27/03/2016 - 14:09

بقية شعب بلا أرض/ رامي منصور

وإذا ما سقطت من هذه السطور معارك تجري حاليًا، عدا ما يحصل في النقب وفي الطنطور وغيرها، فإن ذلك لا ينم فقط عن عدم دراية من طرفي، بل عن أن هذه المعارك ليست مطروحة على نحو ملائم في الإعلام، الحزبي والملتزم على الأقل.

بقية شعب بلا أرض/ رامي منصور

في مناسبة أخرى، كان هذا المقال سيحمل عنوان “في انحسار حركتنا الوطنية: البحث عن نقاط تماس جديدة”، لكن ذكرى يوم الأرض الأربعين، هي فرصة مواتية لمشاركة بعض النقاط المتعلقة بقضايا العرب الفلسطينيين في إسرائيل، الوجودية والوجدانية، وأولها قضية الأرض والتأكيد على الجماعي لا الفردي، وسبل تمكين المجتمع لمواجهة الواقع بدل الغرق بحالة الإنكار التي نعيشها، قيادة وشعبًا، وضرورة كسر حالة “الروتين الوطني”، بعدما باتت الأحزاب غير قادرةٍ، وحدها، على الإبداع وتنظيم المجتمع قوميًا، فهناك حاجة ماسة لتنظيمات أهلية محلية وقطرية، تكبح التدهور الحاصل مجتمعيًا وحالة التشظي التي ستأكل الأخضر واليابس.

العنب أم الناطور

منذ الإعلان عن تأسيس القائمة المشتركة، وخلال حملتها الانتخابيّة، بدا وكأننا على أبواب مرحلة تاريخية جديدة، مرحلة الحصاد، وكأن ثمار نضالنا نضجت والمؤسسة والمجتمع اليهوديين تبدلا، وأصبحا أقل عنصرية وانغلاقًا، وكل ما نحتاجه هو نفض الغبار عن خطاب المواطنة والمساواة في دولة اليهود البائد، وعودة التركيز على قضايا هامة، لكنها ليست الجوهرية في صراعنا، مثل قضايا الميزانيات للسلطات المحلية، والمساواة في المناليّة في الوزارات وغيرها من قضايا مواطنيّة مهمة، لكنها ليست بحاجة لأحزاب سياسية وقيادة وطنية لتحقيقها، وإنما لوسطاء أو كومبرادورات، لأن ذلك ليس “تسييسا لقضايا الناس” كما تعودنا أن نردد، إنما هو هروب من السياسة، من ناحية القول إن الحديث عن الاحتلال والعنصرية والعنف يمس بمسعانا، حتى لا أقول نضالنا، لنيل حصتنا من الكعكة، حتى لا أقول حقوق مواطنتنا المشتقة من كوننا أصحاب البلاد الأصليين. ولا استغرب أن تحل مفاهيم (وهي ليست مصطلحات، بل مفاهيم، لأنها تعكس مفهومًا لدى عقلية معينة) حصتنا من الكعكة محل حقوقنا، ومسعانا، وخطتنا الخمسية محل نضالنا، وفق عقلية “العنب أم الناطور”. لكن لا بأس، فمن كان عشمه بمساواة إسرائيل كبيرًا، ستكون خيبته أكبر.

إذًا، يوم الأرض هو فرصة كي نعيد وضع “النقاط على الحروف” في خطابنا السياسي وممارسته على أرض الواقع في كل بلدة عربيّة، وأن نؤكد أن معركتنا مدنية، أي سلمية، لكنها ليست مواطنيّة والتي ترى أن حقوقنا ناتجة عن مواطنتنا الصالحة، بل معركة وجودية. فالتعامل، مثلًا، مع قضايا الهدم في النقب والقرى غير المعترف بها من باب المطالبة المواطنية، يختلف كليًا عن تعاملنا مع هذه القضايا كقضايا وجودية. ففي الحالة الأولى، يبدأ النضال وينتهي بالبرلمان والوزارات. وفي الحالة الثانية، يبدأ النضال ولا ينتهي في البرلمان بل في مؤسسات دولية على اعتبار أننا قومية أصلانية في خطر، وتواجه خطر الاقتلاع والتهجير والترانسفير الفوري. فالنضال المدني لا يعني حصر النضال في إطار المواطنة وإنما في الإطار السلمي، بينما النضال المواطني يحصرها في إطار المواطنة وخطاب الحقوق والواجبات.

