17/07/2016 - 16:50

الدراما التركية: ثلاثة مشاهد

بعد يومين من الدراما التركية، أصبح بمقدورنا أن نتأمل ما جرى بصخب أقل وتعقل أكثر، واستقراء ما حدث للوقوف عند نقاط مهمة لا يكون الجزم فيها متسرعًا.

الدراما التركية: ثلاثة مشاهد

بعد يومين من الدراما التركية، أصبح بمقدورنا أن نتأمل ما جرى بصخب أقل وتعقل أكثر، واستقراء ما حدث للوقوف عند نقاط مهمة لا يكون الجزم فيها متسرعًا.

(1)

أولًا، رغم السرعة في إحباط الانقلاب، لكن باستطاعنا القول إن أجهزة الأمن التركية فشلت فشلا إستراتيجيًا مدويًا كان سيدخل البلاد باحتراب داخلي لولا وعي الشعب التركي ونزوله إلى الشوارع ببسالة للدفاع عن ديمقراطية البلاد ومدنيتها. يتمثل الفشل، بتمكن مجموعات من آلاف الجنود والضباط من التمرد والسيطرة على معدات الجيش والتنقل بها خلال ساعات دون إنذار مسبق من الاستخبارات. وهو فشل لو حصل في دولة غربية غير تركيا لأطاح بقادة الأجهزة الأمنية قبل الإطاحة بالمتمردين.

فمن قام بمحاولة الانقلاب هم ضباط موالون لرجل الدين واسع النفوذ فتح الله غولن، وفق ادّعاءات إردوغان، أي أن الانقلاب ليس دفاعًا عن علمانية تركية

فقد حذر الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في الفترة الأخيرة من أن هناك مخططات لتنفيذ انقلاب عسكري على حكمه، وهو بالتأكيد استند في تصريحاته إلى معلومات استخبارية، ما يعني أنه توفرت لدى الاستخبارات معلومات لكن لم تتوفر معلومات عن ساعة الصفر ولم تتمكن من إحباط هذه المخططات مسبقًا، والمهمة الأساس لأي استخبارات في العالم هي إحباط المؤمرات ضد الدولة أو نظام الحكم. ومؤشر آخر على هذا الفشل هو تمكن قوات المتمردين من خطف السكرتير العام لإردوغان بالساعة الأولى للانقلاب

لكن ما يهمنا بهذا المقام ليس الاستنتاجات الأمنية وإنما السياسية – الاجتماعية. فهذا الفشل للاستخبارات تنضاف إليه سهولة الاستيلاء على كتائب كاملة بالجيش بما فيها طائرات يدلل على أن هناك أكثر من 'تركيا واحدة' وأكثر من كيان مواز واحد، بل أن هناك مجتمعات وكيانات سياسية وثقافية متوازية، وأن تركيا اسطنبول ليست تركيا أنقرة وليست تركيا الأرياف، وأن الحركة الإسلامية متجذرة عميقًا بالمجتمع التركي وفي الجيش أيضًا، فمن قام بمحاولة الانقلاب هم ضباط موالون لرجل الدين واسع النفوذ فتح الله غولن، وفق ادّعاءات إردوغان، أي أن الانقلاب ليس دفاعًا عن علمانية تركية، بل هم 'إسلامويون' يقومون بانقلاب ضد حاكم إسلاموي ويناصرون رجل دين صرح في العام 1999 لأنصاره أن هدفه قلب نظم الحكم في تركيا من علماني إلى إسلامي. ولم يصرح المتمردون بدوافعهم الحقيقية للانقلاب، فهم قالوا في بيانهم اليتيم أنهم انقلبوا على الحكم دفاعا عن الديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان، لكن هذا ليس مؤكدًا خصوصًا وأنهم من أنصار رجل دين هدفه بعيد المدى هو تطبيق نظام إسلامي في تركيا.

عودة إلى الأساس، تركيا ليست مجتمعًا وسياسة متجانسة بل هي مجتمعات متوازية يجمع معظمها انتماء وطني إسلامي متجذر أكثر مما نتصور لكنه انتماء، أيضًا، لقيم الجمهورية وأساسها الديمقراطية.

(2)

كنت قد تسرعت قبل عدة شهور عندما كتبت في فيسبوك بأن 'اليسار' العربي يسجَل له اختراع لا مثيل له وهو الفاشية اليسارية، وهما مصطلحان متناقضان كليًا، فالانتفاضات العربية وما تلاها من ثورة مضادة وحدت الملكيات بالجمهوريات المستبدة رغم تضادهما مع اليسار التقليدي، وهي متفقة على عدائها للديمقراطية وإرادة الشعوب.

