08/03/2018 - 13:24

تحرّر المرأة: ثورة اقتصادية

جلست مرةً مع بعض الصديقات نتجاذب أطراف الحديث في جلسة، حاول كل منا أن يغنيها بجانب مما درس وفهم.

تحرّر المرأة: ثورة اقتصادية

حسني فاروق الزعبي

جلست مرةً مع بعض الصديقات نتجاذب أطراف الحديث في جلسة، حاول كل منا أن يغنيها بجانب مما درس وفهم.

هن نساء قديرات قرّرن أن يحاربن الظّلم والهيمنة على أشكالهما. لم يكن لهذه الجلسة أن تدوم أكثر من بضع دقائق إذ سادها سوء الفهم أكثر من الفهم والرّفض أكثر من القبول.

حاولنا فيها أن نتحاور إلا أنّنا سرعان ما أدركنا أنه ليس هنالك متّسعٌ للحوار، وكأنّ اللّغة العربية، على غناها، عجزت عن جسر هوة بنتها العلوم، فقد تبنّينا فكرين مختلفين تحوّلا إلى لغتين لم يجد الوفاق مكانا له بينهما. فكرٌ تبنّينه، لم ير غير القيم الأخلاقية غايةً عُليا وعلى ضوئها شرَع بتفسير الواقع، وآخرُ تبنّيته، فسّرهُ متجرّدا منها.

حاولت الصديقة "أ" وبلطافة أن تجسر تلك الهوة بقولها "لكنّ الاقتصاد ليس علما قيميا!" وأما الصديقة "س" فلم تنطق بكلمة واكتفت بنظرات بقيت ترافقني لتذكرني أن العلوم قد تشعّبت فأفقدنا تشعّبها الحوار. كان ذلك قبل حوالي تسع سنوات.

لتلك النساء ولما يمثّلن من فكر أخص اليوم هذا المقال.

في بحث أجريته مع زملاء لي لدراسة تبعات المساواة على التنمية والتّطوّر، وجدنا أنه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر شرّعت بريطانيا ودول أخرى ممن تبنّت القانون الإنجليزي كالولايات المتّحدة وأستراليا وكندا عدّة قوانين مَنحت المرأة المتزوّجة مساواة كاملة في حقّ الملكيّة، تُوِّجت هذه القوانين بقانون حقوق الملكيّة للنساء المتزوجات. كانت تلك خطوة هامّة نحو تحرّر المرأة والسّعي لتحقيق المساواة. وقد وُصف هذا التطور كتطور تاريخي، عبّر عنه عضو البرلمان، راسل جورني، خلال نقاشه في مجلس العموم البريطاني بقوله "إننا الآن، ولأوّل مرّة في تاريخنا، بصدد اقتراح قانون يعطي حماية قانونيّة لممتلكات نصف المواطنين المتزوجين في هذه البلاد. حتى هذه اللحظة لم تكن ممتلكات الزوجة تحظى بحماية بموجب القانون" (14 نيسان 1870 – تحرير الترجمة).

خضعت النساء المتزوجات في تلك الدول قبل هذه القوانين، لمبدأ قانوني يدعى المأوى (Coverture) والذي فرّق بين الزّوج والزّوجة في حقّ الملكيّة، وذلك حسب نوع الممتلكات. إذ ساوى بينهما فقط في حق امتلاك الممتلكات غير المنقولة كالأراضي والعقارات بخلاف الممتلكات المنقولة أو الخاصة، وهي حرفيا كل ما يمكن نقله كالثياب والمجوهرات والماشية والنقود والأصول والأسهم والسندات المالية، والتي مَيّز فيها القانون بين الزوج والزوجة، ومنح الزوج الحق المطلق في التّصرّف بهذه الممتلكات بغض النظر عن مصدرها إذ اعتُبرت ملكا حصريا للزوج حتى وإن كانت ملكا للزوجة ما قبل الزواج أو هدية من أهلها بعد الزواج. قانون الممتلكات ألغى عمليا هذا الامتياز للرجل، وساوى بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بحق الامتلاك والتّصرف بكل أنواع الممتلكات.

بحسب تصورنا النظري، كان لهذا التمييز أن يشوّه الاستثمارات في سوق المال، إذ ردع النساء العزباوات عن حيازة ممتلكات منقولة كالسندات المالية والنقود، حتى وإن أتت بعائدات كبيرة، لأنها لن تجلب لهن أي قدرة اقتصادية إذا ما اخترن الزواج. وماذا عن الآباء؟ تخيلوا أبا يريد إهداء أو توريث ابنته بعضا من ممتلكاته. أي نوع من الممتلكات سيختار؟ وبالتالي أي نوع من الممتلكات سيختار هو نفسه أن يملك؟ من الواضح ان هذه الوضعية القانونية ستؤدي إلى انحياز في الاستثمار في الممتلكات غير المنقولة كالأراضي والعقارات على المستوى الكلّي.

