29/03/2015 - 22:11

يوم الأرض: بين إحياء الذكرى والاحتجاج../ نمر سلطاني

إحياء ذكرى المناسبات الاحتجاجية يحمل في طيّاته إمكانيات ونقيضها. فمن ناحية، قد تؤدي إلى التثقيف والتذكير: تثقيف الأجيال التي لم تعش اللحظة الاحتجاجية، وتذكير الآخرين بمسيرة الكفاح والتضحية، وباستمرارية الإجحاف والصراع الذي أدى إلى...

يوم الأرض: بين إحياء الذكرى والاحتجاج../ نمر سلطاني

إحياء ذكرى المناسبات الاحتجاجية يحمل في طيّاته إمكانيات ونقيضها. فمن ناحية، قد تؤدي إلى التثقيف والتذكير: تثقيف الأجيال التي لم تعش اللحظة الاحتجاجية، وتذكير الآخرين بمسيرة الكفاح والتضحية، وباستمرارية الإجحاف والصراع الذي أدى إلى الإحتجاج. ولكن الإحياء، من ناحية أخرى، قد يؤدي إلى التعامل مع الاحتجاج كلحظة زمنية منتهية، كجزء من الماضي لا من الحاضر. فيصبح في خانة ماضي الذكرى لا ذكرى الماضي التي تستمر في التفاعل في حاضر الوعي. كما أنها تثير الفرق ما بين عملية إحياء الاحتجاج وعملية الاحتجاج نفسه. فإذا كان هدف عملية الإحياء هو التأكيد على استمرارية النضال والإجحاف فلماذا لا يستمر ويتكرر الاحتجاج؟ لماذا يتكرر الإحياء ولا يتكرر الاحتجاج؟ وإذا كان الإحياء احتفاءً وتذكيرًا بالتضحيات التي قدمتها الجماهير قربانًا للصمود، فلماذا يتم التعامل مع هذه التضحيات كأنها من مستلزمات الماضي رغم التذكير بتحديات الحاضر التي لا تختلف كثيرًا عن تحديات الماضي الذي أوجب التضحية؟

ما أريد التنبيه إليه عن طريق إثارة هذه الأسئلة هو أن إحياء الذكرى مع نزع الطابع الاحتجاجي يصبح ضربًا من كتابة التاريخ واستذكاره لا ضربًا من صناعة الحاضر والمستقبل. وأبرز أشكال التخلي عن الطابع الاحتجاجي هو رفض الإعلان عن الإضراب العام في أيام الأرض (وهو نفس المصير الذي تعاني منه ذكرى هبة القدس والأقصى في أكتوبر 2000). لا ريب أن عملية التذكير والتثقيف مهمّة، ولكنها ناقصة وتنتقص من أهمية الحدث الذي تدّعي إحياءه. الاهتمام بالذاكرة مهمّ بلا شك. ولكن ليس بالذاكرة وحدها يحيا الاحتجاج. وليس بالذاكرة وحدها يتمّ صقل مسيرة الجماهير. أفضل ذاكرة للاحتجاج وأفضل تذكير بما يستدعي الاحتجاج هو الاحتجاج نفسه عن طريق إعادة إنتاجه وممارسته. الممارسة الاحتجاجية الجماعية هي خير وعاء للذاكرة وخير صقل للهوية الجماعية. فوحدة المصير لا تتجلى في وعاء الذاكرة المسكوب بالماضي المجيد أو المرّ، وإنما بوحدة النضال ووحدة المشروع الكفاحي كممارسة يومية وطويلة الأمد. إذا كان وعاء الذاكرة يحتاج إلى السكب الدائم فلا يكفي أن نملأه باجترار الماضي. من الأفضل أن نشحذه بتحديات الحاضر.     

