03/02/2022 - 10:37

"أمنستي" وإعادة بناء الحقل السياسيّ

إن إعادة بناء الحقل السياسي، والحقل المعرفي النقدي، الذي يتصدى للحقل السياسي البراغماتي التضليلي، هو جزء من عملية مقاومة المشروع الصهيوني الاستيطاني، غير الإنساني وغير الأخلاقي. فهو نظام استعماري أنجب نظام أبرتهايد، وهذه هي المقاربة الكاملة لفهم إسرائيل

("أ ب")

في زحمة الحدث اليومي، والاستنزاف الناجم عن شراسة وتتابع الحملات الصهيونية اليومية ضدّ عامة الفلسطينيين، ناهيك عن الإحباط المتولّد من خيانات أنظمة عربية سافرة، قد لا يترك متسعا للكثيرين منا للتمعن في عملية القضم التدريجية الجارية في شرعية إسرائيل. وكون الحديث يدور حول تقرير نظريّ، فإن غالبية الناس المنشغلين في تدبّر حياتهم اليومية، وأثقالها، تحت نير نظام استعماري متوحش، لن يلمسوا نتائج ملموسة فورية، أو على المدى المنظور، للتقرير الهام الصادر عن إحدى أهم منظمات حقوق الإنسان الدولية، أي منظمة العفو الدولية، والذي استعرض ممثلوها أهمَّ ما جاء فيه في مؤتمر صحافي في الأول من الشهر الجاري، من مدينة القدس المستعمرة.

لكن إسرائيل، وأذرعها، لن تنام، وستظلّ مستنفرة مثل أي نظام استعماري، أو مستبد، وستظل مسجونةً داخل أسوار الوهم بأنها قادرة على إدامة ظلمها، من خلال تفعيل شتى أصناف القهر والقمع، ضد من لم تعترف بهم منذ أن ولدت فكرتها الشيطانية. وقد استبقت إسرائيل التقرير، ببدء هجومها المعتاد، إذ كانت حصلت على نسخةٍ منه، وأطلقت ترسانتها الجاهزة من النعوت المألوفة، ضد معدّي التقرير، كـ"معاداة السامية" وغيرها. وكذلك فعلت أذرعها في دول الغرب، وبخاصة داخل الولايات المتحدة الأميركية.

هي في الحقيقة، تدرك، حتى لو بدت أنها ماضية في مشروعها الاستئصالي والعنصري، أن لهذا التقرير فعل تراكميّ مستمرّ، وبخاصة بعد أن كانت صدرت تقارير ثلاثة شبيهة في السنوات الخمس الماضية، بما فيها تقرير من منظمة إسرائيلية.

وربما تلك التقارير هي التي شجَّعت منظمة العفو الدولية لتصدر تقريرا أكثر جرأةً ووضوحا وصرامة من التقارير التي سبقته، والذي من بين أمورٍ هامة كثيرة، تناول إسرائيل أو نظامها باعتباره نظاما مجرما، وفق القانون الدولي، ليس منذ عام 1967، بل منذ عام 1948، أي أنه اعتبر 20% من مواطني إسرائيل الفلسطينيين، خاضعين هم أيضا لنظام أبرتهايد، أُسوة ببقية الفلسطينيين في الضفة والقطاع والشتات. وفي إطار ذلك، أقرَّ بحقّ ملايين اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم والتعويض، وأدان قانون العودة الإسرائيلي باعتباره قانونا عنصريا.

نحن أمام حقلٍ سياسي جديد يتشكل، أو بالأحرى استعادة لحقل قديم أصيل، تم هدمه، بِمِعوَل اتفاقية أوسلو، واستبداله بحقلٍ هجينٍ، مُزيّف، ومُضلِّل، صرفت عليه دول الغرب المليارات، وأُريقت لأجل تعميمه دماء كثيرة.

لقد تمت استعارة هذا الحقل من نظام الفصل العنصري البائد في جنوب إفريقيا، ومن القانون الصادر عن منظمة الأمم المتحدة عام 1970، الذي يعتبر الأبارتهايد جريمة ضد الإنسانية. كما صدر أيضا قانون عن نفس المنظمة الدولية عام 1974 يدين الصهيونية كحركة عنصرية، والذي -للأسف- تم إلغاؤه بعيد انهيار الكتلة الشيوعية، واتفاقية أوسلو.

هذه الاتفاقية التي منحت عمليا الشرعية الفلسطينية لإسرائيل، وبرّأتها من العنصرية، وطبيعتها الاستعمارية، إذ هكذا سددنا بأنفسنا، ضربة بالغة إلى صدورنا، ذلك أن إسرائيل تمكنت تحت غطاء عملية السلام الأوسلويّة، من ترسيخ مشروعها الكولونيالي، وتوطيد نظام الفصل الإجرامي عمليا و"قانونيا"، دون أن يتجرأ فريق أوسلو من التصدي معرفيا، وسياسيا، وعمليا، لهذا السلوك الصهيوني، البنيوي، وأن يحوّله إلى خطاب سياسي رسمي في مواجهة العالم.

يمكن القول، وبحقّ، إن القوى الفلسطينية الحية، المسقلة، من حراكات شعبية وشبابية، داخل فلسطين، ومثقفين وأكاديميين نقديين، وبخاصة من داخل الخط الأخضر ومن يعيشون في الغرب، هم الذين عملوا على إعادة بناء الحقل السياسي والمعرفي، في مقاربة إسرائيل، ومَوْضعتها في سياق أنظمة الأبارتهايد، ليس هذا فحسب، بل أيضا كنظام استعمار استيطاني إحلالي.

وربما الإنسان العادي لا يعرف -وهذا أمر مفهوم- أن شريحة من الأكاديميين الغربيين، وإن كانت قليلة العدد، بدأت تنتج أبحاثا نقدية تعيد تأطير إسرائيل ككيان استعماري استيطاني، ومن أكثر الأسماء اقتطافا بهذا الصدد، الباحث الأسترالي باتريك وولف. وقد اكتسبت هذه الأبحاث زخما كبيرا خاصة في العقد الأخير الذي شهدنا خلاله إقبالا متزايدا من جانب الأكاديميين الشبان الفلسطينيين، على اختيار الدراسات الكولونيالية موضوعا في أوراقهم البحثية.

إن إعادة بناء الحقل السياسي، والحقل المعرفي النقدي، الذي يتصدى للحقل السياسي البراغماتي التضليلي، هو جزء من عملية مقاومة المشروع الصهيوني الاستيطاني، غير الإنساني وغير الأخلاقي. فهو نظام استعماري أنجب نظام أبرتهايد، وهذه هي المقاربة الكاملة لفهم إسرائيل.

يبقى علينا كفلسطينيين، وتحديدا طلائع المثقفين، والأكاديميين النقديين، تطوير عملهم لجعل هذا الخطاب المتجدد، والذي يترتّب عليه فهم شامل لقضية فلسطين، كقضية تحرّر من نظام كولونيالي، خطابَ عامّة الناس، وأداة لتوحيدهم وتفعيل طاقاتهم في سبيل تحررهم.

التعليقات