تشهد الساحة السياسية في الأشهر الأخيرة صراعًا حادًا حول مساعي الوزير دودي أمسالم، وزير التعاون الإقليمي ووزير في وزارة القضاء والمسؤول عن سلطة الشركات الحكومية، لتغيير آلية اختيار أعضاء مجالس إدارة الشركات الحكومية. إذ يسعى أمسالم إلى تشريع قانون جديد يمنح الوزراء صلاحية تعيين أعضاء مجالس الإدارة في الشركات الحكومية التابعة لوزاراتهم بشكل مباشر، وإلغاء ما يُعرف بـ "فريق المدراء" - وهو قاعدة بيانات للمرشحين الذين تم اختيارهم بطريقة مهنية وتنافسية، أُنشئت قبل أكثر من عقد بهدف ضمان الكفاءة والشفافية في التعيينات العامة. يضم هذا الفريق مرشحين خضعوا لمراحل تقييم وفحوص مهنية تؤهلهم لتولي مناصب في مجالس إدارات الشركات الحكومية، وكان يُعدّ إحدى أهم الأدوات للحد من التعيينات السياسية والمحسوبية في القطاع العام.
يدّعي أمسالم والتحالف الحكومي أن "فريق المدراء" بُني على أسس تمنح أفضلية لفئات اجتماعية محددة في إسرائيل، وبالأخص اليهود الغربيين (الأشكناز)، في حين أنه لا يوفّر تمثيلًا كافيًا لليهود الشرقيين (المزراحيم) ولا لسكان المناطق الطرفية.
ينصّ مقترح أمسالم بشكل واضح وصريح على أن تعيين أعضاء مجالس إدارة الشركات الحكومية سيتم من دون أي مسار مهني أو تنافسي، وإنما استنادًا إلى تقدير الوزراء المعنيين فقط. كما يتضمن المقترح منح صلاحيات مباشرة للوزير المسؤول عن سلطة الشركات الحكومية، إضافةً إلى الوزير المشرف على كل شركة (مثل وزير المواصلات أو الطاقة)، لتعيين رئيس مجلس الإدارة بشكل مباشر.
وقد قررت لجنة الوزراء لشؤون التشريع يوم الأحد 26 تشرين الأول/أكتوبر دعم مشروع القانون الذي قدّمه الوزير دودي أمسالم من دون أي شروط أو قيود، ما يمهّد لتقديمه رسميًا كمشروع قانون حكومي. ويأتي هذا القرار على الرغم من المعارضة الشديدة التي أبدتها وزارتا الدفاع والمالية، وكذلك المستشارة القضائية للحكومة، الذين حذّروا من أن يؤدي المقترح إلى تعيين أشخاص غير مهنيين في مجالس إدارة الشركات الحكومية، وإلى تعميق السيطرة السياسية على هذه المؤسسات العامة. وبهذا القرار، تزداد احتمالات إقرار القانون خلال الدورة الحالية للكنيست، في ظل دعم قوي من الائتلاف الحكومي وسعيه المتواصل لترسيخ نفوذه داخل الأجهزة والمؤسسات الحكومية المختلفة.
تغيير أسلوب تعيين أعضاء مجالس الإدارة وفقًا لمقترح الوزير أمسالم يعني فعليًا إزالة الحاجز الذي يمنع السياسيين من توزيع المناصب على المقرّبين منهم في القطاع العام، الأمر الذي سيؤدي إلى تعزيز السيطرة السياسية المباشرة على الشركات الحكومية وإضعاف الطابع المهني والإداري المستقل لإدارتها.
ماذا نعرف عن الشركات الحكومية
تُعَدّ الشركات الحكومية في إسرائيل أحد الأعمدة الاقتصادية المركزية في الدولة، ويعود الصراع على تعيين أعضاء مجالس إدارتها ومديريها إلى الأهمية الاقتصادية والسياسية التي تمثلها هذه الشركات. فعلى الرغم من عمليات الخصخصة الواسعة التي جرت منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، والتي نُقلت بموجبها عشرات الشركات إلى القطاع الخاص، ما زالت الشركات الحكومية تلعب دورًا حيويًا في الاقتصاد الإسرائيلي. وتشغّل هذه الشركات آلاف العاملين وتوفّر رواتب مرتفعة نسبيًا مقارنة بمتوسط الأجور في السوق، ما يجعلها موردًا مهمًا للتشغيل والاستقرار الاقتصادي.
