أحد أعظم مفارقات دونالد ترامب هو أنه، بالنسبة لرئيس، يعد من الأقلية التي تُظهر تدينها في ذاكرتنا، يعرض العالم عادةً عبر عدسات دينية. وهو ما يتجلى في خطابه المُغالي حول "رأس حربة التعصب" التي بدأت تلوح في الولايات المتحدة، الإرهابيون الذين "لا يعبدون الله، بل يعبدون الموت"، وأميركا كـ"دولة المؤمنين الحقيقيين".

لقد بدا واضحًا كيف كانت رحلة ترامب الدولية الأولى كرئيس، كانت عبارة عن جولة بين القدس والرياض وروما والتي تأطرت حصريًا كرحلة عالمية حول الأديان الإبراهيمية.

يمثل الدين مركزًا في ملف نائب الرئيس مايك بينس، مع زياراته لقمة فرانكلين غراهام التبشيرية حول الحرية الدينية الدولية والاجتماع الدولي لمؤسسة "مسيحيون من أجل إسرائيل". كما كان للجماعات الدينية دورًا فعال في واحدةٍ من أكبر الخطوات على صعيد السياسة الخارجية لهذا العام، وهو قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إلى هناك.

وأشار أول عام لترامب في الرئاسة إلى أن القومية هي المبدأ التنظيمي المهيمن في فهمه للشؤون الدولية، وهي عادةً ما تكون ممسوحة بالهوية الدينية. يمثل ذلك اختلافًا كبيرًا عن إدارة أوباما، التي كانت تنظر للعوامل الأخرى كدوافع أكثر أهمية في السياسة الخارجية. ولكن ما زال من غير الواضح ماهية النتائج التي ستخرج عن الإستراتيجية والسياسات الفعلية من منظور ترامب، وحتى الجماعات التي ينوي دعمها قد تصبح أسوأ حالًا كنتيجة لذلك.

ومن خلف الستار، كانت مساحات عمل الدين والدبلوماسية في حالةٍ معكرة. حيث تم إغلاق مكتب الشؤون الدينية والدولية في وزارة الخارجية الذي تأسس في ظل وزير الخارجية جون كيري للعمل مع الجماعات الدينية الدولية. تحدث الرئيس بعواطف جياشة عن المسيحيين المضطهدين في الشرق الأوسط، ولكن ما زلنا ننتظر ماهية المساعدات الموسعة أو التأشيرات التي ستحصل عليها هذه الجماعات. كما دعَّمت الإدارة علاقتها مع دول مثل السعودية، والتي لا زالت المفوضية الأميركية للحريات الدينية الدولية تصنفها كـ "دولة مثيرة للقلق" بسبب "محاكمة واعتقال الأفراد بسبب المعارضة والارتداد والتجديف".

وفي هذا الصدد، تقول الأستاذة المشاركة في جامعة توفتس، إليزابيث برودرومو، إنه "إذا كان هناك شيء تتسم به السياسة الخارجية لهذه الإدارة، فستكون هي التوترات والتناقضات الداخلية والتحولات والمفاجئات".

إن الدليل الأقوى على تركيز ترامب على الدين هو لغته. يقول الأستاذ في جامعة جورج ماسون، بيتر مانديفيل، والذي خدم في فريق هيلاري كلينتون لتخطيط السياسات عندما كانت وزيرة خارجية: "توجد حاليًا... ظلال للخطاب السياسي في هذه الإدارة جعلت بعض الناس يتذكرون مقالة سامويل هنتنغتون المشهورة في عام 1993 وكتابه المعروف ‘صدام الحضارات‘".

فمرة بعد مرة، يعود الرئيس للدين ليفسر الأحداث الكبرى ودور أميركا في العالم، كما تميل هذه الخطابات لحمل نبرة مظلمة ودرامية مبالغٍ فيها، مثل: الإرهاب هو "معركة بين الخير والشر"، أعداء البلاد "يُغرقون الناس في أقفاص حديدية"، الإسلام "يكرهنا". يقول مانديفيل إن إدارة ترامب ترى الدين كـ "عامل أساسي مساهم في العنف المتطرف أكثر من دور البنى كالسياسة أو الاقتصاد أو الفساد أو الأزمات المحلية"، ويضيف: "وهو ما كانت تشدد عليه إدارة أوباما".

