المسارين: مسار المساواة الكاملة في الحقوق، ومسار بناء الذات كشعب وكأقلية قومية، ليس فقط في القضايا الثقافية المتعلقة بالهوية القومية، بل أيضًا في بعض المجالات الضرورية لتوفير حد أدنى من الأمان المعيشي اللازم لاتخاذ موقف سياسي وطني شامل في ديمقراطية محدودة الضمان وأمام أغلبية عنصرية.

لا يمكن تحقيق استقلال اقتصادي داخل دولة إسرائيل، لكن في الإمكان التخطيط لاستثمارات وقطاعات إنتاجية وخدماتية وثقافية تضمن عددًا من أماكن العمل، أكثر كثيرًا مما هو قائم حاليًا في الوسط العربي ذاته.

سياسة التحريض على السياسة

هزت الهبة الشعبية علاقة التعايش القائمة على التبعية بين المجتمع العربي والدولة العبرية، ولذلك تناثرت هباء نظريات مراكز الأبحاث الجامعية بباحثيها اليهود والعرب. وما كاد البروفسور موشيه ليساك يصرح، بأمانة علمية نادرة، أن كل العمل التنظيري الجامعي السابق بشأن العرب في إسرائيل قد انهار دفعة واحدة، حتى عاد بعض الباحثين العرب واليهود في شؤون الأقلية العربية إلى التنظير علينا، ولديهم الآن مادة جديدة. وأكثر ما يزعج هو بعض "ربيبي" المؤسسة البحثية الإسرائيلية العرب الذين لم يستنتجوا من كل هذه الهبة سوى تعميم فظ أنه لا توجد قيادة عربية، ملتقين في ذلك، بقدرة قادر، ومرة أخرى مع المؤسسة الإسرائيلية التي ترغب في تحييد أي قيادة سياسية عربية، وكأن القيادة مقولة غير تاريخية وغير سياسية لا علاقة لها بالبرنامج السياسي للقوى القائمة أو بالبنية الاجتماعية، وكأن الموضوع موضوع وعظ ونصائح. وهكذا نشطت بسرعة البرق، وبترتيب هيئات عليا، لقاءات يهودية - عربية تستثني السياسة والسياسيين. ففي نظر الصهيونيين يتحمل هؤلاء المسؤولية لأنهم زجوا "العرب الإسرائيليين" القنوعين عادة في السياسة. وفي نظر بعض العرب يتحمل هؤلاء القادة المسؤولية لأنهم ليسوا قيادة، وتنهال على العرب من كل حدب وصوب النجوم الإسرائيلية الجديدة، نجوم الردة الإسرائيلية على ما جرى من رؤساء مجاليس و"جمعيات" و "شخصيات" وما هبّ (إلا في الهبة الشعبية) وما دبّ (إلا في السياسة)، وعلى البعض الآخر أن يلخص.

وفي أجواء تحريض القوي على الضعيف، التي انتشرت في الصحافة والإعلام الإسرائيليين، بلهجة "إذا أعطيناكم خذوا، وإذا أطلقنا النار عليكم أهربوا" يتراجع حتى السياسيون الذين أدركوا قوة شعبهم فخافوا منها، فمنهم من حرض في الماضي ضد مقولة "دولة لجميع مواطنيها" لأنها تعني، في رأيه، الاندماج وتتعارض مع الهوية الوطنية مشاكسًا بذلك ضد الحركة الوطنية، مستخدمًا مقولة من مقولاتها ضد مقولة أخرى، يمزق الآن ثيابه في الإعلام الإسرائيلي مؤكدًا "أنا مع الاندماج" والآخرون هم المتطرفون أصحاب النزعات الاقتصادية. وبعض المثقفين يدعو بين العرب إلى دولة ثنائية القومية لا قناعة، بل مشاكسة ضد الحركة الوطنية الفلسطينية، ويدعو في الداخل بالعربية إلى الاندماج ويعمل لإقامة جمعيات وحوارات من أجل هذا الاندماج عندما يبدو التحريض كأنه علاقة القوي بالضعيف يتراجع الضعفاء إلى درجة التحريض ضد أبناء الحركة الوطنية وبناتها لكسب رضا القوي؛ فتارة يتم التحريض على الحركة الوطنية لأنها التعاون اليهودي – العربي وهذه فرية تكاد تكن دموية في هذه الأيام، أو لأن اتباعها متطرفون انفصاليون وهكذا.