هذه الثورة المضادة دفعت بتيار عريض من اليساريين التقليديين إلى أحضان العسكر أو الديكتاتوريات، تارةً باسم العداء لانتهازية الإسلاميين وتارةً باسم المقاومة وتحرير فلسطين. هذا 'اليسار' هلل لأي انقلاب عسكري استهدف حكم إسلامي في مصر أو تركيا أو ضد حكم يعادي نظام بشار الأسد في سورية. هذا 'اليسار' لا يربطه باليسار الحقيقي سوى الشعارات وفي بعض الأحيان الزي والملبس والمظهر الخارجي، أي أنه ممارسة تراثية يسارية لا علاقة لها بفكرة اليسار الأساسية وهي رفض التراتبية (سواءً سياسية أو اجتماعية) وتضامن المستضعفين، وبلغة القرن العشرين الديمقراطية والمساواة رغم التناقض بينهما.

وكان اليسار في القرن العشرين رمز مناهضة الانقلابات العسكرية والأنظمة الفاشية 'البرجوازية'، لكن 'اليسار' العربي التقليدي الراهن أصبح من دعاة الانقلابات العسكرية باسم العلمانية في مصر وباسم المقاومة وتحرير فلسطين في الشام بما فيه بلادنا، لكن الحقيقة هي أن هذا التأييد الذليل للعسكر مصدره أن هذا اليسار التقليدي المتكلس لا يملك رصيدًا شعبيًا ولا تعبئة جماهيرية تسعفه في صناديق الانتخابات الديمقراطية ولا فكرًا، فلم يتبق له إلا تكرار الشعارات الكبرى بعدما أصبح قلة قليلة منبوذة لا امتداد شعبي لها وانفصل عن طموح الشعوب بالحرية والعدالة الاجتماعية.

وتبيّن لي التسرع بإطلاق الأحكام على اليسار العربي كما أسلفت، بعدما تبيّن لي أن في إسرائيل أيضًا يساريين هللوا لمحاولة الانقلاب في تركيا، وتابعوا بشغف طيلة ليل الجمعة – السبت التطورات هناك.

وتبيّن، كذلك، أن بعض اليساريين بالإضافة إلى بعض الصفحات المنادية بالعدالة الاجتماعية في إسرائيل وواسعة الانتشار في فيسبوك تمنت أن ترى الجيش الإسرائيلي ينتشر مساء ذات جمعة بشوارع المدن وينفذ انقلابًا على حكومة اليمين، بعدما فشل هذا اليسار أو ما تبقى منه في إسقاط حكم اليمين مرة تلو الأخرى نتيجة إفلاسه السياسي والفكري بالإضافة إلى التطرف نحو اليمين في المجتمع الإسرائيلي.

يبدو مشهدًا غريبًا أن يهلل يساريون لانقلاب عسكري في المساء، بينما كانوا يتظاهرون ضد ممارسته في الأرض المحتلة، في الصباح.  

ختامًا، أي يسار لا تكون بوصلته هي الأخلاق وكرامة الإنسان هو ليس يسارًا مهما حمل من شعارات معادية للرأسمالية والطبقية وغيرها، واليسار بلا أخلاق مثله مثل الوطني بلا شرف.

(3)

التشخيص القائل بأن محاولة الانقلاب التركية فشلت لأنها أجريت وفق 'دليل تعليمات انقلابات القرن العشرين'  الذي تجاهل تطوير التكنولوجيا وتحديدًا وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية، هو صحيح مئة بالمئة، لكن محورية وسائل التواصل الاجتماعي لم تظهر في تركيا للمرة الأولى، بل أن ثورة يناير المصرية جرت ببث حي ومباشر على تويتر وفيسبوك والجزيرة، وكانت الثورة الأولى في القرن الواحد والعشرين التي لعبت فيها التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي دورًا محوريًا.

وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فإن وسائل التواصل الاجتماعي في بلادنا، وتحديدًا فيسبوك، تحولت إلى كنبة محلل نفسي، عرّت عللنا وسطحيتنا وكشفت أبعادًا فاشية في كثير من 'نخبنا' الافتراضية، فمثلما هناك 'ثوار ديجيتال' تماما مثل 'مناضلي فيسبوك'، لدينا أيضًا 'نخب افتراضية' لا علاقة لها بـ'الحيز العام'  الواقعي الذي افترضه هبرماس، لأنها ليست ديمقراطية أولا، وسطحية ثانيًا، معلوماتها مستقاة من 'feed' الفريندز وبعض الفضائيات التعبوية، وعلاقاتها بحقيقة ما يجري بوطننا العربي مثلها مثل علاقة علي بمعاوية. 


>> اقرأ/ي أيضًا:

تركيا: ما الذي نعرفه حتى الآن عن الانقلاب الفاشل؟

> إردوغان يدعو للبقاء بالشوارع ويتوعد أنصار غولن بالاستئصال

> تركيا: 8 أشخاص ساهموا في إسقاط الانقلاب

> إردوغان يواصل 'التطهير': 6 آلاف اعتقال خلال يومين

> تركيا: اعتقال قائد لواء الكوماندوز في أعقاب الانقلاب الفاشل

> أميركا تحذر رعاياها من السفر إلى تركيا بعد الانقلاب الفاشل

> التحقيق مع الشيخ خطيب بعد مظاهرة التأييد لتركيا

> الانقلاب التركي واعتداء نيس: أدوات نتنياهو التحريضية

> الرجل في الصورة... من يكون مرافق إردوغان؟

التعليقات