كانت السعودية ولفترة طويلة القوة المسيطرة على النفط، تاركةً العالم كله تحت رحمة طموحاتها ومصالحها. والآن ينبغي على المملكة أن تجدد إستراتيجيتها لتعبر عن انخفاض موقعها، ولعب دور مختلفة.

إن تغير طبيعة قطاع الطاقة – انفجار الإنتاج النفطي للنفط الصخري الأميركي، والانخفاض المستمر لأسعار النفط الخام، وصعود الغاز الطبيعي – قد غير المعادلة الجيوسياسية.

وفي حين لا تزال السعودية منتجًا رئيسيًا للطاقة، لكنها يجب أن تعوض عن عائدتها المفقودة. وتدور الولايات المتحدة والصين وروسيا في دائرة آمال الحصول على الأسبقية المالية.

وتتحرك روسيا، التي تعاني من العقوبات الغربية وانخفاض أسعار النفط، نحو عناق السعودية لتحصيل اتفاقيات في الطاقة بالرغم من منافستها في سورية، حيث تدعم كلتا الدولتين أطرافًا متصارعة. وتسعى الصين، والذي ينحدر إنتاجها النفطي المحلي بشكل كبير، إلى تدفق مستقر ليس من النفط السعودي فحسب لكن من الاستثمار السعودي ضمن صناعاتها البتروكيماوية المتنامية.

وتسعى واشنطن إلى تجاهل هذه التحركات على أمل استمرار السعودية في بقاءها كحصن إستراتيجي في وجه إيران.

تتلاءم رغبة القوى العظمى الثلاث بشكل منظم مع إستراتيجية السعودية في إيجاد شركاء استثماريين جدد كجزء من اندفاعة أوسع نحو تنويع اقتصادها المعتمد على النفط وقطع عجز الموازنة الكبير وحماية مستقبل دولة الرفاع في المملكة والعائلة المالكة.

إن ركيزة المشروع هي عروض الاكتتاب الأولية المقترحة من شركة أرامكو السعودية، وهي شركة النفط الوطنية، وهي اتفاقية قد تكلف مئات المليارات من الدولارات.

كانت لعبة التغير الجيوسياسية في مشهدها الأكبر، عندما تشجع وزير الطاقة السعودي، خالد الفالح، بلقاء ضيف الشرف الرئيس فلاديمير بوتير، في افتتاح محطة تصدير غاز طبيعي عملاقة.

بالنسبة لبوتين، تعد هذه خطوة جريئة للتقدم نجو حليف لأميركا لغاية تتمثل بتوسيع ثروات الطاقة في البلاد بالرغم من العقوبات الحالية. وبالنسبة للفالح، كانت هذه فرصة لمناقشة مبيعات الغاز المستقبلية وجذب استثمارات شركة أرامكو السعودية وتنسيق الجهود لرفع أسعار النفط العالمية.

في الاحتفال العام، أخبر بوتين الفالح: "إذا استمررنا بالعمل بهذه الطريقة، فسوف نتحول من خصوم إلى شركاء".

إن النجاح الكبير لعروض شركة أرامكو ومجموع الإصلاحات الاقتصادية للمملكة لا تزال موضع تساؤل، ولا تزال خطواته موضع اختلاط. ومع ذلك، يتشابك الممولون الأمريكيون والصينيون والروس في رقص معقد حول هذه العروض، والتي ستوفّى في نهاية هذا العام.

دعا الرئيس ترامب علنًا، لوضع عروض الاكتتاب في قائمة في نيويورك. بدت القائمة السعودية أكثر أرجحية الآن مع وجود مبادلات إضافية في لندن أو هونغ كونغ. يقول الممولون الدوليون أنهم يريدون خطوة عملية أينما حدثت.

أعطى الاهتمام في عروض الاكتتاب، المملكة، تأثيرًا أكبر في وقت خسرت فيه منظمة الدول المصدرة للبترول، والتي تمارس عبرها سلطة طويلة المدى، الكثير من نفوذها.