هذا النمط من السلوك يدهور العلاقة بين العرب وإسرائيل إلى علاقة مستعمر بمستعمر، بل إلى أحط التعبيرات عن علاقة المستعمِر بالمستعمَر، لأن من يحاول إثارة إعجاب أو رضا الجلاد على حساب ذم القوى الوطنية واعتبار كرامتها القومية تطرفًا، ومن يحاول بغريزة الزواحف نزع صفة العقلانية عن مشاريع المساواة والهوية القومية والسلام العادل، يكرس نظرة الاستعلاء والفوقية الاستعمارية، ويؤكد صورة العربي المرتسمة في أذهان العنصريين كجبان يفكر من خلال غرائزه المنحطة، ومصالحة الفردية كما يتصورها ويسهل استخدامه ضد أبناء قومه.

تحاول إسرائيل الرسمية وبعض وكلائها أن تجمع كل الشواهد اللازمة للاستنتاج التالي: إن المسؤول عن الهبة الشعبية التي فجرها أبناء هذا الشعب هو "الإهمال" الذي تعرضت له الأقلية العربية في كل ما يتعلق بحقوقها اليومية وغياب استثمارات الدولة في تطوير القرى والمدن العربية. والأهم من ذلك في نظرها هو استغلال بعض القوى السياسية العربية هذه الحالة لتحريض الناس سياسيًا ضد "الدولة" وضد "التعايش" وضد أمور كثيرة، لكن ليس من أجل شيء. العلاج يتم على مسارين متوازيين: 1) تحسين وتطوير تعامل الحكومة مع الوسط العربي. 2) عزل هؤلاء السياسيين المتطرفين جماهيريًا، والأفضل عزل الأقلية العربية في مجملها عن السياسة، ما عدا في خيم التعايش التي سيتفرغ لها مختصون يتقنون صف الكلام الفارغ، والحوم حول أصناف من المأكولات العربية.

ومنطق هذه الحوارات السياسية يضع العرب أمام خيارين: إما أن تكون السياسة العربية مع "عملية السلام" بالخطوط التي يضعها حزب العمل واليسار الصهيوني، وإما أنها ضد السلام. فمفهوم "السلام العادل" يقع خارج "السلام" ويصح إطلاق النار عليه. إما أن تؤكد السياسة العربية التعايش القائم على يهودية الدولة، وإما تعتبر رافضة للتعايش. أما المساواة القائمة على مبدأ المواطنة الكاملة غير المنقوصة فتقع خارج التعايش وضد الأخوة اليهودية-العربية، إذ أنها تغضب أغلبية اليهود، والأفضل يحمل السياسي العربي "دربكة"، وبدلاً من الدفاع عن الهبة الشعبية يهب في "دبكة شمالية" ، لقد اقترحت بلدية حيفا مؤخرًا، في إعلانات موجهة الى الجمهور اليهودي، الاستمرار في زيارة وادي النسناس والأحياء العربية الأخرى والانخراط في برامج لاستضافتهم في بيوت العرب. ولم يتساءل احد لماذا يكون إثبات التعايش بأن يدعى المواطنون اليهود الى زيارة بيوت العرب في أحياء حيفا العربية، ولا يصح إثباته بدعوة أبناء حي وادي النسناس ويافا لزيارة بيوت "رمات أفيف" أو "دينيا"، أو أحياء يهودية غنية أو فقيرة أخرى؟!

وقد تطوع مؤخرًا أحد المشاركين في خيمة تعايش، عرف نفسه أنه ضابط في سلاح البحر الإسرائيلي، للاتصال بي هاتفيًا يبلغني كيف كان حديث السياسي العربي في تلك الخيمة عن التعايش والتآخي وضد التطرف مؤثرًا إلى درجة كاد فيها يجهش بالبكاء، ثم بدأ بتوجيه النصائح – الأوامر إلي بلهجة: "أنتم متطرفون ويجب أن تتعلموا من هذا الرجل". وهكذا نصب هذا السياسي المحترم – وهو بالمناسبة عضو كنيست سابق – كل مشارك تفضل وتنازل للقدوم إلى خيمة التعايش وصيًا علينا.