البحث عن نقاط تماس

مسح سريع لواقع البلدات العربية من الشمال إلى الجنوب، يكشف واقعًا مشابهًا لكل بلدة وبلدة، مع بعض الاستثناءات في النقب، لكن قضايا أو بالأحرى “انعدام قضايا” البلدات العربية شبيه ومشترك، وهذا الانعدام للقضايا يعكس، أو يسبب ، انحسار خطابنا الوطني إلى درجة أن حضور الأحزاب في معظم البلدات العربية بات ينحصر في الانتخابات المحلية والبرلمانية، إلى جانب فعاليات ثقافية صغيرة هنا وهناك، لا تغني ولا تسمن من جوعنا للثقافة، إذا ما وضعت وفق إطار أوسع، لكن وجودها يبقى أفضل من عدمه.

يظهر المسح أن بلداتنا العربية لا “قضايا وطنية كبرى” فيها مثل قضايا مصادرة الأراضي بمئات الدونمات كما كان طيلة عقود مضت، وذلك بعدما استنفذت السلطات مخزون الأراضي المرشحة للمصادرة ولم يتبق ما تصادره، كما أن “قضايا المسكن” وبالأحرى “شبح الهدم الجماعي” تقلص إلى عمليات هدم موضعية، أو الاستفراد بالمواطنين وهدم منازلهم بشكل فردي وليس جماعي، وتحويل قضايا الهدم إلى قضية شخصيّة لكل مواطن وكأن لا علاقة لها بانعدام الخرائط الهيكلية أو مسطحات البناء، بسبب عنصرية مؤسسات التخطيط و”التنظيم”.

وفي ظل انعدام هاتين القضيتين الوجوديتين، باتت الأحزاب الوطنية بلا نقاط تماس وطنية مع الناس، والتي تجسّدت في معارك التصدي لمصادرة الأراضي، سواء لصالح شارع عابر إسرائيل أو في الروحة وغيرها، ويكفي إجراء إحصاء لعدد اللجان الشعبية في الوقت الراهن، مقارنة مع عددها قبل عشر سنوات أو حتى أقل، لنكشف حجم التراجع الكبير، ليس في عددها فحسب، وإنما في نشاطها شبه المنعدم وقدراتها على استقطاب شرائح مختلفة من أهل البلد وتسييس قضايا الناس.

وإذا ما سقطت من هذه السطور معارك تجري حاليًا، عدا ما يحصل في النقب وفي الطنطور وغيرها، فإن ذلك لا ينم فقط عن عدم دراية من طرفي، بل عن أن هذه المعارك ليست مطروحة على نحو ملائم في الإعلام، الحزبي والملتزم على الأقل، والرأي العام وفي الدوائر الحزبية.

هل باتت بلداتنا بلا قضايا وطنية جماعية؟

ذكرى يوم الأرض هي فرصة للتذكير، هذا إن نفعت الذكرى، بأن قضيتنا الحقيقية الوجوديّة تبدأ وتنتهي بالصراع على الأرض، فهي شرعية وجودنا هنا كأصحاب لها، وهي هويتنا وكياننا ووجداننا، ومن دونها نصبح رعايا أو جالية بلا ماض أو ذاكرة جماعية، وبالتأكيد بلا مستقبل، جالية تعيش في أحياء مكونة من كتل إسمنتية، لا تصلح لتكون فنادق ثلاث نجوم، لعدم توفر أبسط الخدمات، من الصرف الصحي وحتى الأسفلت. أي نصبح بلا وطن.