لم يكن لهذا الانحياز أثرٌ اقتصادي ملموس قبل الثورة الصناعية، إذ كان الاقتصاد مبنيّا على الزّراعة التي تحتاج إلى الأرض وإلى الأيدي العاملة بالأساس. إلا أنه مع بداية الثورة الصناعية وصعودها زادت الحاجة إلى الثروات وخصوصا المادية منها كالنقود والودائع المصرفية لتنتقل بصورة قروض إلى شركات كبرى احتاجت هذه الثروات لاستثمارها في قطاع النسيج على سبيل المثال وفي مشاريع عملاقة أخرى كسكك الحديد والانفاق وغيرها.

لقد زادت الثورة الصناعية من أهمية الأسواق المالية إلى حد كبير، وبالتالي زادت الحاجة إلى نجاعة هذه الأسواق.

إزاء هذا التطور أضحت الممتلكات المنقولة وخاصة الودائع المصرفية ركنا من أركان الإنتاج، وأدى تفضيل قطاع كبير من المجتمع الأموال غير المنقولة، إلى عدم تطور سوق الأسهم والقروض التي يحتاجها قطاع المشاريع الآخذ بالتوسع ما بعد الثورة الصناعية. أي أنه كان لتشويه الاستثمارات في الأسواق المالية- إخراج النساء منها كقطاع مستفيد ومستثمر- إسقاطات على القطاعات الإنتاجية والتي أدت إلى خسارة اقتصادية على مستوى الدولة. فبحسب هذه النظرية، أدى التطور الاقتصادي تلقائيا إلى زيادة أهمية دور المرأة في الناتج العام، مما أدى إلى زيادة التكلفة الاقتصادية للتمييز ضدها.

من هنا فإن قانون الملكية للنساء المتزوجات، الذي ساوى بين الزوج والزوجة في حقوق الامتلاك والتصرف بكل أنواع الممتلكات، قد أبطل الحاجة إلى تجنب حيازة ممتلكات منقولة كالنقود والودائع المصرفية خشية أن تصادر من قبل الزوج، وعليه توقعنا أن يكون هذا التشريع قد أدى إلى:

1. زيادة بالممتلكات المنقولة.

2. زيادة الودائع المصرفية من قبل الأزواج مما سيؤدي إلى زيادة في القروض المصرفية من جهة وخفض الفائدة المصرفيّة من جهة أخرى.

3. نمو في القطاع الصناعي حيث أن خفض نسبة الفائدة تقلل من تكاليف الاستثمار في بناء المصانع، مد سكك الحديد وشق الأنفاق وغيرها من المشاريع الإنتاجية والتي تحتاج إلى رأس مال كبير.

متسقا مع هذه التنبؤات، فإن دراسة المعطيات أظهرت أنه كان لقانون المساواة تأثيرا مباشرا على حيازة الأسر للممتلكات المنقولة إذ زادت نسبتها بـ%7.5من مجمل الممتلكات. هذا التحول في الممتلكات لم يقتصر على الملابس والمجوهرات، وإنما انعكس في تطور القطاع المالي، حيث أدى هذا التشريع فعليا إلى زيادة في المدخرات، وبالتالي إلى زيادة في القروض بنسبة %30، وإلى خفض الفائدة المصرفية بنسبة %10. وأما بالنسبة إلى القطاعات الإنتاجية فقد أظهرت المعطيات بأن تلك المساواة سرّعت في التحول من الزراعة إلى الصناعة، إذ ترك الكثير من المزارعين الأرض والتحقوا بالمصانع. فخلال 20 سنة كان هنالك نمو بنسبة 10% في نسبة الوظائف في القطاع الصناعي المرتبطة حصريا بقانون الملكية.

على أعتاب اليوم العالمي للمرأة، من المجدي أن نقف لحظةً ونحصي نتائج التمييز وتحقيق بعض من المساواة والتي حصلت عليها المرأة في دول دون غيرها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر .

إنه لمن الصعب المغالاة في القيمة الإنسانية والاجتماعية لهذه المساواة. لكن، ما لم يكن متوقعا في تلك الحقبة، هو ما أحدثته هذه المساواة من ثورة اقتصادية.