قال وزير طاقة سابق وسفير للأمم المتحدة، بيل ريتشاردسون: "يقوم السعوديون بالتعويض عن قوتهم الضائعة في منظمة الدول المصدرة للبترول وباتوا يظهرون براغماتية جيوسياسية في سياسة الطاقة والأجنبية الجديدة". وأضاف: "ولكنهم لا يعوضون فقط عن طاقتهم الضائعة، بل يضيفون قوتهم في السياسية العالمية".

كانت تمتلك السعودية دورًا مركزيًا في قطاع الطاقة العالمي منذ الحرب العالمية الثانية على الأقل. عندما خلقت المملكة وفرة دولية من النفط لكسب حصة السوق في وسط الثمانينات، خفَّضت الأسعار بطريقة ساهمت في إفلاس الاتحاد السوفييتي في الوقت نفسه التي كانت تمول فيه الثائرين الأفغان المقاتلين ضد السوفييت.

كانت المملكة موردًا أساسيًا للنفط للولايات المتحدة إلى درجة ذهاب واشنطن للحرب في بداية التسعينات كجزء من حماية غزو عراقي محتمل. وعندما احتاجت الصين إلى مورِّد جديد للطاقة لاقتصادها الموسع في السنوات الأولى من القرن الجديد، كانت السعودية هناك ببرنامج استكشاف نفط طموح لتلبية الطلبات الجديدة.

لكن لم يعد من الممكن أن تسيطر منظمة الدول المصدرة للنفط على أسعار النفط وحدها. فقد مكَّن فيضان النفط من النفط الصخري الأميركي، الولايات المتحدة، من خفض نفط المنظمة وبدأت التصدير للأسواق التي كانت مسيطرة ذات مرة على النفط السعودي.

وتسعى السعودية، تحت قيادة ولي العهد، محمد بن سلمان، إلى ربط الاقتطاعات من إنتاج المنظمة خلال السنتين الماضيتين باقتطاعات الروس، والتي تعد مصدرًا آخرًا في تصدير النفط بأسعار بارزة. يريد السعوديون على المدى البعيد استيراد الغاز الطبيعي لاستبدال الاستهلاك المحلي للنفط مقابل الغاز، مما يخلي المزيد من النفط الخام للتصدير.

في نفس الوقت، بدأت البلاد بتوسيع استثماراتها في المصافي ومصانع البتروكيماويات حول آسيا والولايات المتحدة لضمان أسواق لنفطها بينما تصنع مبيعات إضافية من الغاز عالي الجودة والديزل ووغيرها من المنتجات المكررة.

ويقول محلل سابق للشرق الأوسط في وكالة الاستخبارات المركزية، ومؤلف كتاب "الملوك والرؤساء: السعودية والولايات المتحدة منذ فرانكلين روزفيلت"، بروس ريديل: "جعلت أسعار النفط المتدنية نمط حياة السعوديين في حالة غير مستقرة، لذا يتوجب عليهم إيجاد البدائل". وأضاف: "سوف يتحمسون للتعامل مع أي شريك يجدون أنه قادر على مساعدتهم في ذلك".

أكثر الشركاء مفاجأة هو روسيا، والتي لا زالت في الجهة المعاكسة ضمن الحرب الأهلية السورية وتحاول أيضًا بناء علاقات أفضل مع إيران، والعدو الإقليمي اللدود للسعودية.

في شتاء عام 2016، أدى والد ولي العهد، الملك سلمان، أول رحلة رسمية إلى روسيا بموكب من الملكية السعودية. تم الوصول إلى العديد من اتفاقيات التعاون تتضمن مبيعات عسكرية، بالإضافة إلى تقديم التزام من أكبر شركة بتروكيماويات روسية، "سيبوت"، لبناء مصنع في السعودية.

عبّر الرئيس التنفيذي لصندوق تمويل الاستثمار الروسي المباشر، المملوك للدولة، كيريل ديميتريف، عن مصلحته في عروض اكتتاب شركة أرامكو السعودية، بل اقترحت إمكانية مشاركة المستثمرين الروس والصينيين في مناقصة.