من الواضح أن تحويل يوم الأرض إلى مجرد ذكرى وفعالية جماعية لمدة ساعتين وتنظيم بعض المهرجانات الخطابية لاستعراض المواهب الخطابية والإنشائية هي الطريق الأسهل والأقل وعورة. في حين أن الحديث عن الاحتجاج يتطلب التفكير بالتنظيم. والتخطيط للتنظيم يتطلب الانتباه لمقومات الاحتجاج وأساليبه الممكنة. وهذا الاحتجاج يتحدد بناءً على فهمنا للعلاقة مع الدولة. إذا كنا نرى بأنفسنا سكانا أصليين فمعنى ذلك، إذا كنّا نعني ما نقول، أنّ الصراع مع الدولة هو صراع على السيادة الاستعمارية. معنى ذلك أننا نعي أن الدولة تهدد وجودنا الجماعي ولا تريد دمجنا في نظام الحكم ومفهومها للصالح العامّ إلاّ بمقدار ما يتيح استمرار نظامها الاستعماري. أي أنّ الدولة ستحتوينا فقط بمقدار ما يتيح استمرار إقصائنا وإنكار وجودنا الجماعي. خلاصة القول إنّ خطاب السكان الأصليين لا يجب أن يكون مجردّ خطاب خالٍ من التبعات العملية والتنظيمية. 

أهمية يوم الأرض تنبع من كونه تذكيرا بنقاط الصراع الأساسية مع الدولة. الصراع على الأرض، وضد السيادة الصهيونية عليها، وضد نفي تاريخ أصحاب هذه الأرض، وضد استمرار اقتلاعهم من أرضهم هو صراع جذريّ. هذا ليس صراعًا من الماضي يكفي التذكير به بل هو صراع يوميّ مستمر وبالتالي يحتاج لاحتجاج مستمر. إذا كان الإحياء تذكير بالدعوة للاحتجاج فذلك أمر مهمّ، لكن شرط أن تتبعه الأفعال بالتنظيم والاحتجاج. أما إذا كان مجرد طقوس سنوية فسيكون له أهمية الطقوس ونواقصها. أولاً، من الضروري التنبيه هنا أن إحياء الذكرى بحدّ ذاته لا يشكل تحديًا جدّيًا للنظام القائم بل هي فاعلية قابلة للاحتواء من قبل جهاز الدولة. على سبيل المثال، تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بإحياء رسميّ لذكرى مارتين لوثر كينغ بعد أن خاضت ضده في الستينيات صراعًا شرسًا. ويأتي هذا الإحياء في الوقت الذي يرزح فيه معظم السود في أمريكا تحت وطأة التمييز والعنصرية والفقر المدقع. لم يحصل السود على المساواة ولم يقضوا على العنصرية البيضاء، ولكنهم حصلوا على يوم سنويّ رسميّ تدعمه الدولة!                     

ومن هذه النواقص المحتملة لاختزال المناسبة الاحتجاجية إلى مجرد طقوس وذكرى: أنّ نظنّ أنّنا قمنا بواجبنا الاحتجاجي. هكذا سننعم بالرضى الذاتي بقيامنا بما يشبه الاحتجاج دون أن نقوم بالاحتجاج. هكذا سنقوم بالتذكير بالتضحية دون أن نضحّي. هكذا سنسير معًا دون أن نكون جماعة. هكذا سنسير في نفس المسيرة تحت نفس الأعلام دون أن نكون موحدين.   

وقد يقول قائل: 'إنّ من السهل الحديث عن التضحية عندما لا تكون هناك مسؤولية على مصائر الناس. إنّ التخلي عن الإعلان عن الإضراب العامّ في يوم الأرض هدفه حماية شبابنا وجماهيرنا'. وقد يقول آخر مستعملاً المنطق المعاكس: 'إنّ الهدف هو عدم الإحراج لأن الإضراب العام قد يفشل فشلاً ذريعًا. وعندها نكشف عن عدم جاهزيتنا الكفاحية'. المشكلة في هذين الادعائين واحدة: التخلي عن المسؤولية في تنظيم الجماهير لكي ينجح الإضراب العامّ ولكي يتم تسيير الاحتجاج بشكل ناجع وعقلاني (بمعنى أنه احتجاج مدروس لتحقيق أهداف واضحة). كما أن مصائر الناس ليست فقط ضحية القمع المباشر بل أيضًا ضحية سيرورات الاضطهاد اليومية والمستمرة. من السهل التركيز على المسؤولية تجاه العنف الشرطيّ المحتمل ونسيان أن الاحتجاج يهدف إلى كسر 'عادية' القمع المبطن والذي يتمّ حقنه بكميات صغيرة ولكن متواصلة. 

