اتهم المستشار الأميركي الخاص روبرت مولر، في 16 شباط/ فبراير الجاري، أفراد ووحدات روسية بالتدخل بالانتخابات الرئاسية الأميركية.

هذه ليست سابقة في التدخلات الروسية، فخلال السنوات التسع الماضية، غزت روسيا جارتها جورجيا، واستولت على أراضي القرم الأوكرانية، ودعمت المتمردين في شرقي أوكرانيا.

كمؤرخ للتاريخ الروسي، وجدت أن أكثر سؤال إثارة للاهتمام هو: هل تمثل هذه الأفعال إشارة إلى أن روسيا تعود إلى سياستها الخارجية العدوانية أم أنها جزء من توجه جديد كليًا في السياسة الخارجية الروسية؟

إن الإجابة عن هذا السؤال مهمة بالنسبة للولايات المتحدة ومختلف بلاد العالم. ففي حال كانت هذه السياسات تمثل عودة لتقليد روسي عميق، سيكون من الصعب رد العدوان الروسي.

للإجابة عن هذا السؤال، فلنلقي نظرة على أنماط السياسة الروسية التي تجلت خلال القرون الثلاثة الماضية.

شراء النبلاء

في بداية القرن السابع عشر، كانت بولدنا قوةً عظمى التي لم تتدخل في السياسات الروسية فحسب بل أرسلت جيشًا إلى موسكو في عام 1610 ونصَّبت أميرًا بولنديًا على العرش. لكن نمت قوة روسيا خلال المئة سنة التي تلت ذلك. وبحلول بدايات القرن الثامن عشر، أصبحت روسيا تتدخل باستمرار في الحياة السياسية الانتخابية الداخلية البولندية. في ذلك الوقت، تم انتخاب الملك البولندي كرجل نبيل. رشى بيتر العظيم وخلفاءه النبلاء للتصويت ضد محاولات الملك والحكومة المركزية لتقوية الحكومة المركزية والجيش الوطني.

وفي نهاية القرن، قامت روسيا والنمسا وبروسيا – الدول الثلاث التي تجاوزت مقاومة النبلاء البولنديين وفرضت ضرائب على تمويل إنشاء جيوش قوية – بتقسيم الدولة البولندية بينها، لتمسحها عن الخارطة نهائيًا. وبالطبع، بقيت بولندا جزءًا من الإمبراطورية الروسية إلى أن استعادت استقلالها خلال الحرب العالمية الأولى.

كان الاتجاه الآخر للتوسع الروسي هو نحو الجنوب الغربي. ففي عام 1774، هزمت روسيا الإمبراطورية العثمانية، وهي إمبراطورية رئيسية سيطرت على البحر الأبيض المتوسط من المغرب وحتى الشرق الأوسط وإلى تركيا وحتى دول البلقان. وخلال فترة الهدنة، حافظت روسيا على حق التدخل في الشؤون العثمانية الداخلية باسم المسيحيين. وفي عام 1814، وبعدما دفع ألكسندر الأول نابليون خارج روسيا، وتقدمت قوات القيصر إلى باريس وتوسطت معاهدات السلام الأوروبية. في عام 1848، وفي سابقة غير طبيعية للغزو السوفيتي في عام 1956، ألغت القوات الروسية ثورة النبلاء الهنغاريين ضد حكم عائلة هابسبورغ.

في أواخر القرن التاسع عشر، انخرطت بريطانيا وفرنسا وألمانيا والقوى الأوروبية الأخرى في "سباق الاستعمار" العظيم في أفريقيا وآسيا. كان التوسع الإمبريالي الروسي في هذه الحقبة محدودًا نسبيًا. وبالرغم من غزوها لأراضي قليلة السكان في وسط آسيا، عندما حاولت التوسع في الشرق الأقصى، هزمت اليابان روسيا في حرب مُذِلَّة.

الحقبة السوفيتية

منذ نشأته في عام 1917، سعى الاتحاد السوفيتي لتحويل ثورته الشيوعية إلى ثورة شيوعية عالمية. لكن لم يكن سوى نصرها في الحرب العالمية الثانية ما أعطى الاتحاد السوفيتي وضعية القوة العظمى والقدرة على التدخل في الدول الأخرى على الصعيد الدولي.

سيطر الاتحاد السوفيتي بشكل محكم وفرض النموذج الشيوعي السوفيتي على كامل شرق أوروبا ودعم الشيوعية والحركات القومية الراديكالية المقامة للاستعمار حول العالم. حاول الاتحاد السوفيتي خلق بديله الخاص عن الولايات المتحدة والنظام الاقتصادي الدولي الأوروبي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، وهو الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.

والآن تدعم الروسي الخصوم القوميين للنظام الاقتصادي الدولي، أي الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. وبالرغم من أن الشيوعية واليمينية الشعوبية اليوم، تتعارضان أيديولوجيًا للوهلة الأولى، إلا أنها تشترك في بعض الجوانب. فكلا الطرفان يرفضان الوضع الدولي الراهن، والنموذج السياسي المهيمن، والمواقف من الواقع والإعلام. فكلاهما يتخذ موقفًا عدائيًا من العالم الغربي.

