23/10/2015 - 09:14

الهدف: اغتيال روحية الفداء../ د. عمر سعيد

إن مشهد الجنود المدججين بالسلاح وهم يفرون من وجه شاب فلسطيني مراهق يلتمسون مخبأ، واحتباس جمهورهم في البيوت خوفا، وهجران الأماكن العامة.... لا شك ينطوي على رسائل مصيرية ووجودية بالغة المعاني والخطورة، وحيث أولها فشلهم التام في خلق أجيال منتمية فعليا لمشروعهم الاستيطاني وجاهزة للتضحية بحياتها في سبيله

الهدف: اغتيال روحية الفداء../ د. عمر سعيد

من المؤكد أن الخوف الهستيري من انفجار انتفاضي فلسطيني واسع، يشكل مكونا محسوبا في السلوك القمعي الصهيوني في مواجهة هبة الأقصى المتوسعة تباعا، وقد يكون بعينه سببا رئيسيا في تقييد يد الاحتلال عن توسيع نطاق جرائمه المعتادة سعيا منه للتحكم بدرجة لهيبها، ومنعها من التحول لانتفاضة وطنية عارمة ومستدامة.

لكن في ذات الوقت، وبالنظر للحالة العربية البائسة والمتهالكة واستمرار انقسام الساحة الفلسطينية، فإن المنطق البسيط، وحيث لا ناصر أو حسيب أو رقيب، قد يدفع للاعتقاد أن دولة الاحتلال ستمارس حدا غير مسبوق من أصناف القتل والغطرسة ضد هذه الهبة تحديدا، أو على الأقل هذا ما أوحت به وروجت له أبواق الاستسلام في السلطة الفلسطينية ووكلائها بين ظهرانينا.

هناك من يفسر هذا التناقض في طبيعة تعامل الاحتلال الحذر مع الهبة الراهنة، في ظل توفر تقنيات التصوير والتوثيق والنشر السريع، بخشيته من انفضاح فظاعة جرائمه التي اعتاد إنكار وجودها أصلا، خاصة وأن بشاعة وجه إسرائيل الحقيقي، في الرأي العام العالمي، باتت في ازدياد مطرد وكذلك حركة مقاطعتها، مما يضعها، وفقا للتقدير الإسرائيلي نفسه، أمام نكبة انطباعية وإعلامية مؤكدة، من المتوقع أن تؤدي إلى تعريتها وعزلها تماما كما حصل مع دولة جنوب أفريقيا العنصرية.

بعضهم وصل به الصلف كي يرى أن إسرائيل لا تأخذ هذه الهبة على محمل الجد، وما سلوكها المرتبك هذا، بنظره، سوى تعبير عن محدودية فعالية فائض القوة أمام حراك جماهيري متواضع بالمقارنة مع ضخامة ترسانتها العسكرية. لكن المتتبع للإعلام العبري ولهواجس نخبه الفكرية التي ترصد قراءة قادة الدولة وأجهزتها الأمنية للحلقة الإستراتيجية الأهم، سيفهم أن أكثر ما يفزعهم يتعلق بضعف وهشاشة جبهتهم الداخلية، وقابليتها المخزية للانهيار المدوي مقابل صلابة وعزيمة الفلسطيني مجتمعا وأفرادا.

إن مشهد الجنود المدججين بالسلاح وهم يفرون من وجه شاب فلسطيني مراهق يلتمسون مخبأ، واحتباس جمهورهم في البيوت خوفا، وهجران الأماكن العامة.... لا شك ينطوي على رسائل مصيرية ووجودية بالغة المعاني والخطورة، وحيث أولها فشلهم التام في خلق أجيال منتمية فعليا لمشروعهم الاستيطاني وجاهزة للتضحية بحياتها في سبيله.

نسفت هذه الهبة بعنفوانها وبمادتها البشرية وتوقيتها، كل التنظيرات والتبريرات التي سعت بمكر أكاديمي للتحايل والقفز عن مركزية الحق والبنية النفسية الثقافية المميزة في مقارعة الواقع الاحتلالي.