كما أعطت إدارة ترامب ترويجًا كبيرًا للقضايا الدينية الدولية. فالرئيس يجري باستمرار مقابلات مع وسائل إعلامية مسيحية، الذين يضعون في صلب مخاوفهم ما يعابرونه "مأزق المسيحيين في الشرق الأوسط".

خلق الدين من حين لآخر لحظات متوترة دبلوماسيًا، فعندما التقى ترامب بالرئيس التركي رجب طيب إردوغان في هذا الربيع، شدد على إطلاق سراح قسيس من شمالي كارولينا يدعى أندرو برونسون، والذي تم اعتقاله عندها لمدة سنة. كما أعلن نائب الرئيس بينس في بداية هذا العام أن "حماية الحريات الدينية تمثل أولوية على صعيد السياسية الخارجية بالنسبة لإدارة ترامب"، ضمن وقفاته الدائمة مع المؤتمرات التي يعقدها المسيحيون.

تقول نائبة رئيس المفوضية الأميركية للحرية الدينية الدولية والمديرة التنفيذية السابقة لشركة "بيكيت" المناصرة للحقوق الدينية، كريستينا أرياغا: "هناك نوع من التعامل مع الحرية الدينية في هذه الإدارة باعتبارها حقًا إنسانيًا كونيًا مترابطًا لا يتجزأ". وأضافت: "لم يحضر هذا في إدارة أوباما، لذا فإني أظن أن هذا ينعش المجتمع الدولي، ولأمثالنا الذين يناصرون هذه القضية، كي يروا أن الحرية الدينية محفوظة في مكان أمين".

قد يمتلك مناصرو الحقوق الدينية سببًا آخر للفرح في ظل وجود ترامب: وهو ازدياد التركيز على الدين العالمي في واشنطن، وازدياد تأثيرها أيضًا. بشكل خاص، نجح مستشارو الرئيس التبشيريون بالدفع بعدد من خطوات ترامب الجوهرية في السياسة الخارجية، بما في ذلك نقل سفارة القدس وإعادة توجيه المساعدات المقدمة لمسيحيي الشرق الأوسط عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) بدلًا من الأمم المتحدة. قد تحفز السياسات المحلية هذه القرارات بنفس درجة تأثير إستراتيجية السياسة الخارجية.

وفي هذا السياق، قالت مديرة مركز "بيركلي" للدين والسلام والشؤون الدولية في جورج تاون، والرئيسة السابقة لمكتب الدين والشؤون العالمية في وزارة الخارجية، سون كيسي، إنه (ترامب) "يحاول أن يصنع شيئًا جيدًا في وعود سياساته التي أعلنها في حملته للتبشيريين المسيحيين".

في ظل رئاسة أوباما، رفض المحافظون المناصرون للحرية الدينية ما وجدوه كممانعة لوضع الاضطهاد الديني حول العالم كأولوية بالنسبة لأوباما. كان النقاد غاضبين من أن الإدارة تركت منصب سفير الولايات المتحدة للحرية الدينية العالمية فارغًا لفترة طويلة، كما انتقدوا وزير الخارجية جون كيري لقيامه على مضض بإعلان أن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) يشن حملة تطهير ضد المسيحيين وغيرهم من الأقليات الدينية. قالت أرياغا، متحدثة باسمها لا باسم لجنة الحريات الدينية (USCIRF): "لقد ضيعنا الكثير من الوقت، وقد عانى الكثير من الناس من أجل ذلك". وأضافت: "هذه أوضاع متأزمة، والعالم يتطلع للولايات المتحدة لتستلم دفة القيادة".

ومع ذلك، أخذت إدارة أوباما خطوات لرفع دور الدين في ممارستها الدبلوماسية. فقبل أن يؤسس كيري مكتب الدين والشؤون العالمية، لم تكن وزارة الخارجية تمتلك وحدة مكرسة لتحليل الأحداث والفعالين عبر عدسة الدين، حيث لم يكن هناك أي شبكة منظمة من العلاقات مع الجماعات الدينية ومنظمات المجتمع المدني.