لكن إلى جانب بعدها الاقتصادي، تتمتع هذه الشركات أيضًا بوزن سياسي بارز، إذ تُعتبر قاعدة تشغيلية وتنظيمية مؤثرة، خصوصًا بالنسبة إلى حزب الليكود، الذي يعتمد على الدعم القادم من العاملين في هذه الشركات خلال الانتخابات الداخلية (التمهيدية)، حيث يعمل عدد كبير من أعضاء الحزب داخلها، كما أن للحزب نفوذًا ملموسًا على النقابات العمالية التي تنشط في إطارها. وبالتالي، فإن التحكم في تعيينات الإدارات داخل هذه الشركات لا يُعدّ شأنًا إداريًا فحسب، بل أداة سياسية واستراتيجية تعكس التداخل العميق بين الاقتصاد والسياسة في إسرائيل.
وفقًا للموقع الرسمي لسلطة الشركات الحكومية في إسرائيل، يوجد اليوم نحو 105 شركات حكومية تعمل تحت إشراف عدد كبير من الوزارات المختلفة. وبحسب تقرير خاص صادر عن مراقب الدولة حول واقع هذه الشركات تحت عنوان "الرقابة والإشراف على الشركات الحكومية"، فإن من بين هذه الشركات: 71 شركة مملوكة بالكامل للحكومة، 19 شركة تابعة (شركات بنت)، و15 شركة ذات ملكية مختلطة بين الحكومة والقطاع الخاص. تعمل هذه الشركات في مجالات اقتصادية وخدمية متعددة ومتنوعة.
وفقًا لتقرير مراقب الدولة الإسرائيلي، الذي يستند إلى المعطيات المالية للشركات الحكومية لعام 2021، بلغ إجمالي أصول الشركات والمؤسسات العاملة ضمن إطار سلطة الشركات الحكومية نحو 235 مليار شيكل. أما إجمالي دخل الشركات الحكومية فبلغ 76.3 مليار شيكل، في حين وصل صافي الأرباح إلى 3.8 مليارات شيكل. وفي عام 2023، ارتفعت أرباح الشركات الحكومية الإسرائيلية إلى نحو 6.2 مليارات شيكل، حوّلت منها الشركات 1.2 مليار شيكل إلى خزينة الدولة، وجاء القسم الأكبر من هذه الأرباح من الشركات الأمنية مثل الصناعات الجوية ورفائيل.
أما في عام 2024، وفقًا لصحيفة غلوبس الاقتصادية (8 تموز 2025)، فقد سجّلت 68 شركة حكومية ارتفاعًا في إجمالي الإيرادات بنسبة 11.7٪، لتصل لأول مرة إلى نحو 102 مليار شيكل، وذلك بفضل تحسّن أداء شركتَي الصناعات الجوية الإسرائيلية (IAI) ورفائيل وارتفاع أرباحهما. كما ارتفع صافي الأرباح المجمّعة للشركات الحكومية إلى نحو 7.6 مليارات شيكل، بنسبة ربحية بلغت 7.4٪ من إجمالي المبيعات، مقارنةً بـ 6.2 مليارات شيكل (6.8٪) في عام 2023.
ويعكس هذا النموّ الملحوظ القوة الاقتصادية المتزايدة للشركات الحكومية في إسرائيل، وخاصة الشركات العاملة في المجالات الأمنية والتكنولوجية، التي أصبحت تشكّل أحد أعمدة الاقتصاد الإسرائيلي ومصادر الدخل الحكومية في السنوات الأخيرة.
إدارات الشركات الحكومية والموظفون
يبلغ عدد أعضاء مجالس الإدارة في الشركات الحكومية الإسرائيلية نحو 620 عضوًا. وبحسب تقرير مراقب الدولة، هناك عجز يقارب 270 عضو إدارة لم تُشغل مناصبهم بعد، كما تبيّن أنّ 28 شركة حكومية تعمل دون رئيس مجلس إدارة.
وفي سياق تعزيز التمثيل الاجتماعي والمساواة، تم تعديل قانون الشركات الحكومية في أواخر تسعينيات القرن الماضي بهدف ضمان تمثيل ملائم للمواطنين العرب في مجالس إدارات هذه الشركات، دون تحديد نسبة مئوية واضحة. وينصّ البند 18أ-1 من القانون على أنّه: "يجب أن يُمنح تمثيل مناسب للسكان العرب في تركيبة مجالس إدارة الشركات الحكومية".