لا يعني نجاح إسرائيل في مصادرتها معظم أراضي العرب بأن بلداتنا بلا قضايا وطنية، يمكن للأحزاب والحركات الوطنية خوضها. فعشرات أوامر الهدم "النائمة" تهدد منازل المواطنين في البلدات العربية، كما أن مصادرة معظم أراضينا خلقت قضايا أصعب وهي الضائقة السكنية، خصوصًا لدى الأزواج الشابة، وعدم توفر أماكن عمل متطورة ومناطق صناعية للبلدات العربية، وهو ما ينعكس، تدريجيًا، على “هروب” الأزواج الشابة من قراهم إلى المدن، مثل حيفا وتل أبيب وحتى إيلات.

وهذه المصادرة حولت بلداتنا إلى حالة حصار جرى تذويتها بشكل جماعي، وانعكس الضغط الناتج عنها إلى أشكال مختلفة من العنف الداخلي والتدهور القيمي الحاصل في ظل انهيار المؤسسات التربوية الثقافية الرسمية وغير الرسمية، وبات ما يقلق أي زوج شاب هذه الأيام ليس توفر المسكن على أقل متطلباته فقط، بل الإطار المناسب، المنهجي واللامنهجي، لتربية أبنائه، وهو ما دفع الأزواج المقتدرة على خلق أطر حصرية لعدد قليل من الأسر الشابة ميسورة الحال، لتسد الحاجة لأطر تربوية على شكل حضانات خاصة أو ورشات خاصة لميسوري الحال، ما يخلق تفاوتًا طبقيًا (تربويًا - اجتماعيًا - ثقافيًا) داخل حالة الحصار ذاتها، ويمزق ما تبقى من بقية الشعب.

وقد نتساءل ماذا بمقدورنا أن نفعل؟ لسنا دولة وليست لدينا القدرات أن نحل محل الدولة أو الفراغ الذي تتركه. هذا صحيح، لكن النموذج الذي اتبعته بعض الحركات الإسلاميّة قد يؤشر لنا إلى مبادرة قد تسد، لو جزئيًا، الفراغ الحاصل، طالما يبدو أن حالة الحصار لن تفك قريبًا، وهذه فرصة للأحزاب والحركات الوطنية لأن ترصد نقاط التماس قبل فوات الأوان، كما أن العودة لأدبيات التجمع الوطني الديمقراطي في بداياته ومقالات عزمي بشارة قد تشكل لنا مرجعية في كيفية وضرورة تنظيم المجتمع على أسس قومية.

 قد يكون هذا تبريرًا للتأقلم والتطبيع مع حالة الحصار، لكنها تبقى أفضل من حالة الإنكار، فالتناقضات المجتمعية تتفاقم يوميًا على شكل فوارق طبقية واجتماعية وتربوية في ظل حالة الشلل لأحزابنا وحركاتنا الوطنية ومنظماتنا الأهلية.

وعودة إلى بدء، يوم الأرض ذكرى لتذكر الشهداء والتضحيات، لكنها، أيضًا، فرصة لأن نؤكد أن الأرض هي شرعيتنا وجوهر نضالنا، وأننا نعيش حالة حصار لن تنتهي بمد جسور وهمية مع المجتمع الإسرائيلي بل بتحصين مجتمعنا وتوفير البنى التحتية اللازمة له للصمود وعدم التشظي والغرق في مستنقعات فقر وعنف وجريمة. نقلت إسرائيل المعركة إلى داخل زواريب بلداتنا بعدما صادرت سهولنا وحقولنا، وهو على ما يبدو وفق العقيدة الأمنية الإسرائيلية بضرورة 'نقل المعركة أو خوضها على أرض العدو'. 

فبعد أن خسرنا الأرض علينا ألا نخسر الإنسان.

وللحديث بقية…

اقرأ/ي أيضًا | في مواجهة صعود حكم فاشي/ رامي منصور

التعليقات