في ما يلي ترجمةٌ خاصّة لـ"عرب 48"

استذكر المدرب السابق لمنتخب روسيا لكرة القدم، ليونيد سلاتسكي، طبيعة الحياة في الاتحاد السوفييتي، في مقابلة مع صحيفة "بليزارد" في فرنسا التي كانت تستضيف وقتها دوري أمم أوروبا عام 2016، بقوله: "لم نكن نعلم عن وجود دول أخرى يعيش الناس فيها بطريقة أفضل (...) كنا مقتنعين تمامًا، أننا نعيش في أفضل دولة في العالم". رسالة يحافظ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على ترويجها حتى يومنا هذا.

كان فريق المنتخب الروسي، حتى يوم الثلاثاء الماضي، مدعاة لـ"حرج" وطني، فقد أضرت خساراته المتتالية، بخطط روسيا في تصدر فريقها لمباريات كأس العالم لكرة القدم، المنعقد على أرضها. لكن انتصاره على الفريق السعودي في اللعبة الافتتاحية، يوم أمس الخميس، بفارق 5-0 قد يكون مدعاة للفخر الوطني بين مشجعي الفريق رغم توقع النتيجة تمامًا كـ"اندهاش" بوتين بها، من مقعده في المدرج.

وتعالت الهتافات والتشجيع والتصفيق لبوتين في أوساط الجمهور الروسي الذي يُشاهد اللعبة من الملعب، كلّما وُجهت الكاميرات نحوه، خصوصًا بعد فوز الفريق على نظيره السعودي، ما يُشير إلى رغبة بوتين في نسب الانتصار إليه على أٌقل تقدير.

وتبيّن لاحقًا، أن حضور بوتين وولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، للعبة، لم يكن رياضيًا بحت، بل دبلوماسيًا أيضًا. فقد كشف المتحدث الرسمي باسم الكرملين، عن أن زعيمي الدولتين النفطيتين، قد ناقشا زيادة التعاون بينهما. ورغم الفارق الأهداف الكبير بين المنتخبين، إلّا أن التقارب الفكري بين روسيا والسعودية قد يكون أقرب مما نعتقد.

إن "هدف لقاء الدول ببعضها"، هو الفكرة الأساسية المبطنة من وراء الترويج لكأس العالم، واستضافة روسيا للدوري، تسمح لها بانتهاز الفرصة لإعادة ترتيب علاقاتها السياسية مع دول العالم، ودول الغرب بشكل خاص.

وقدمت روسيا بعض التلميحات حول ذلك عندما قامت بالتصويت للولايات المتحدة وكندا والمكسيك، لاستضافة كأس العالم عام 2026، يوم الأربعاء الماضي، وتبدو أن هذه الخطوة تتضمن فاتحة غير رسمية لحوار روسي أولي، حتى مع أكثر الدول التي تروِّج لنفسها بحجج مثل "عزل" روسيا.

لكن علاقات روسيا مع الغرب لا تتسم بالـ"ازدهار"، وأي محاولة لفهم تأثير روسيا على الجبهة الجيوسياسية للعالم، لا يمكنها التغاضي عن تلك العلاقة الضبابية. ومن المحتمل أن يكون لاستضافة روسيا لكأس العالم، أثر على علاقاتها مع الغرب، خصوصًا في هذه الفترة التي تُعد الأكثر انخفاضًا من حيث التوتر الروسي - الغربي منذ انتهاء الحرب الباردة، بالإضافة إلى أنه ليس هناك خلافات أيدولوجية بين الطرفين.

وفي سياق إدارة كرة القدم عالميًا، فإنه من المهم الأخذ بعين الاعتبار؛ هيمنة الدول الأوروبية المتقدمة عليها. ومن الملفت للنظر أيضًا، صراع الولايات المتحدة على امتلاك حق استضافة كأس العالم لعام 2026 رغم عدم شعبية هذه الرياضة محليًا.