نمت العلاقات بين شركات النفط، الصينيين والسعوديين بشكل كبير في السنوات الأخيرة. اشترت شركة أرامكو حصة بنسبة 25% في مصفاة في محافظة الفوجان، التي تدار من شركة سينوبيك النفطية الضخمة المملوكة للدولة، وتمتلك الشركات مشاريع تصفية مشتركة في السعودية. كما وقعت السعودية اتفاقية افتتاحية في الصيف الماضي لعمل تمويل استثماري بقيمة 20 مليار دولار لمشاريع البنية التحتية والطاقة والتعدين.

قال نائب الرئيس التنفيذي السابق لشركة أرامكو، سداد إبراهيم الحسيني: "يمكن أن نعمل معهم أيضًا". وأضاف: "إنهم يريدون بلا كلل هذه الطاقة، ولدينا كمية كبيرة من الطاقة، بكمية ملائمة".

مثل هذه الاتفاقيات تروج أيضًا لجهود شركة أرامكو ليصبح محطة تنقية دولية. يمكن لهذا فقط أن يزيد من قيمة عروض الاكتتاب المقترحة من الشركة، والتي تنتج أصلًا المزيد من النفط الخام مقابل أي مصدر في العالم.

كانت تسعى الكثير من البنوك، بما فيها "جي بي مورغان تشيس" و"إتش إس بي سي" و"غولدمان ساكس" و"سيتي غروب" و"مورغان ستانلي" و"كريدت سوسي"، إلى نُصح المملكة وتحقيق دور في الاتفاقية المحتملة.

قال مسؤول دولي للنفط والغاز في بنك كريدت سوسي سيكيوريتيز، أسمار أبيب: "ينبغي أن يكون كل بنك استثماري عالمي مهتمًا في تحقيق دورٍ ريادي بحكم جودة الشركة وواقع أنها يمكن أن تكون أكبر مشتري لعروض اكتتاب في التاريخ".

قدرت المملكة قيمة الشركة بـ2 ترليون دولار، وهو رقم قال المصرفيون المستثمرون إنه سيكون واقعيًا فقط إذا كان النفط يكلف 100 دولار للبرميل، أي أكثر بـ 40 دولار من سعره الحالي.

يشك الكثير من خبراء الطاقة أن عروض الاكتتاب سوف تُستكمل لأن الأسئلة العالقة حول حكم القانون في السعودية، بالإضافة للامتيازات الخاصة التي يحصل عليها الملوك السعوديون. يتوقعون (خبراء الطاقة) أن أعضاء العائلة المالكة سيقاومون التخلي السري عن مكتسباتهم من الطاقة المخفية عن الإعلام. وفي نفس الوقت، اهتز المستثمرون الدوليون من المكاسب الأخيرة للأغنياء السعوديين الذين أجبروا على دفع أرقام مذهلة من المال مقابل حريتهم وخروجهم من فندق الاعتقال "ريتز كارلتون".

يقول كبير مسؤولي الطاقة في وزارة الخارجية الأميركية في وقت مبكر من إدارة باراك أوباما، ديفي غولدوين: "سيكون أمرًا صعبًا جدًا بالنسبة لهم لإقناع أي أحد لشراء حصة كبيرة من أرامكو إلى حين أن يعرفوا كيف يمكن أن يُحصّلوا شفافية أكبر اتجاه مكاسب الملوك والقيمة الفعلية للشركة".

يقول المسؤولون التنفيذيون في قطاع النفط، أنه سيتم العمل على قضايا التقييم والحوكمة في النهاية، لأن ولي العهد ووالده يعتبرون عروض الاكتتاب كجزء مركزي من إعادة تشكيل الاقتصاد مع المزيد من الاستثمارات الأجنبية.

يقول الحسيني: "لا يوجد مجال للتراجع"، وأضاف: "ينطلق التزام عروض الاكتتاب من قيادة مركزية، من أشخاص قادرون على اتخاذ القرار. إنه ليس طريقًا ضبابيًا لا يأتي بنتيجة".

اقرأ/ي أيضًا | ضغوط سعودية لعقد لقاءات فلسطينية إسرائيلية أميركية

(ترجمة خاصة: عرب 48)