لكن العزاء إزاء هذه الحالة من التحريض على السياسة والزحف على البطون من قبل بعض المثقفين وأصحاب المصالح العرب، هو الاستنتاج الذي توصلت إليه الأغلبية الساحقة، وهو أن هذه لحظة الحقيقة، وأن التراجع غير ممكن بعد أن ارتكبت الدولة هذه الجرائم بحق المواطنين العرب. التراجع عن الهوية الوطنية والقومية غير ممكن، والتراجع عن حقوقنا غير ممكن، إلى أين نتراجع؟

فخيم التعايش التي قامت بقرار حكومي وانتشرت كالفطريات على مفارق الطرق، ليست بيتًا يمكن اللجوء إليه عند إطلاق النار، وهي ليست أساسًا جديًا للمساواة ولا للتعايش بين متساوين. يكون التعايش بالمساواة أو من خلال النضال من أجل المساواة، ويتم التعايش بالسلام العادل أو من خلال النضال من أجل السلام العادل.

تدرك الأغلبية الساحقة من أبناء هذا الشعب، الآن، أن حمايتها في المدى البعيد كامنة في بناء ذاتها وبناء حركتها الوطنية القادرة على طرح خيار شامل لليهود والعرب في هذا البلد.

لم تفقد قضية المساواة أهميتها عندما غاب وهم الاندماج، بل يمكن الآن إذا توفرت الشجاعة السياسية الكافية أن تنطلق من جديد على أسس صحيحة، أي من التمسك بالهوية الوطنية والقومية، ومن بناء المؤسسات الوطنية الذاتية. هذا هو الامتحان الذي يجب اجتيازه بنجاح. وتحتاج المطالبة بجميع الحقوق، من دون التراجع عن بناء الشخصية الوطنية، إلى جرأة أشد وإلى نفس طويل من النضال.

أما التراجع عن الموقف الوطني، وعن هدف بناء الذات، كشعب وكمؤسسات من أجل استرضاء الدولة والرأي العام الإسرائيلي، فهو عودة إلى انتظار فتات المائدة، ولا يمكن اعتباره إستراتيجية سياسية من أجل المساواة. هذه ساعة الامتحان إذا.

يكلف الصمود في هذه المرحلة ثمنا، لكنه في نهاية المطاف يرسي أساسا واضحا للحقوق السياسية والمدنية. يصعب الآن الوقوف أمام موجة التحريض العارمة، ولكن التراجع أمامها لا يدمر المنجزات الوطنية بحسب، بل يحول قضية المساواة إلى توسل ومراضاة، ويؤدي لا محالة إلى كسر شوكة العرب في موضوع المساواة أيضا.

لقد أصبح من غير الممكن، بعد الهبة الشعبية الأخيرة، الفصل بين الموقف الثابت والواضح في القضايا الوطنية والسياسية، وبين الموقف من قضية المساواة. ومن يمجد الكرباج لا يريد المساواة، وإنما يريد لشعبه الذل والهوان إلى الأبد.

تجاوزات

لا توجد هبة شعبية من دون تجاوزات، وخصوصا عندما تتصاعد درجة العنف، ويصبح من الصعب التمييز بين أنواع العنف المتاحة. ولا شك في أن تخريب الأملاك العامة وإلحاق الأذى بالأملاك الخاصة لا يقاربان النضال، لا من قريب ولا من بعيد، بل يشبهان إلى حد بعيد أعمال الزعرنة أو تصفية الحسابات بين عناصر جنائية وبين المجتمع في لحظة انسحاب القانون الإسرائيلي من الشارع، أو تحولها تماما إلى الجانب الآخر من المتراس، عندها تسنح فرصة كي تبدو العناصر الجنائية في الجانب نفسه من المتراس بين الشباب والأطفال. وقد ينجر أيضا من دون واسطة جنائية شباب عاديون إلى أعمال حرق وتكسير تضر بالنضال، وتصعب على عامة الناس التضامن معه. وربما تلحق بعض أعمال التخريب أضرارا حقيقة فينفر الاستثمار الاقتصادي من القرية أو المدينة العربية، ويحلق ضررا ماديا مباشرا بالموظفين والعمال وأصحاب العمل. ومن غير المفهوم ولا المعقول ولا المقبول أن تطالب مجتمعات قرى وبلدات عربية كاملة أعواما طويلة بإشارات ضوئية على مفارق الطرق الخطرة المؤدية إليها، كي تصبح هذه الإشارات الضوئية هدفا مباشرا للهجمات "النضالية" المدمرة. هذا ليس نضالا ولا علاقة له بالنضال من قريب أو بعيد. فالنضال الوطني يحرص على ملكية الناس وحياتهم، كما أنه يتعامل مع الملكية العامة بدرجة أكبر من الحرص، لأنها تخدم المجتمع كله، وهو يسعى لتطوير الحيز العام لا إلى تخريبه.