وعند الحديث عن السياسة الخارجية للدور، يجبّ عد تضخيم تأثير كأس العالم عليها، فإن استضافة دولة ما لكأس العالم قد تمنحها فرصة في إجراء تغييرات طفيفة على علاقاتها بالدول المشاركة، لكنها لن تغير نهجا بأكمله بهذه الطريقة. وهناك متاعب سياسية أخرى، تحوم حول كرة القدم في روسيا.

تمتلئ الشوارع الرئيسية في المدن التي تستقبل كأس العالم في روسيا، بلوحات إعلانات الشركات الراعية لـ"فيفا"، وينتقل هذا التقليد كل 4 سنوات مع انتقال الدوري العلمي من دولة إلى أخرى، من أجل محاربة التسويق "المخادع".

يمتد كأس العالم لمدّة شهر، وفيه تنتعش السياحة بشكل كبير مما يُفيد المحلات التجارية المحلية والفنادق وغيرها من المشاريع الربحية، إلّا أنه ليست هناك إشارات على فائدة اقتصادية إضافية قد تعود على روسيا، وكالعادة، تكون "فيفا" وشركاؤها في التجارة، الرابح الأكبر من كأس العالم.

وكأي تكتل عالمي آخر، تستفيد "فيفا" عن طريق مغازلتها للدول القوية وإطاعتها. إن ادعاء "فيفا" محاربتها للفساد أجوف، فقد كان واضحًا تصدر التحالف الأميركي الكندي المكسيكي للمناقصة حول استضافة كأس العالم عام 2026، على "غريمه" الوحيد، المغرب، بمجّرد عرضه على "فيفا" ستة مليارات دولار إضافية من الربح.

وتوضح لجان المناقصة حول الحق باستضافة كأس العالم، تحيّزَها للمال مرارًا وتكرارًا، ورغم تصوير المسؤولين على قطاع كرة القدم العالمي لأنفسهم، على أنهم رواد دعم الدول الفقيرة، من خلال إفادتها بـ"مكاسب" كأس العالم، فإن هذه هي خسارة المغرب الخامسة في الاقتراع، وبالمقابل، فقد فاز التحالف الأميركي - المكسيكي بالمناقصة مرتين، عام 1970 وعام 1994. ويبقى السؤال، إن لم يكن المال هو السبب، فما السبب إذا؟

أما في روسيا، فإن تبعات إدخال رؤوس الأموال الكبيرة والشركات الكبرى بحجّة استضافة كأس العالم أصبحت واضحة الآن. فإن المعاناة الاقتصادية المحلية لمواطنيها قد وقعت ضحيّة الإنفاق الهائل للأموال العامة، من بين المعاشات الخيالية للاعبين الأجانب وبناء ملاعب ضخمة باهظة الثمن. وبهذا المعنى، كالاقتصاد الروسي بمجمله، فإن كرة القدم الروسية تستمر في الانصياع للمصالح الخاصة والقطاع الخاص.

ويُمكن اختصار "سخرية" استضافة روسيا لكأس العالم، بإحاطة تمثال كارل ماركس، بالإعلانات الضخمة أو بوجود متجر لعشاق "فيفا" تحت تمثال لينين.

ورغم كل ما ذُكر، فإن هناك رغبة جليّة لروسيا بالانخراط في فكرة "العالمية"، وتذكرنا كلمات المؤرِّخة الأسترالية، شيلا فيتزباتريك، بهذه الرغبة عندما قالت إنه بالنسبة "للروسيين ما بعد السوفييتية، فإن الحرية الحقيقية، تبدو أنها تكمن في حرية التنقل"، بالإشارة إلى الاتحاد السوفييتي الذي كانت حدوده مغلقة بشكل تام. وعلى امتداد مساحات روسيا الشاسعة، يُسمح لجميع الناس في فترة "كأس العالم" بالتنقل مجانًا بجميع وسائل التنقل العامة.