يعيش في إسرائيل نسبة كبيرة من السكان من غير اليهود ومن غير العرب، غالبيتهم دخلوا البلاد في ثنايا الهجرة الروسية الكبرى، التي حدثت في تسعينيات القرن الماضي، إضافة إلى نسبة كبيرة من العمال الأجانب الذين تسللوا إليها من دول شرق أفريقيا وأصبحوا يشكلون مشكلة إضافية بالنسبة لدولة العرق اليهودي، ناهيك عن عرب هذه البلاد الذين تبلغ نسبتهم 20 في المئة من مجموع السكان داخل الخط الأخضر.

في الجانب اليهودي أيضًا تنوع غير مسبوق يقسم "القبيلة" إلى أصول وثقافات ومذاهب مختلفة و"متناحرة"، من "سفراديم" و"أشكنازيم" و"حريديم" و"متدينين"، فشلت الصهيونية رغم جميع المحاولات في محو الفوارق بينهم وصهرهم في بوتقة الثقافة اليهودية الأشكنازية، التي أريد لها أن تكون ثقافة الدولة، وكان خطاب الرئيس الإسرائيلي، رؤوفين ريفلين، الذي تحدث فيه عن أربعة أسباط تشكل المجتمع الإسرائيلي، بمثابة اعتراف بذاك الفشل وإقرار بهذا الواقع.

خطاب الأسباط الخاص الذي ألقاه ريفلين، وغن كان استثنائيا في مستوى المؤسسة، فإنه لا يشذ عن الكثير من التحليلات السوسيو-سياسية التي ترى أن مجتمعا أو هوية إسرائيلية تشكلت خلال 70 عاما، هي ليست ذات الهوية اليهودية المتخيلة التي بنت عليها الصهيونية كيانها الكولونيالي، وما زالت تسعى لتعزيزها من خلال مجموعة الإجراءات والقوانين العنصرية التي كان آخرها "قانون القومية".

في هذا السياق، يندرج مقال الكاتب والإعلامي الإسرائيلي يارون لندن في "يديعوت أحرونوت" الذي يتحدث فيه عن مجموعة صغيرة من المثقفين اليهود التفتت منذ ثلاثينيات القرن الماضي إلى تشكل "شعب جديد" في ما يسميه "أرض إسرائيل" يختلف عن "الشعب اليهودي" في الشتات، ووصفهم خصومهم "احتقارا" بـ"الكنعانيين" على اسم سكان البلاد الأوائل المذكورين في "المقرأ"، أي التوراة، كما يقول.

ورغم اختفاء تلك المجموعة، إلا أنه تجري بالتدريج مسيرة تؤدي إلى تحقق رؤياها، حيث يطور الإسرائيليون اليهود قومية منفصلة، رغم أنف مشرعي "قانون القومية"، بل بمساعدتهم أيضا، كما يقول لندن.
ويرى الكاتب الإسرائيلي المعروف أن "الشعب المتجدد" يعرف وفقًا للغته ووفقًا لحدود الأرض الإقليمية التي يسيطر عليها، وأنه سيضم في المستقبل غير البعيد أيضًا العرب مواطني إسرائيل.

أما السؤال الذي يشغل لندن، فهو هل سيكون هذا التطور شبيها بالتطور المأساوي للمستوطنين الهولنديين الذين أصبحوا بوريين، أبناء الأقلية العنصرية البيضاء جنوب أفريقيا، أو أنه سيشبه ذاك الذي وقع في ما يصفها بالديمقراطيات الكبرى.

ويشير في هذا السياق إلى أن سكان نيوزيلندا ليسوا إنجليزًا، رغم أنهم يتحدثون اللغة الأقرب إلى الإنجليزية، ومواطنو محافظة كويبك في كندا يتحدثون نوعًا من الفرنسية، ولكنهم ليسوا فرنسيين بل هم كنديون، كذلك الأمر بالنسبة لمواطني أستراليا الذين هم أستراليون، مهما كان أصلهم العرقي ومهما كانت ديانتهم.

ما يريد لندن قوله هو أن المستوطنين اليهود، مثل غيرهم من مستوطني الحملات الاستعمارية الكولونيالية في أميركا وأفريقيا وآسيا، والذين كانوا جزءا من أمم وشعوب أوروبية بالأساس، شكلوا بحكم علاقتهم التاريخية الطويلة مع الأرض التي استوطنوها، قوميات وشعوبا جديدة بعد أن قطعوا خيوط العلاقة التاريخية مع أصولهم.

وهو يرى، أنه بعكس الاعتقاد السائد بأن "قانون القومية" هو تعزيز للهوية اليهودية، فإن القانون هو أحد مظاهر احتضار الهيمنة اليهودية على الهوية الإسرائيلية ، تلك التي تشكلت معالمها خلال 70 عاما من علاقات الإنسان بالإنسان في أرض إقليمية مشتركة.

يشاطره في هذه الرؤية أستاذ التاريخ في جامعة تل ابيب، شلومو زاند، الذي كتب تحت عنوان "إسرائيلية ديمقراطية" في صحيفة "هآرتس"، أن الدول ليست أجهزة لضبط العلاقات الاجتماعية فقط، بل إنها لعبت ومنذ أن تبلورت في العصر الحديث دورا مهما في تصميم الثقافات والهويات القومية.

ويشير زاند إلى أن تعريف الدولة لنفسها "إسرائيلية وديمقراطية"، من شأنه أن يحافظ على جزء من الثقافات المتعددة التي نشأت منها ويجعلها مفتوحة لكل مواطنيها، بشكل يضمن لأقلياتها اللسانية والدينية والثقافية الحفاظ على خصوصياتهم، إلى جانب المشاركة في خلق ثقافة فوقية مشتركة.

وعن سؤال، لماذا يصر قباطنة إسرائيل على تجاهل الواقع "الإسرائيلي" الناشيء والتمسك بـ"يهودية الدولة" عنوة؟ يجيب زاند بأن تعريف الدولة كـ"إسرائيلية ديمقراطية" قد يحولها إلى "دولة العرب والدروز"، أكثر مما هي دولة يهود أميركا ويجعلها دولة الأطباء والصيادلة العرب، أكثر مما هي دولة وفود المنظمات اليهودية الذين يأتون للزيارة ولا يعودون، وهو ما قد يشكل نهاية الصهيونية.