هذه التجاوزات لا تواجه بالوعظ أو بالاستنكار. والقادرون على مواجهتها ووقفها عند حدوثها هم المناضلون المنظمون الموجودون في ساحة المواجهة – فقط بالتنظيم والوعي السياسي والنضوج النضالي لدى فئات واسعة من المشاركين في أعمال الاحتجاج يمكن وضع حد لظواهر التخريب غير المفهومة. والمشاركون في النضال المنظمون والواعون هم القادرون على فصل القمح من الزوان في خضم النضال. أما الوعظ والإرشاد المتأخران فلا قيمة لهما، وخصوصا عندما تصبح سيادة القانون، أو تضع ذاتها، على الجانب الآخر من المتراس.

هل ضعف العرب بعد الهبة؟

في إثر يوم الأرض عام 1976، الذي قام فيه "عرب البقية الباقية" بخطوة سياسية واحدة موحدة إزاء حكومة إسرائيل ضد مصادرة الأراضي، وبعد أن تبينت نتائج هذا اليوم بتعامل قوات الشرطة وحرس الحدود مع المواطنين العرب كطابور خامس وبالمنظار الأمني فقط، طلب وفد من لجنة رؤساء السلطات المحلية العربية آنذاك أن يقابل رئيس الحكومة، يتسحاك رابين، فما كان من الأخير إلا أن رفض استقبالهم. وهو رئيس الحكومة نفسه الذي قتلت شرطته 6 مواطنين عرب وجرحت المئات في يوم واحد هو يوم 30 آذار (مارس) 1976، وهي لجنة رؤساء البلديات والسلطات المحلية نفسها التي رفضت بالأغلبية الساحقة اقتراح الإضراب في يوم الأرض.

تلت يوم الأرض حملة تحريض واسعة النطاق وحدّت الأقلام العبرية ضد العرب أكثر مما نشهد اليوم. وعُرفت في حينه تقسيمات للعرب، مثل "متطرفين" و"معتدلين"، كما أعال يوم الأرض عددا لا يستهان به من جمعيات التفاهم والتعايش ومراكز الأبحاث في الشؤون العربية، وعددا من المختصين بشؤون الأقلية العربية عربا ويهودا. وما لبثت قوة العرب السياسية أن ازدادت ازديادا ملحوظا بعد يوم الأرض، لسبب واحد هو أنه كان مؤشرا إلى إمكان حركتهم السياسية الموحدة كأقلية قومية. وقد كانت المنجزات المطلبية الحقوقية التي تلته إحدى وسائل استيعاب هذه الحركة وامتصاصها من قبل السلطة الحاكمة.

هكذا يحقق "المتطرفون" الإنجازات، إذ تمنحها السلطة لـ"المعتدلين" كي لا يقوى "المتطرفون"، فيحسب "المعتدلون" أنفسهم قد حققوا إنجازات بالتفاهم مع سلطة عنصرية احتلالية.

