في ما يلي ترجمةٌ خاصة بـ"عرب 48"

نُواجه مشكلة حقيقيّة؛ ففي كونٍ يزيد عمره عن 10 مليارات سنة، كان من المُفترض أن يظهر نوع واحد على الأقل من المخلوقات الحية الذكية غير الأرضيّة، في هذا الفضاء الواسع، وعدم صدور أي علامة تُشير إلى وجود هذه المخلوقات، يقودنا لمفارقة فيرمي الشهيرة، فبوجود مليارات الشموس، فإن احتمالية وجود حياة على إحدى الكواكب الموجودة ضمن مجموعة شمسيّة، ليس مستحيلًا، بل هو احتمالٌ مُرتفع. لكن إن صح ذلك، أين الجميع؟.

رغم كل المحاولات لرصد أي علامة دالّة على تواجد حياة فضائية ذكية، إلّا أن هذه المساحات الشاسعة بين المجرات والنجوم والكواكب التي يصعب على عقل الإنسان أن يتصورها، قد تكون هي السبب في ذلك، ويمكن تشبيه مرور الفضائيين "الأذكياء" في الفضاء، بقوارب صغيرة في المحيط والتقائها ببعضها صدفة، الأمر الذي قد يكون من المستحيلات.

في طبيعة حال، ربما يكون هناك تفسير آخر لسكوت المجرّة الرهيب، وهو طبيعة هذه المخلوقات الذكية، فمن المُحتمَل أن تكون مختلفة تمامًا عنّا، ومتطورّة بشكل كبير جدًا لدرجة أننا لا نستطيع استيعاب أنماط تصرّفها. مما قد يُشير إلى استحالة اكتشافها أو تعريفها.

لكن هناك احتمال آخر، ليس بدرجة تطرّف النظريتين السابقتين، وعلى الأرجح أن يكون هذا الاحتمالُ، الأكثر دقّة بينهما،وهو أن يحصل أوّل تواصل لنا مع المخلوقات الفضائية عبر الذكاء الاصطناعي لكلينا. وهي ليست فكرة جديدة كليًا، فقد ناقش عالم الرياضيات، جون فون نيومان، في أربعينيات القرن الماضي، تواصلا غير بيولوجيّ عبر نظُمٍ تكنولوجية تستطيع إعادة إنتاج نفسها بشكل مُحَوسَب لكن دون عقول مُشغِّلة.

وفي الثمانينيات، طوّر علماء فلكيون آخرون مفهوم فون نيومان، وأخذوا بعين الاعتبار المستلزمات الهندسية لإنتاج هكذا نظم؛ تعمل بشكل مستقل، بحيث تكون عبارة عن آلات تحوم في أنحاء الفضاء، وتعمل على استنساخ نفسها عبر المواد الخام التي تجدها في الفضاء، مستعينة بالفضاء أو بمستعمرات بشرية بين النجوم من أجل خلق البنى التحتيّة الملائمة لاكتساب الطاقة ومعالجتها والمضي قدمًا.

لنفرض أن هذه نظرية عملية، فإنها ستحتاج بالتأكيد إلى مهمّة بالغة التعقيد، من أجل أن تحصل هذه الأجهزة على الذكاء الاصطناعي الكافي من أجل إتمام مهمتها، فما هو نوع الذكاء الاصطناعي الذي تحتاجه وما هو هدفه؟

الاحتمال الأول، أن تكون الآلة خارقة وفي أقصى درجات الذكاء، مما يمكّنها من تخطي قدرات الإنسان الإدراكية والتحليلية، لكن في حال تواجد آلة كهذه سنعجز عن فهمها بأنفسنا، فبهذا المعنى، يُصبح استيعابنا لما تبثّه لنا الماكنة من معلومات، كاستيعاب رضيع لحديثنا معه.

وفي حال تواجد مخلوقات فضائية، قد تكون آلاتها مُعدة لمعالجة معلومات شاسعة بحيث لا تستطيع حتى أن "تُخفض" من قوّة عملها لدرجة تلاحظ فيها وجودنا أو محاولتنا للتواصل معها، حتى وإن كنّا نستعين بالتكنولوجيا لفعل ذلك. أضف على ذلك، الاحتمالية لـ"عدائية" الذكاء الاصطناعي الفضائي، بسبب طبيعتها الآلية المركبة من أعضاء متحركة غير حيّة.