ورغم مرور أكثر من عقدين على سنّ هذا التعديل، لا يزال تمثيل المواطنين العرب في مجالس إدارة الشركات الحكومية محدودًا للغاية، ويُطبَّق البند القانوني المتعلق بالتمثيل الملائم بصورة جزئية فقط.
فبحسب تقرير مراقب الدولة من عام 2024، بلغ عدد أعضاء مجالس الإدارة من العرب في الشركات الحكومية 28 عضوًا فقط خلال عام 2023، أي ما نسبته 6% من إجمالي أعضاء مجالس الإدارة.
أما عند متابعة الأسماء الحالية لأعضاء مجالس إدارة الشركات الحكومية (حتى تشرين الأول/أكتوبر 2025)، وفقًا للبيانات المنشورة في موقع سلطة الشركات الحكومية الإسرائيلية، فقد تبيّن وجود 20 اسمًا عربيًا فقط من بين 376 عضوًا إجمالًا، أي بنسبة لا تتجاوز 5.4% من مجموع أعضاء الإدارات.
التوظيف في الشركات الحكومية
بلغ عدد العاملين في الشركات الحكومية عام 2024 نحو 55 ألف موظف وموظفة. ومن الجدير بالذكر أن معدل الأجور في هذه الشركات يقارب ضعف المعدل العام للأجور في الاقتصاد الإسرائيلي، ما يجعل العمل في هذا القطاع أحد أكثر مجالات التشغيل استقرارًا وجاذبية من الناحية الاقتصادية.
ورغم تعديل البند 15أ من قانون الشركات الحكومية الذي يهدف إلى زيادة تمثيل المواطنين العرب في القطاع العام، تُظهر المعطيات الحديثة أن نسبة العرب العاملين في الشركات الحكومية ما تزال منخفضة جدًا. بل وتشير بعض التقارير إلى أن عددًا من الشركات الحكومية لا يضم أي موظف عربي على الإطلاق.
وفقًا لتقرير مراقب الدولة، يتبيّن أن حصة المواطنين العرب من مجمل العاملين في الشركات الحكومية عام 2020 لم تتجاوز 2% فقط، أي ما يعادل حوالي 1100 موظف من أصل نحو 57 ألف موظف. ويُظهر التقرير أن هذه النسبة لم تشهد أي تحسّن يُذكر منذ ذلك الحين وحتى عام 2024، ما يعني أن واقع التمثيل العربي في سوق العمل الحكومي ظلّ شبه ثابت.
تغيير القانون يهدد تمثيل العرب في الشركات الحكومية
تُظهر المعطيات أنّه على الرغم من تعديل القوانين الخاصة بالشركات الحكومية والتي تهدف إلى رفع تمثيل المواطنين العرب، سواء في صفوف العاملين أو في مجالس إدارات تلك الشركات، فإنّ الواقع العملي لا يزال بعيدًا جدًا عن تحقيق هذه الأهداف. فتمثيل العرب ما زال منخفضًا إلى حدّ كبير، نتيجة عدم تطبيق القوانين فعليًا، وغياب آليات تنفيذ واضحة ورقابة فعّالة، إلى جانب عدم إلزام الشركات الحكومية بتحديد نسب تمثيل محددة للمواطنين العرب، وانعدام المساءلة الجدية حول مدى تنفيذ هذه القوانين.
كما أن العنصرية البنيوية المتجذّرة في الثقافة المؤسسية والعامة في إسرائيل، بما في ذلك في إدارات الشركات الحكومية، تُسهم في خلق بيئة تُقصي المواطنين العرب وتحدّ من فرص انخراطهم في مواقع التأثير وصنع القرار.
وفي هذا السياق، فإن تغيير قانون تعيين أعضاء مجالس إدارات الشركات الحكومية ورؤسائها، الذي يقترحه الوزير دودي أمسالم، والذي يهدف إلى تحويل التعيينات إلى تعيينات سياسية خاضعة لإرادة الوزراء، سيؤدي بالضرورة إلى تعميق الإقصاء القائم، ويجعل رفع تمثيل المواطنين العرب أكثر صعوبة. كما سيحوّل مسألة التعيينات من قضية مهنية قائمة على الكفاءة إلى قضية سياسية ترتبط بالولاء للحكومة والوزراء.
التعليقات