أكتب هذا وأفكر في افتتاحية "هآرتس" (06/11/2000) التي يدعو فيها المحرر إلى إقامة لجنة تحقيق رسمية في وقائع ما جرى ونجم عنه مقتل 13 مواطنا عربيا. ويبرر المحرر دعوته بأنه إذا لم تتم تلبية هذا المطلب فسوف تزداد قوة تلك العناصر القومية لدى الأقلية العربية التي تدعو إلى الحكم الذاتي الثقافي كمقدمة لحكم ذاتي سياسي. وليس هذا الهراء هنا ذا بال. المهم أن لجنة تحقيق رسمية يجب أن تقام برأي الصحيفة كي لا يقوى "المتطرفون" مرة أخرى. والأسوأ من ذلك كله أن كاتب الافتتاحية يستند في ذلك إلى مصادر "يسارية" عربية، والمقصود، طبعا، عرب ينتمون إلى "اليسار الإسرائيلي"، تحذر من ازدياد قوة القوميين لأنه لا يوجد ولا يمكن أن يوجد في نظر كتبة "هآرتس" المتنورين يسار عربي. فاليسار العربي هو مجرد قومجية. واليسار في نظر البعض لا يلتقي مع كلمة عربي، والعياذ بالله، لكنه ينساب انسيابا، مثل سيمفونية "موزارتية" ناعمة مع كملة صهيوني. وعلى ذكر "اليسار الصهيوني" نقصد بهذا التعبير كل القوى من حزب العمل، الذي يموضع نفسه عليها تاريخيا وحاضرا ومستقبلا، وهذا يشمل الاشتراكي الديمقراطي – بن عامي، كما يشمل ران كوهين ويوسي سريد وغيرهم. ولا أعتقد أن براك يحسب نفسه على معسكر اليسار، أو حتى على حزب العمل ذاته.

إن القوى العربية "المعتدلة" التي تستند إليها صحيفة "هآرتس" تحذر من ازدياد قوة القوميين على الساحة العربية، وتطالب الحكومة بلجنة تحقيق رسمية درءا لخطر هذه القوى، وجريا على المثل: "درهم وشاية خير من قنطار نضال".

ويبدو أن ما يحدث بعد الهبة الشعبية الأخيرة هو عكس ما حدث بعد يوم الأرض. فالحكومة لا ترفض الجلوس مع رؤساء السلطات المحلية العربية، بل أوفدت وزيرا إلى الجليل يمضي الأسابيع هناك، ويتابع مكتب رئيس الحكومة الاتصال بممثلي العرب بصورة مكثفة، بما في ذلك جلسة مع بعض ممثليهم في أثناء الأحداث. ويجري كل هذا على الرغم من استمرار التحريض الإسرائيلي ضد "القوى المتطرفة" حينا، و"النواب العرب" أحيانا أخرى (وهذا ظلم طبعا، فبعض النواب العرب يؤيد علنا الاندماج في المجتمع والدولة، بالعبرية تارة وبالعربية تارة أخرى إذا كان نوع العرب المستمعين يسمح بذلك).

ويوافق رئيس الحكومة على تأليف لجنة تحقيق رسمية في الأحداث، وهذه أول مرة يتم فيها تعيين لجنة تحقيق رسمية نزولا عند مطلب عربي، إذ لم يلبّ هذا المطلب في حالة "مجزرة كفرقاسم"، ولا في حالة يوم الأرض. ويبقى السؤال الكبير عن تركيبة اللجنة وكتاب تفويضها. والسؤال الأهم والأكبر عن منطلقات هذه اللجنة. فمن الواضح أن لجنة تحقيق رسمية إسرائيلية ستتعامل، في أفضل الحالات، مع هبة عرب 48 الشعبية كخلل طرأ على الديمقراطية من ناحية سلوك المواطنين العرب السياسي بالتضامن مع الانتفاضة، وخرق القوانين من خلال التظاهر غير القانوني ومواجهة الشرطة، وبإطلاق النار العشوائي أو القنص من ناحية سلوك الشرطة.

إن تأليف لجنة التحقيق الرسمية هو إجراء إسرائيلي داخلي يتعامل مع ما جرى من أجل احتوائه ضمن استقرار النظام الإسرائيلي، وللاستفادة منه لمصلحة هذا الاستقرار مستقبلا. إذا لا يمكن أن تتفهم لجنة تحقيق رسمية إسرائيلية برئاسة قاض عملية التضامن والتفاعل مع شعبنا الفلسطيني في انتفاضته الوطنية، بما في ذلك من خرق للقانون الإسرائيلي في بعض الحالات للتعبير عن الغضب المشروع.

لقد ازدادت قوة المواطنين العرب في إسرائيل، بل ازدادت قوة مواطنتهم ذاتها بعد هبة شعبية لا علاقة للشأن الذي تفجرت من أجله بمساواتهم كمواطنين. ومن المفيد أن يعيد بعض من هدد وخوف الناس حساباته، كي لا يسارع فورا إلى كيل المديح لإسرائيل على هذه الخطوة لمجرد أنه لم يتوقعها، ولأنه انشغل بمراضاة السلطة، في حين كانت الدولة تنظر إلى الشارع العربي، وترى كيف أن هذه المراضاة تترك أثرا سلبيا في المواطنين العرب، وأن قوة "المتطرفين" آخذة في الازدياد.