بظني، لم يعد التفسير الاقتصادي النفسي التقليدي كافيا لتبرير ذاك الفرق الجذري في جهوزية الطرفين في الاستبسال والفداء لقضيته، والذي يرد جسارة وشجاعة الفلسطيني أساسا لظروف عيشه الصعب والتنكيل الاحتلالي وانعدام ما يخشى خسارته.

إن استبعاد المركب الثقافي الثابت بوجدان مجتمعنا في مقاومة الظلم، وقدسية الكرامة الفردية والجمعية، وعلو قيمة الشهادة دينيا وعدالة المسألة الوطنية، من آليات تأويل الاختلاف بين سلوك الجهتين من شأنه أن يجعل تلك التقييمات مجرد كلام فارغ.

هذه الحقيقة كانت، ولم تزل، ماثلة أمام ناظري المحتل وهو يدركها جيدا، لدرجة دفعت ببعض عتاة المحللين السياسيين لإبداء إعجابهم الصريح من جرأة الشباب الفلسطيني الأعزل الذي يندفع ببسالة للتصدي لآلة الحرب وجنودها، وهو يعلم أن مصيره الموت المحقق. ثقافة الفداء والتضحية بالنفس في مجتمعنا وأمتنا ليست أمرا طارئا على وعيه ولا تنحصر بالمسحوقين من أبنائه، وإنما هي مركب أصيل ومتجذر في شخصيته وبنيته النفسية، وهي سلاحه الماضي في زمن المحن. لهذا تحديدا فقد شكلت هذه الروحية هدفا رئيسيا للاغتيال من قبل أعدائها المستعمرين والطامعين والمستعربين من أبناء جلدتنا.

كلنا يتذكر كيف تعامل هؤلاء مع ظاهرة الاستشهاديين في الانتفاضة الثانية، وانطلاق حملة 'أخلاقية' متعددة الرؤوس، تواطأت فيها جهات عربية وأخرى 'دينية' في مسعى عابر للبحار لتشويه وتسفيه قدسية ومعاني هذه القيمة الفدائية، وذلك بهدف التخلص منها، ونزعها من صدور أبناء شعبنا كخطوة ضرورية لإجهاض وتجريد روح الصمود واستدامة حالة الاستسلام والخنوع.

هنا وفي سياق تلك الحملة ذاتها، لا بد من التعاطي مع الظهور القوي المفاجئ لتنظيم 'داعش' التكفيري بنزعته الدموية، وتقديمه الاحتفالي للعالم كنموذج جهادي استشهادي حصري... تمثل الحلقة المكينة الأقبح في عملية نزع الشرعية عن طاقة الفداء تلك، ووصمها والحط من قيمتها. لقد استفادت إسرائيل من ظاهرة الحركات الجهادية العالمية فافتعلت وأذكت واستثمرت قلق ومخاوف العالم لدمغ النضال الوطني الفلسطيني في التحرر بختم الجهادية العالمية لاستمالة الحكومات الغربية وشعوبها لصالح مشروعها الاستعماري، ونجحت في اصطياد موقف عبثي يضع حركة حماس في لائحة المنظمات الارهابية وفقا للتصنيف الغربي والأمريكي المنافق.

لا ندري ماذا ستكون وجهة هذه الهبة المجيدة مستقبلا، وهل ستنجو من تآمر قيادة شعبها، ولا علم لأحد إن كانت القوى المجتمعية والسياسية الصادقة ستنجح في احتضانها وتوسيعها وترشيدها والسير بها نحو تعميم واقع متصاعد للمقاومة الشعبية... لكن الأمر الأكيد أنها أفشلت المخطط الصهيوني في تصوير الصراع الوطني بساحات الأقصى الشريف والقدس والضفة وكأنه صراع مع مجموعات دينية متطرفة، وأعادت مسألة احتلال فلسطين للصدارة واستنهضت كافة قطاعات شعبنا... ويبقى الأهم من كل هذا وذاك، أنها تمكنت من وضع العلامة الفاصلة بين تصرف واندفاع أبناء الوطن الحقيقيين وبين سلوك مجتمع الاحتلال الجبان وهو يواجه حالة أمنية بسيطة قياسا بالمحن الكبرى، وكشفت القناع عن حقيقة نظرته لنفسه باعتباره مجتمعا طارئا على المنطقة منزوع الثوابت والعقيدة الوطنية.

 

التعليقات