في هذا السياق، تبرز أهمية يوم الأرض بالذات بسبب موسميته وبالتالي هو 'عاديّ'. يجب أن لا تكون موسميته مدعاة للتعامل مع هذا اليوم كمجرد 'مناسبة'. بعض 'المناسبات' الاحتجاجية قد تأتي 'فجأة' لتبدو كسرًا للروتين. وعندها يُثار النقاش حول ما إذا كان الاحتجاج شغبًا وحول عدم القدرة على تنظيم شكل الاحتجاج وترشيده. حتى في هذه الحالات علينا أن نتساءل لماذا نتفاجأ كلّ مرة مع معرفتنا اليقين أنّ نوعية هذا النظام الاستعماري مبنّية على دورات العنف والاضطهاد المتتالية. فالعنف والاضطهاد هي من طبيعة النظام الاستعماري. أيّ نظام استعماري. لكن هذا التفاجؤ غير مبرّر بتاتًا في حالة يوم الأرض. فنحن نعرف أنه سيأتي كل عام ومع ذلك لا نقوم بالتحضير اللازم لتنظيم الاحتجاج. ثمّ يتشدق البعض أننا لسنا جاهزين للاحتجاج لكي يبرّروا معارضتهم للاحتجاج. لا عجب أننا لسنا مستعدين للاحتجاج لأننا لم نقم بالتحضير للاحتجاج! على يوم الأرض أن يكون احتجاجًا عاديًا ومستمرًا لأن القمع عاديّ ومستمر.

أهمية أخرى ليوم الأرض هي تحوّله إلى ظاهرة خارجة عن الحدود الجغرافية التي تحددّ المواطنة والتذكير بوحدة المصير بين كافة أبناء الشعب الفلسطيني. وإذا كانت هذه قناعتنا فعلينا أن لا نحصر أدوات الاحتجاج في أدوات المواطنة، لأن المواطنة نفسها هي المشكلة وسقفها معروف. تحديد سقف الاحتجاج بسقف المواطنة لا يعني رؤية قاصرة للصراع فحسب، بل أيضًا تقديم تنازلات على مستوى الهوية وتذويت الدونية البنيوية. حصر يوم الأرض في نموذج إحياء الذكرى وتقزيم إمكانياته الاحتجاجية هو حصر له في سقف المواطنة. وبالتالي من الممكن أن نرى في يوم الأرض نموذجًا مختلفًا للتأثير لا يمرّ عبر بوابة الانتخابات للكنيست. سقف الانتخابات هو المواطنة مهما علا صراخ ممثلينا. وإذا كانت الانتخابات ترتكز على التمثيل فعلينا أن لا نحوّل يوم الأرض إلى تمثيل من نوع آخر: هذه المرة تمثيل للذكرى وتمثيل للاحتجاج. بل على يوم الأرض أن يكون هدفًا للتنظيم، وبالتالي رافعة له في كافة الميادين الكفاحية. وفي التنظيم والاحتجاج تختمر الوحدة الحقيقية وتُختبر حقيقة الوحدة!                 

مقالات أخرى للكاتب:

ملاحظات حول الوحدة والانتخابات

-  ملاحظات ​حول الحركة النسوية الفلسطينية

بؤس الشتات الفلسطيني

- نحن وثورة ظُفار

- ماذا نعارض بالضبط؟

(د. نمر سلطاني، محاضر في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن)                  

التعليقات