يروي سليمان أبو شاهين، البالغ من العمر 63 عامًا من قرية بقعاثا، شهادته على نكسة حزيران/ يونيو ويقول:' قبل الحرب كنت موظّفًا في مديريّـة الصحـة في القنيطرة (مكافحـة الملاريا)، وكان عملي مقتصرًا على الجولان، ومرة في الشهر في محافظـة درعا. يوم الحرب، 6 حزيران/ يونيو، كنت في التوافيق (على كتف طبريـا الشرقي) مع فرقتي، وفي تمام الساعة التاسعة سمعنا أن الحرب قد بدأت. أرجعونا من التوافيق إلى القنيطرة. وصلنا الساعة العاشرة والنصف صباحًا مع شخص من جباثا الزيت، الساعة الحادية عشر صباحًا كنت عند مدخل بقعاثا'.

 عندما نزلت من السيارة رأيت ثلاث طائرات سورية متّجهة نحو الغرب. وصلت البيت ولم أجد أحدًا هناك، أمي وأبي ومعهم أختي الصغيرة لحقوا بالغنمات وظلوا في المرعى قرب قرية سحيتا، وزوجتي غادرت إلى أهلها في مجدل شمس. بقيت وحدي في البيت لمدة أربعة أيام. بعدها حملت سلاحي (بارودة 49 من المقاومة الشعبية) وودّعت أصدقائي ثمّ مضيت نحو المرعى لأبحث عن أهلي. هناك وجدت الراعي الذي كان يعمل عندنا، وأخبرني أن أهلي غادروا إلى قرية حضر. انطلقت نحو حضر وشاءت الصدفة أن ألتقي بهم عائدين للبحث عنّي. القصف كان متواصلاً من الطائرات، أذكر قالت لي أمي عندما التقينا: كلما قصفت الطائرة كنت أظن أنها تقصف عليك.

عدنا إلى حضر قاصدين بيت أحد أصدقاء العائلة، وحتى تلك اللحظة لم أعرف شيئًا عن زوجتي. بعد وقف إطلاق النار (وكان ذلك بعد سبعة أيام، وكنا لانزال في حضر) قررت ألا أعود إلى بقعاثا، بل النـزوح إلى دمشق، وذلك لأنني لم أحتمل الهزيمة الموجعة واغتصاب أرضنا من قبل الغرباء. تقبّل والديّ قراري، فقد كان همهم أن لا أتعرّض للخطر، وفي نزوحي سأكون آمنًا. لكن كان عليّ أن أُحضر زوجتي من المجدل بأي شكل من الأشكال.

أعطاني أحد الأصدقاء بغلة وتوجهت نحو مجدل شمس بعد الظهر (وقتها كان العبور ممكنًا)، دخلت المجدل عن طريق عين القصب، ولم أرَ أحدًا طوال الطريق. تفاجأت زوجتي عندما رأتني، أخبرتها هي وأهلها عن قراري فلم يعترضوا.

عدنا أنا وهي إلى حضر (كانت حاملاً)، وفي حضر بقينا ليلتين، بعدها تأهّبنا للرحيل نحو دمشق. أعطاني أبي 2000 ليرة سورية وانطلقنا. وصلنا دمشق واستضافنا ابن عمي، بعد ذلك انتقلنا إلى بلدة جرمانا، ومكثنا هناك أقل من سنة. كانت لي أخت في صحنايا تزوجت حديثًا، وزوجها كان موظّفًا في في المؤسسة الاستهلاكية.

في الأيام الأولى بعد الحرب، تجمّع النازحون في ساحة معرض دمشق، كي يتسجّلوا وتُهيّأ لهم المساكن، أما أنا فلم أسجِّل ظنَّا مني أن المسألة ستنتهي بعد عام على الأكثر وسنعود إلى أرضنا. وعندما شعرت أن الأمل ضعيف حاولت التسجيل لكن طلبي رُفض (كان ذلك في المِزّة حيث أقمت).

كان لي صديق (طبيب عسكري)، قصدته ليساعدني، فأعطاني كتابًا للمحافظة في دمشق وبالفعل تقبّلوا طلبي وأعطوني مكتوبًا لفرع المِزّة، وهناك سجّلوني، وبعدها حصلت على المساعدات. بعد أربعة أشهر من نزوحي أنجبت زوجتي صبيَّا. وفي تلك الفترة فاجأتني أمي بقدومها إلى دمشق، فقد خاطرت بنفسها وتسلّلت من بقعاثـا إلى حضر ثـم قدمت من هناك إلى دمشق. كانت لحظة تاريخية لا يمكن وصفها. بعد ثلاثة أيام أعدناها إلى حضر ثم تسلّلت عائدة إلى بقعاثا.

حصلت على عمل مع مقاول طرقات، وعملت كمسؤول عن طاقم. بقيت في ذلك العمل إلى حين عودتي إلى بقعاثا بتاريخ 20 آذار/ مارس 1969. قبلها كنت قد تقدّمت لمسابقة للعمل على آلة كاتبة، في المقابلة الثانية من المسابقة سألني أحدهم: هل كان قرارك صائبًا بنـزوحك عن قريتك في الجولان!  كنت مدركًا طيلة الوقت أنني أخطأت في قراري، لكن سؤال ذلك الشخص جعلني أقف أمام نفسي وأعترف أنني أخطأت، وعليّ العودة في أسرع وقت، وبالفعل خلال فترة قصيرة عدت إلى مسقط رأسي بقعاثا عن طريق الصليب الأحمر.

بعد رجوعي عانيت كثيرًا، فقد كنت على مدار سنة مضطرًا لإثبات وجودي في مركز الشرطة يوميًّا في القنيطرة المحتلة. في المرة الأخيرة قال لي أحد الضباط: ستبقى عندنا هنا في المعتقل. أخذوني إلى الجاعونة (روش بينا)، وبعد يومين من اعتقالي دعاني أحد الضباط وأنزلني إلى مكان تحت الأرض وقام بتعذيبي. أمضيت في المعتقل 18 يومًا، تعرّضت خلالها للتعذيب كل يوم، إلى درجة أنني تمنيت الموت على أن أتلقى الإهانات التي وُجّهت لي... ومن يومها أعمل في البناء حتى يومنا هذا.

اقرأ/ي أيضًا | عبد الناصر والنصر الموعود!