لم يخضع باراك للمطلب الجماهيري العربي بالمديح، وإنما بالضغط وكيل المديح لقرار الحكومة تعيين لجنة تحقيق رسمية يفرغ المطلب من محتواه تماما، ويحوله إلى إنجاز بحد ذاته، وكأن إسرائيل قامت بواجبها بمجرد تعيين لجنة تحقيق، ويبقى على المواطنين العرب أن يقوموا بواجبهم في دفع الثمن عن خرق القانون. فلجنة التحقيق تعالج المحرضين، بينما تستمر الشرطة والمحاكم في معاقبة المعتقلين.. هكذا يتم احتواء الموضوع إسرائيليا. وكما كان هناك في يوم الأرض سنة 1976 نزعات وعناصر وطنية في الإمكان تطويرها، وأخرى إسرائيلية اعترضت على هذا اليوم، ثم حولته إلى ذكرى، وتطالب إسرائيل بعد عقود باحترامها كذكرى للمواطنين العرب، هكذا أيضا تتضمن الهبة الشعبية عناصر استمرار النهج الوطني الديمقراطي، كما تتضمن عناصر أسرلة مذعورة قد تتحول إلى المباهاة والتفاخر بالديمقراطية الإسرائيلية بعد تعيين لجنة تحقيق رسمية. لكن هيهات! فقد انهار وهم الاندماج إلى غير رجعة، وباتت بقاياه الصامدة كاريكاتيرات مثيرة للحيرة بين الضحك والحزن، إذ ما زال البعض يعتقد أن تبادل الحديث مع براك مصادفة في أحد أروقة الكنيست، هو أمر يصلح للمفاخرة والمباهاة ولإصدار بيان صحافي، وهذه حالات تأسرل بسيطة وفجة قد تستعصي على التحليل لبساطتها الفاضحة، أي لغياب مركبات فيها.

غير أن هنالك حالات أكثر تركيبا قد لا تدخل فيها النية السيئة بالضرورة لكنها تهرب من ساحة النضال الحقيقية إلى "المواجهة" على مستوى الرموز. فماذا تعني المطالبة العربية في البرلمان الإسرائيلي، أي مطالبة القتلة بالوقوف دقيقة حداد على أرواح الشهداء، وبعضهم يحرض قبل هذه الدقيقة وبعدها على قتل المزيد؟ هذا نوع من الإحراج على الصعيد الرمزي، واستبدال المواجهة بالتخجيل والتنازل المسبق عن محاولة تغيير موقف الطرف الآخر أو التأثير فيه بالنضال أو حتى بالإقناع.

كانت الحالة الإسرائيلية قبل الهبة الشعبية حالة دلال وتدليل للعربي المتأسرل، إذ لم تخل مؤخرا مؤسسة إسرائيلية أو برنامج ثرثرة إسرائيلي من التزين بـ"عربي إسرائيلي" من النوع الذي تعلم آليات الابتزاز العاطفي والاستفادة من رغبة الليبراليين الإسرائيليين المستميتة في عدم الظهور بمظهر العنصريين. وأنجبت هذه العلاقات المشوهة صورا للمتطرف والمعتدل والعربي المهضوم وغير المهضوم، ونبذ القومية العربية والوطنية الفلسطينية ضمن المواطنة الإسرائيلية، والتسامح مع طابع المواطنة اليهودي وطابع الدولة الصهيوني، وهكذا.