يقول ماندافيل، الذي عمل في المكتب بين عامي 2015 و2016، إن "كانت الحالة الطبيعية هي وجود ميل لإسقاط – علاوةً على تجاهل – الثقافة والدين بشكل كامل لأن السيطرة كانت للواقعية السياسية باعتبارها الفعلية السائدة لدى ممارسي السياسة الخارجية". لكن كان من ضمن أهداف المكتب أن يعمل على تصحيح ثقافة صناعة القرار التي ترى الدين بشكل منفرد باعتباره مشكلة ينبغي التعامل معها في سياق الإرهاب. حيث قال: "كنا في أحسن الأحوال نحاول أو نبين أن مجرد دفع المشايخ عبر العالم للتغريد حول مجموعة من الأشياء لن يؤدي فعليًا إلى حل مشكلة العنف المتطرف". وأضاف: "إن الظن بأنك تستطيع التوجه للأزهر في القاهرة، وأن تتمكن من إقناعهم بنشر فتاوى رائعة ستؤدي إلى إطفاء شعلة تنظيم الدولة، لهو خطأ كبير في إدراك واقع الطبيعة المعاصرة للسلطة الدينية".

والآن، تم تفكيك معظم هذه الأعمال، بل عُكست الأمور بطريقة ما. حيث أشار وزير الخارجية ريكس تيليرسون إلى أن المكتب سوف يتم إتباعه إلى مكتب آخر في الوزارة يعني بمراقبة الحرية الدينية الدولية، وهو ما سينهي تقريبًا الجهود المميزة التي صنعها كيري. تقول كيسي: "انظر إلى هذا الإسراف. لقد خسر ترامب بعض الناس الذين كانوا موهوبين ومليئين بالخبرات والمعرفة ليس في فهم للسياسة الخارجية فحسب، بل في فهم الدين في مختلف أصقاع العالم". عندما يتعلق الأمر بصناعة القرار، يبدو أن ترامب يفضل الجماعات الهزيلة من المستشارين والموظفين والبيروقراطيين، حيث أشار الدبلوماسيون إلى وجود لا مبالاة في توقع قطع الميزانيات وتسريح الموظفين. كانت كيسي متشككة من أن الجماعات الدينية، بما فيهم مستشارو ترامب المسيحيين، يمكن لهم أن يستبدلوا نمطًا سابقًا من السياسات. وتضيف: "يصعب رؤية كيف أن هذه الزمرة من الزعماء التبشيريين لم يحرزوا أي تقدم حقيقي على صعيد السياسة الخارجية".

يمثل هذا توترًا جوهريًا في السياسة الخارجية الخاصة بترامب، سواء المتعلقة بالدين أو غيرها، فالخطاب القوي لم يتطابق بالضرورة مع الموارد أو التوظيف أو البنى التي تدعم المبادرات الكبيرة. حتى فيما يتعلق بمسيحيي الشرق الأوسط، والتي يُعنى بها التبشيريون والمشرعون الجمهوريون بشكل كبير، لا زالت الإستراتيجية السياسية غير واضحة. يقول كيسي "على الصعيد الخطابي، فإنه يصب عليهم ما يستطيبونه من الكلام، ولكن إذا كان ضمن عائلة مسيحية متدينة في نينوى، فلن تتمكن من الاكتفاء بالخطاب". وأضاف: "فالخطاب لن يبني لك منزلًا، لن يحميك من جيرانك السيئين الذي تظن أنك محاطٌ بهم... وعلى صعيد النتائج الفعلية للوعود، فإن الأمر غير واضح إطلاقًا".

في بعض الحالات، قد يعمل خطاب ترامب بشكل فعال ضد غايات أميركا الدبلوماسية. فالإطار الحضاري الذي يتبناه، والذي يصف العالم كمعركة واضحة بين الخير والشر، قد تعطي نتائج عكسية في الأماكن التي تسعى فيها الجماعات الوسطية أن تثبت نفسها مقابل الأيديولوجيات المتطرفة: تقول برودروبو أن ذلك "يعزز ويجر المجتمعات المتدينة والزعماء... لرفض فكرة التعددية" و"يضعف أي أفراد جماعات ملتزمة بتحقيق فكرة التعددية". وهذا قد ينطبق على بعض السياسات، مثل قرار منع السفر الذي وضعه ترامب، والذي يستهدف المهاجرين واللاجئين المسلمين بشكل واضح.

اقرأ/ي أيضًا | وثيقة: نص قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن القدس

إنه سجلٌ يلائم ترامب: الكثير من الكلمات، والقليل من العمل، وضوح أقل في إستراتيجية العمل. تقول برودرومو: "هناك بلا شك تصور يقول بأن الدين يلعب دورًا أكبر بكثير في السياسة الخارجية لهذه الإدارة مقابل الإدارات السابقة منذ الحرب الباردة". ولكن "لا زال مبكرًا فهم الاختلاف بين التصور والواقع".