إن هذه الخطوة نحو تحرر المرأة أنتجت نموا اقتصاديا منعه التمييز ضدها فكانت المساواة بمثابة محرك دافع للثورة الصناعية. أما اليوم، وفي العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وما زالت المساواة بين المرأة والرجل مغيّبة في العديد من الدول، وكثيرة هي الأقليات التي تعاني من التمييز، ويعجّ عالمنا باللاجئين الذين يفتقرون لأبسط الحقوق، يجب أن نوقن جميعنا أن تحقيق المساواة يحمل في طياته أكثر من إنجاز أخلاقي.

أعود لصديقاتي لأقول للصديقة "أ" إن العلوم الاقتصادية كسائر العلوم الاجتماعية ليست بقيمية، وأنى لها أن تكون. فهي تربط الأسباب بالنتائج وتحرر البحث العلمي من الأحكام القيمية المسبقة. ففي البحث الذي سقته أعلاه كانت المساواة، المتمثلة بسن قانون حقوق الملكية للنساء المتزوجات، عبارة عن صدمة للسوق لا أكثر، فحصنا تأثيرها متجردين من قيميّتها. النتائج التي خلص إليها البحث بأهمية المساواة في التنمية، كانت نتائج موضوعية. فأهمية المساواة لم تكن مطروحة كعامل إيجابي مفهوم ضمنا في سيرورة التنمية، وإنما خلُص إليها البحث بدون فرضها نظريا.

إن افتراض حتمية وجود ما نراه كقيم أخلاقية جزءا من الواقع قد يشوّه ويحرّف فهمنا للواقع. فلو انطلقنا من أهمية المساواة في فهم العلاقات الاقتصادية التي نتجت عن سن قانون المساواة في حق الملكية، سيكون ذلك بمثابة افتراض لما قد يكون نتيجة (وهذا بحد ذاته إشكالي) ومن ناحية أخرى سيحد من فهمنا للواقع، إذ أنه يلغي إمكانية اكتشافنا لوجود رؤىً مغايرة لقناعاتنا. إلا أننا، ورغم ذلك، نحدّد القيم التي نود أن نعيش بحسبها. فكون الاقتصاد علما محايدا قيميّا، لا يمنع من وجود القيمة كجزء من غايات عليا والتي من خلال السعي لتحقيقها تُشتق السلوكيّات. وللصديقة "س" أقول إن العلوم لم تتشعب، إلا لتجد الحقيقة فتعود لتتحد.

حاولت في مقالي هذا أن ألخص دراسة أمضيت فيها بضع سنين. تجلّت من خلالها أهمية وتبعات المساواة على التنمية والتطور، فقد شكّل تشريع قانون حقوق الملكيّة للنساء المتزوجات ركنا من أركان الثورة الصناعية وتطور تلك المجتمعات. ولكن ماذا عن أسباب التشريع؟ وما هي الآلية التي أدت إلى سنّه في فترة لم تكن تمتلك المرأة فيها حق الانتخاب؟ هل كان هل كان الدافع أخلاقيا، إيمانا بحق المرأة، أم أنه كان نفعيا بحتاً؟

أسئلةٌ لا تقل أهمية لفهم أعمق لماهيّة التنمية والتطور من جهة ولفهم تحرر المرأة من جهة أخرى. أسئلة، لو سنحت لي الفرصة لأجالس صديقاتي، لفجرت سجالا بيننا.

سجال يتأرجح بين فكرة تتمحور حول ما "حققته" المرأة وأخرى تقابلها تستذكر أن الرجل قد "أعطى"، وبين هذه وتلك تأريخ من الظلم والهيمنة.

هي جلسة لن تدوم أكثر من بضع دقائق، يسودها مرة أخرى، سوء الفهم أكثر من الفهم والرفض أكثر من القبول، وتنتهي بنظرات ترافقنا لتبقينا في يقظة، حتى إدراك جديد.


الكاتب حسني فاروق الزعبي من سكان مدينة الناصرة. يعمل محاضرا (Associate Professor) في جامعة موسكو للاقتصاد الحديث (The New Economic School) ومحررا مرافقا (Associate Editor) في المجلة الاقتصادية المحكّمة علميا (Macroeconomics Dynamics). مجال تخصصه النمو الاقتصادي والتنمية وتتمركز أبحاثه في قضايا الفقر، التغييرات الدّيموغرافيّة، مبنى الأسواق وقضايا الجندر.

الموقع الخاص: hosnyzoabi.weebly.com

التعليقات