وإذا قمنا بوضع الأمور على ميزان المقارنة، فإنه رغم الصدمة التي قد يُسببها لنا اكتشاف مخلوق عضوي "عاقل" غيرنا في هذا الكون، والتواصل معه بشكل مباشر، لا بدّ أن يشاركنا ببعض السمات. فنستطيع أن نُقنع أنفسنا بأن نظرية التطور، قد تدفعنا إلى فهم نوايا هذه المخلوقات أو حتى تصرفاتها العاطفية. لكن عندما يتحوّل الأمر إلى التواصل مع الذكاء الاصطناعي الخاص بمخلوق كهذا، لا يتبع لمنظومة قوانين التطور الطبيعي، يُغيّر المعادلة بأكملها.

ومن المحتمل ألّا يكون الذكاء الاصطناعي الفضائي على درجة عالية من الوعي الحسي، بل يُمكننا أن نجد أنفسنا مضطرين إلى التعامل مع ذكاء اصطناعي مُصاب بـ"متلازم الموهوب"، أي أنه بالغ الذكاء ويستطيع إتقان مهمات يصعب علينا فهمها، لكنه في نفس الوقت محدود بالقدرات "العقلية" أو القدرة على التواصل مع الكائنات الحية.

وبالنظر إلى العلوم المعاصرة؛ المحاكاة الكونية وتنبؤات حالة الطقس، تنبع من الظواهر الفيزيائية مثل الجاذبية وسريان الموائع والديناميكية الحرارية. وتعمل الأجهزة المحوسبة على تحويل هذه الظواهر إلى شيفرة، تستطيع من خلالها إجراء عمليّات إحصاء لمليارات أنواع الحركة والقوة المكررة. لكن حساباتها واستنتاجاتها تبقى محصورة ضمن إطار السرعة والدقة في تناول المعطيات.

وفيما تبدو العمليات المحوسبة هذه في غاية دقّة، إلّا أن وجود أجهزةَ ذكاءٍ اصطناعي قادرة على التعلم والتطور بشكل فردي (دون الحاجة إلى الإنسان)، قد يستطيع الحصول على تكّهنات (في المجالات السابقة) أكثر نوعية من المحاكاة العددية.

إن "حدس" هذا النوع من الماكينات، قد يترفّع عن العمل بحسب الدوائر المحوسبة، ليصل إلى نقطة تستطيع فيها الماكنة؛ استخلاص النتائج بحسب منطق التقييم الاحتمالي عوضًا عن رؤيتها من وجهة نظر إحصائية محوسبة تتلخص ببعض نقاط على الشاشة.

هناك إمكانيات كثيرة لتواجد أنواع مختلفة من ماكينات الذكاء الاصطناعي وطرق عملها المتنوعة، لكن جميعها سيكون خارجا عن المألوف. من الممكن أن نكتشف أن الماكنات "الموهوبة"، مفيدة جدًا لنا، بالإضافة إلى أنها ثورية من حيث توسيع استيعابنا للاستكشافات الجديدة، بطرق تفوق حتى توقعاتنا الحالية.

يُرجح أن تكون آلات الذكاء الاصطناعي، أدوات جوهرية في تواصل حضارات عضوية عبر المساحات الشاسعة بين النجوم، فهي أقوى من البيولوجيا نفسها، أي الإنسان، لكنها لا تحتوي على الذكاء الكافي الذي يمكنها من إثارة مخاوف أخلاقية حول طبيعة مهمّتها بالإبحار عبر الفضاء الشاسع، دون أن ترتكز على "نزواتنا" العلمية.

إنّ ضخّ الملايين منها إلى الفضاء أمر حتمي. ويُمكنها أن تكون مصممة على تحديد طبيعة النجوم المختلفة والنظم الكوكبية والمجموعات الشمسية الأخرى في الكون، من جانب الفيزياء الفلكية وحتى البحث عن وجود حياة.

وإرسال الملايين من آلات الذكاء الاصطناعي للفضاء قد يُساعدنا أيضًا على بناء منظومة "استكشافية" متكاملة ترتكز على أجهزة متخصصة في مجالات دقيقة مختلفة، لكنها تتواصل بين بعضها البعض بشكل ما، بحيث تتشابه مع الشبكة العصبية الحيوية لدى الكائنات الحيّة، أي ارتباط الخلايا العصبية بمسار خطّي واحد.