لكن الاستقطاب الذي أحدثته الهبة الشعبية الأخيرة عكر صفو برامج الثرثرة التلفزية ذاتها، وعبث بقواعد اللعبة السائدة فيها، وأفسد أجواء التزين بعربي كـ"صديق" وأو كـ"ضيف" أو كنوع من الفولكلور – بما في ذلك من فائدة جمة وخير غير عميم لكنه عظيم بالنسبة إلى العربي القابل للاحتمال كموضوع للزينة أو للعتب أو للدعابة أو لفحص قدرة النواب اليهود على تحمل المساواة والتحمل والتسامح. كيف يعود "العربي الإسرائيلي" الذي أطاحته الهبة إلى تبوؤ هذا المنصب بعد أن أغضب شعبه الدولة والمؤسسة و"الأغلبية اليهودية" فلم يعد "اليسار" سابقا، و"اليسار المرتبك" يحتمل حتى أمثاله؟ يستطيع هذا العربي أن يتبرأ من شعبه، لكن في هذه الأوضاع تبدو هذه الخطوة مجازفة محفوفة بالمخاطر على المستوى العربي، وغير مضمونة النتائج على المستوى الإسرائيلي. ويستطيع "العربي الإسرائيلي" أن يدعي بالعربية أنه أشد تطرفا من خصومه القوميين، ثم الادعاء بالعبرية أنه مع الاندماج والانسياب والتناسق والتناغم. لكن حبل الكذب قصير، فكم بالحري عندما يرقص من يرقص على حبلي كذب متوازيين؟

لا يستطيع "العربي الإسرائيلي" أن يتهرب من شعبه العظيم الذي يثير حتى انفعال أمثاله وشفقتهم على أنفسهم، لأنه يذكرهم بذلهم وعارهم، بينما هم يحلمون في أثناء انتفاضته بإثارة إعجاب الإسرائيليين في التلفزة الإسرائيلية والعرب في التلفزة الأخرى، كما لا يستطيع أن يواجه اليمين والمؤسسة الإسرائيلية بموقف وطني قومي وبكرامة وبموقف ديمقراطي ومتنور لئلا يثير غضب "اليسار الإسرائيلي السابق" و"المرتبك"، الذي قد يغلق أمامه طريق العودة إلى الاستفادة من دور العربي، ولذلك لا يسمعه، وهو المغلوب على أمره، إلا أن يبادر إلى استدرار العطف والشفقة.

هذه الإستراتيجية غريزية للغاية ولا تحتاج إلى تخطيط عظيم. وهي تُشعر حتى اليميني الإسرائيلي التافه بتفوقه إلا إذا كان غليظ القلب إلى درجة الجلافة. لكن اليميني العادي غير الجلف مستعد للاستماع إلى عربي يحاول استدرار شفقته، و"اليسار المرتبك" يعود إليه توازنه فورا عندما يستدر عربي عطفه، فهذه وظيفته بحكم التعريف، أي الشفقة على العرب والتسامح معهم شرط أن يضعوا أنفسهم في موضع طالبي التسامح.

أبارتهايد

يستطيع البعض أن يوهم ذاته أن هبة المواطنين العرب في الدولة العبرية هي أمر استثنائي يحتاج إلى تحليل من قبل السلطة الصهيونية وباحثيها العرب واليهود من أجل تجنبها مستقبلا. والواقع أن الهبة الشعبية عند عرب الداخل ليست نمطا مستمرا، ويبدو أن من الصعب أن تكون كذلك في الأوضاع المعيشية الراهنة، والإطار السياسي القائم، والأهداف السياسية لهذه الأقلية القومية. لكن هذا لا يعني على الإطلاق أن الهبة حدث عابر يجدر تجاوزه، وإنما هي تعبير عن تضامن قومي وطني أصيل، وعن غربة عن مؤسسات الدولة العبرية في الوقت ذاته.

طورت الهبة الشعبية ذاتها وعيا وطنيا وصلابة في الهوية القومية كانت الحركة ستحتاج إلى سنين طويلة من العمل في الأيام العادية لتطويرها. وقد زودت الهبة الحركة الوطنية بتجربة جماعية مكثفة، وبرموز ثبتت، وبحكايات تروى، وكلها تُغني هوية عرب الداخل الوطنية الفلسطينية والقومية العربية. وتُقوّم السلطات الإسرائيلية علنا أن دور الحركة الوطنية والتيار القومي المنظم كان حاسما في الأحداث وفيما أدى إليها من انتشار الوعي الوطني والوعي المطلبي الصراعي. وبغض النظر عن دوافع المؤسسة الحاكمة ورغبتها الأكيدة في محاربة التيار القومي المنظم إلا أنه ولمصلحة استمرار العمل الوطني نجد لزاما علينا أن نرى الأهمية المصيرية لتنظيم التيار القومي لذاته كتيار فاعل في السياسة العربية في الداخل، وتأثيره البالغ في الحوارات و"الأجندة" السياسية في الدولة العبرية، وفي بلورة الوعي الوطني الفلسطيني حتى لدى قواعد القوى السياسية الأخرى التي تناهض هذا التيار، لأنه يطرح صيغة جديدة بالكامل للعلاقة بالدولة العبرية وبالشعب الفلسطيني ولمفهوم المواطنة. ولو توفرت كل الظروف للهبة الشعبية ولم يتوفر العنصر الذاتي، عنصر الوعي السياسي والتأطير والتنظيم وصوغ الوعي في برنامج سياسي، لما أدت الظروف الموضوعية ذاتها إلى تفجر الهبة الشعبية.