لكن ينبغي علينا الحفاظ على القليل من الأمور المهمة في بالنا قبل استنتاج أن روسيا تتوجه بشكل متأصل أو متفرد نحو السيطرة وتوسيع تأثيرها في الخارج.

أولًا، انفصلت أوروبا الشرقية عن الاتحاد السوفيتي عام 1989 وبطريقة سلمية بشكل ملحوظ. وبعد عامان من ذلك، تم حل الاتحاد السوفيتي من زعيم الاتحاد الفدرالي الروسي مع زعماء كازاخستان وبيلاروسيا وأوكرانيا. بالرغم من حدوث القليل من الصدامات وحروب الخلافة الصغيرة، فقد كانت من أكثر النماذج سلمية في انحلال إمبراطورية رئيسية في التاريخ.

نظرًا للتاريخ العنيف للصراعات بين ثلاثة من أكبر الشعوب في المنقطة – البولنديين والأوكرانيين والروس – إلا أنه يلاحظ أن المساحة لم تنحدر إلى حروب الخلافة. يرصد الكتاب المعروف "تفادي هرمجدون" فكرة أن القبول الروسي السلمي لخسارة إمبراطورية وتأثير دولي في التسعينات كان أشبه بالمعجزة، خاصة مع وجود الأسلحة النووية والانتشار الهائل للسلاح عبر المنطقة.

ثانيًا، من السهل نسيان تاريخ "الغرب الديمقراطي". فبريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا والبرتغال جميعها أنشأت وحكمت إمبراطوريات هائلة عابرة للقارات منذ القرن السادس عشر حتى النصف الثاني من القرن العشرين. كما بنت تركيا إمبراطورية كبيرة متعددة الإثنيات حول البحر الأبيض المتوسط من المغرب وحتى البلقان، وجمَّعت النمسا عشرات من القوميات ضمن إمبراطورية أوروبية قارية رئيسية.

كما غزت أميركا الكثير من الأراضي الغربية من إسبانيا والمكسيك والأميركيين الأصليين في القرن التاسع عشر. وأسست مجال تأثير في جنوب ووسط أميركا، والتي يجري التدخل في انتخاباتها وإشعال الانقلابات فيها أيضًا.

انقسمت هذه الإمبراطوريات على مرحلتين، مع نهاية الحرب العالمية الأولى وفي العقود التالية للحرب العالمية الثانية. ويعد انحلال الاتحاد السوفيتي ووكالاتها في أوروبا الشرقية الفصل الأخير في قصة الظاهرة الدولية. لم يحدث أن جرت عملية الانحلال بطريقة سلمية كاملة، وفي أماكن مثل الشرق الأوسط، اتجهت إلى سلسلة من الحروب الأهلية العنيفة الواسعة.

النقطة الثالثة هي تذكر أنه بينما تدخل الروس في الانتخابات الأميركية في سابقة في تاريخ الانتخابات الأميركية وهو أمر مثير للقلق بحق، إلا أنه ليست أمرًا جديدًا في تاريخ العلاقات الدولية. وفي الحقيقة، تمتلك الولايات المتحدة تاريخًا طويلًا في التدخل في انتخابات الدول الأخرى، فبحسب قاعدة البيانات التي جمعها دوف ليفين، حاولت الولايات المتحدة التأثير على نتائج 81 انتخابات رئاسية حول العالم بين عامي 1964 و2000.

بعد هذه المحاذير، لنعد إلى السؤال، هل تعني ممارسات روسيا الأخيرة عودة إلى العدوانية الروسية التقليدية بعد عقد غير معهود من الانسحاب بين 1989-1999؟

فباستثناء سورية، كان التدخل الروسي منذ عام 1991 محدودًا بجاراتها القراب. لكن يبدو أن التدخل في الانتخابات ودعم الأحزاب اليمينية في أوروبا والولايات المتحدة يمثل إشارة إلى تغير ذلك.

إلا أن روسيا لا تصعد كقوة كبيرة كما كان الأمر عليه في أواخر القرن الثامن عشر خلال بدايات القرن العشرين. وكحالة ضعيفة نسبية في انحسار القوة، كانت مشاريعها السياسية الخارجية متوجهة نحو الفوز بالدعم المحلي من نظام يفتقد للشرعية الانتخابية. في هذا السياق، قد تبدو السياسة الخارجية الروسية الأخيرة أشبه بالأفعال البريطانية في جزر الفوكلاند والولايات المتحدة في غرناطة في الثمانينات من سلسلة طويلة من الممارسات الروسية للتوسع والتدخل الخارجية خلال ثلاثة قرون من النمو كقوة عظمى.

صارعت كل إمبراطورية سابقة لاسترجاع خسارة إمبراطورتيها، لكن روسيا لم تفعل ذلك. سواء أكانت تعود إلى الأنماط السائدة في الـ300 سنة الماضية من التوسع والتدخل الخارجي والخروج، أم أنه خروج عن التقاليد، سيكون هذا سؤالًا كبيرًا في العلاقات الدولية في السنوات التالية.

اقرأ/ي أيضًا | هذه هي أكثر الاقتصادات بؤسًا في العالم