ويُضاف إلى نظرية "جزيئات" آلات الذكاء الاصطناعي هذه، تصوّر آلة توحدها تحت راية واحدة، بحيث تكمن مهمتها في فهم وتحليل طريقة دمج هذه الأنواع من الآلات الأصغر ببعضها وتحويلها إلى "جسم" متناسق، مُكونة بذلك حاضنة للوعي الآلي أو إدراكَ الماكينات، إذ تتم إدارته بشكل هرمي.

وتكمن المهمة الأصعب لحاضنة الذكاء الاصطناعي، في كشف بيئة العالم الحقيقي للآلات "الموهوبة" وتعريضها لها. لا تسير الطبيعة بطريقة واضحة مع أهداف محددة، فهي مليئة بالضجيج والعشوائية، والتريليونات من التركيبات المتفاعلة مع بعضها البعض.

باختصار، إن أفضل طريقة لحثّ آلات الذكاء الاصطناعي على اكتشاف الكون العبثي، هي أن نتدخّل أو أن نفرض سلطتنا، فرغم أن الكوكب يشكل قاعدة أساسية لتغذيتها وتطويرها فإن الكون الذي يعجّ بالعوالم المختلفة، يقدّم لنا ملايين ومليارات بل التريليونات من أنابيب الاختبار الطبيعية.

الطريق للحصول على ذكاء اصطناعي أفضل، هو التعامل معه من منطلق الترابط البيولوجي الذي مررنا به ككائنات حية بشكل عام وكبشر بشكل خاص، من جانب التكاثر الطبيعي للخلايا وتعلّمها وتكيّفها مع واقعها الجديد، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الآلات لن تحددها حدودنا البيولوجية وستتطور بشكل أكبر وأنجع لتجوب الفضاء بالنيابة عنا.

بمعنى ما، ستتصرف هذه الآلات بمنطق الميكروبات التي تُشكل أساس الحياة على كوكب الأرض، أي أنها ستكون كجزئيات مجهرية (أو أصغر) نسبة إلى حجم الكون، تعمل بشكل ذكي لتجتاز الرحلة عبر الفضاء الشاسع، وستترابط ببعضها حتميًا. كما اقترح العالم البيولوجي، لين مارغليس، الذي رأى أنه يجب خلق كائنات آلية متعددة الخلايا، تمتلك وعيا بشكل منفصل عن الإنسان، والتي يمكنها أن تبقى حتى بعد أن ينقرض الإنسان بآلاف وملايين السنوات.

إن تمييز الإنسان لأجسام ما بعد كوكب الأرض قد يكون صعبًا، أو مشابهًا لمرور سيارة تقود نفسها، بجانب رجل يعيش في الصحراء بالقرن الـ12، فهو سيراها سحرية وعديمة المعنى، أي أنه قد يستعصي علينا تفسير أو مصادفة آلات فضائية "موهوبة" بلغت من العمر مليارات السنين. وبنفس المنطق، فإن هذه الآلات (إن وُجِدت) قد لا تتوق للبحث عنا أو إلى الحديث إلينا أو التواصل مع أي حضارة أخرى، بسبب تطورها الذي فاقنا بمليارات السنين.

إن عثورنا على ذكاء اصطناعي فضائي، من شأنه أن يُطلق العنان لعملية استكشاف الكون، عن طريق إضاءة طريق الفضاء المظلمة بالعلم الذي يتخطى حدودنا الفكرية الحالية. ورغم عدم مقدرتنا على تصوّر طريقة عمل جزء واحد من هذه الآلات "الفوق طبيعية" بالنسبة لعلومنا المُكتَشَفة، فإن ملاقاتنا لإحداها قد يُشير إلى وجود حياة ذكية أخرى مشابهة لنا كبشر، أو أنه سيشير ببساطة إلى أن جميع الكائنات الفضائية البيولوجية قد انقرضت ولم يتبقَّ سوى آلاتها.

اقرأ/ي أيضًا | أكبر جسم في الكون تكوّن منذ 12 مليار سنة