ومع أهمية هذا العنصر الذاتي البالغة، وكي لا نبالغ في أهميته، علينا أن نعود إلى العنصر الموضوعي من جديد. والسطر الأخير أنه لا يمكن الحفاظ على حالة أبارتهايد مع الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع من دون استيرادها نحو الداخل. وإذا كان العنصر الأساسي في تنظيم العلاقة بالشعب الفلسطيني، بالنسبة للمؤسسة الإسرائيلية، هو الفصل الديمغرافي من دون تحقيق العدالة، ولو النسبية، فلاد بد أن يسري عنصر الفصل الديمغرافي على العرب في الداخل.

ما زال براك يحاول تحقيق الفصل الديمغرافي عن الفلسطينيين بأفضل شروط ممكنة لإسرائيل، أي في إطار لاءاته الأربع المعروفة. ومن الواضح أن هذه المحاولة لاقتصار الحل على الانفصال الديمغرافي قد باءت بالفشل، وما زال الصراع قائما لفرض الأبارتهايد بالموافقة أو من طرف واحد، وفي كلتي الحالتين لن ينتهي الصراع. وقد أدت الانتفاضة الفلسطينية المجيدة إلى نفاد الخيارات الإستراتيجية؛ فخيار العودة لاحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة مباشرة غير قائم، وكذلك خيار العودة إلى التفاوض بالشروط القديمة، وحتى القصف والحصار ليس خيارا حقيقيا، أو باتا يكلفان إسرائيل أيضا ثمنا باهظا. وإسرائيل غير ناضجة، بيسارها ويمينها، لقبول الخيار الرابع، وهو إعادة النظر في مجمل تصورها للحل الدائم وقبول التسوية التاريخية مع الشعب الفلسطيني. لقد انتقلت إسرائيل أول مرة من الخيارات الإستراتيجية إلى عملية إدارة أزمات في انتظار التطورات، وكانت هذه حالة القيادة الفلسطينية في الماضي، فباتت حالة القيادة الإسرائيلية أيضا، والتي يجدر بنا أن نرحب بها، إذ انضمت إلى نوادي المنطقة من حيث غياب الإستراتيجية.

توجد أمامنا حالة أبارتهايد متوترة جدا، وتحمل كل مميزات "الفصل العنصري"، بما في ذلك الحصار وانعدام حرية الحركة وفرض الحدود على الشعب الآخر من طرف واحد، وغياب السيادة، وتحديد سلطات الشعب الآخر وتقليصها أيضا من طرف واحد، وحتى التحكم في حركة قيادته.

هذه الحالة من الأبارتهايد لا يمكن أن تبقي على حالة تعايش واندماج مع العرب داخل الدولة العبرية، إذا لا بد من أن تؤدي إلى توتر وتشكيك وإقصاء للعرب خارج دائرة الولاء والمؤسسة. ولن يغير علاقة الأبارتهايد قيام دولة فلسطينية بالشروط الإسرائيلية بالتراضي أو إعلان من طرف واحد. ومثل هذا التطور سيستمر في تعميق حالة الأبارتهايد داخل إسرائيل. وقد أحس العرب بطعمها لفترة دامت أكثر من شهر بين الهبة الشعبية وفترة التشكيك والملاحقة والحصار التي تلتها وحالة التحريض ونزع الشرعية عن نشاط عرب الداخل المستمرة والتي لن تتوقف قريبا.

لا يمكن أن يستمر الأبارتهايد بحالته الساكنة أو المتفجرة من دون أن يطال العرب في الداخل وأن يشملهم في النهاية. ولا يمكن أن يكون الصراع ضد الأبارتهايد صراعا مقصورا على الضفة الغربية أو قطاع غزة.

التعليقات