مقتطفات من مقابلة أجرتها الصحفية سوزي وايسمن مع الكاتب ديفيد غرايبر، حول كتابه "المهن التافهة" في صحيفة "جيكوبين" تحت عنوان: " ازدهار المهن التافهة".


المهنة التافهة، هي مهنة لا فائدة منها ولا معنى لها، بل وقد تكون مؤذية. وغالبًا ما يُخفي الشخص الذي يعمل بها، قناعته الحقيقية بأنها يجب ألّا تكون موجودة في الأصل. وبالطبع، إن كنت تعمل بوظيفة تافهة، ستكون ملزمًا على التظاهر بأن هناك سببًا وجوديًا لها. لكنّك تعلم في داخلك، أن عدم وجود هذه الوظيفة لن يؤثر بتاتًا على سير الحياة البشرية، بل وفي بعض الأحيان، أن اندثارها سيجعل من العالم مكانا أفضل للعيش.

يُخطئ الناس بتمييز المهن التافهة عن المهن السيئة، فيظنون أنها ببساطة عبارة عن وظائف مُذلة وتحتوي على شروط عمل كارثية، ولا منفعة منها (للعامل) وغيرها من التقييمات الخاطئة. وللمفارقة، فإن الوظائف سيئة الظروف والبيئة العمالية الصحية ليست تافهة، ويعلم العامل بها، أنه رغم سوئها، إلّا أنها تُفيد العالم بشكل أو بآخر. وفي الحقيقة، فإنك كلما عملت بوظيفة تُفيد بشرًا أخرين، فإنه من المحتمل أن تحصل على راتب أقل وأن تكون ظروف عملك أسوأ.

هناك وظائف سيئة للغاية، لكنها مُفيدة للآخرين، فعلى سبيل المثال، إن كنت تعمل بأحد قطاعات النظافة، والتي يُعاني العاملون فيها بشكل عام من سوء الظروف المتعلقة بوظيفتهم وقلّة الرواتب والنظرة الدونية، فإنك تعلم على الأقل، أنك تقّدم خدمات أساسية يحتاجها البشر. لكن من الناحية الأخرى، تتواجد مهن يتمتع موظفوها بالاحترام الشديد، ويحصلون على رواتب جيدة، وظروف ممتازة، لكنهم يعلمون في سرّهم، أن ما يقومون به، عديم الفائدة تمامًا.

وبحسب ما تم رصده من شهادات الناس والمقابلات معهم، استطعت تقسيم الوظائف التافهة إلى خمسة أقسام عبر عدّة محاور سُئل عنها العاملون في مجالات مختلفة. أولها؛ "الإمعة": خُلق هذا النوع من الوظائف لتمكين الأشخاص الآخرين من الظهور بشكل جيّد، أو بجعلهم يشعرون بشكل أفضل في أحيان أخرى. وقد تكون الوظيفة الأمثل التي تمثّل هذا النوع من "المهن"، موظف استقبال في مكان لا يحتاج حقًا لمن يستقبل الناس، لكن هناك من يجلس وراء المنضدة ليبدو شخصًا مهمًا دون أن يفعل أي شيء يُذكر.

ويمكم وضع القسم الثاني للوظائف التافهة تحت عنوان "التابع"، ورغم أنها تبدو أكثر تعقيدًا إلّا أن الغرض من وراء تحديدها كان شعور الناس العاملين بها، بأنهم يقومون بشيء لا معنى له، عبر المقابلات التي أجريتها معهم، فمثلًا، التسويق عبر الهاتف أو التسويق بشكل عام أو العمل كمحامي لإحدى الشركات وغيرها.

يتميّز نمط هذه المهن، بأن العاملين بها يُفيدون أصحاب شركاتهم أو أماكن عملهم بشكل كبير جدًا، إلّا أن جميعهم يشعر بأن القطاع الذين يعملون به يجب أن يختفي عن الوجود. وبشكل عام، هذه الوظائف مُصممة للأشخاص الذين يعملون على إزعاجك من أجل دفعك للاقتناع بأمور تُفيد شركاتهم. وبهذا المعنى، فإنهم مفيدين لمشغليهم لأن المنافسين لديهم موظفون مماثلون. فإنك لا تحتاج على سبيل المثال لـ"موظف هاتف" إن لم يكن لمنافسك موظف مثله.

وتندرج مجموعة المهن الثالثة تحت عنوان "مغلقي الفراغات"، وهم أشخاص يعملون لحل المشاكل التي لا ينبغي أن تتواجد أصلًا. فمثلًا، إن سقط رف في منزلك، ركّبه نجّار يعمل في شركة لأعمال النجارة، ما أحدث خرابًا في الحائط، فمن حقك أن تتصل للشركة لإصلاح العطب، وفي حال عدم قدوم النجار المختص بالرفوف أو الذي ركب هذا الرف بالتحديد، فإن هناك من يجلس في مكتب تابع للشركة طوال اليوم لتلقي الشكاوى حول موظفي الشركة، وتكمن وظيفته في هذه الحالة بمحاولة طمأنتك طوال النهار عبر تقديم الأعذار للنجار الغائب على شكل اعتذارات لطيفة للحفاظ عليك ضمن مجموعة زبائن الشركة. لكن في حال استبدال الشركة للنجار المتقاعس، لن يكون هناك سبب لخلق وظيفة "مغلق فراغات".

أما القسم الرابع فهو يتمثل بفئة " ملصقي الصناديق"، وهم موجودون للتغطية على أخطاء مؤسساتهم عبر الادعاء بأنها تقوم بأمور هي لا تقوم بها بالفعل. وتُشبه هذه الوظائف، لجان التحقيق، فلنقل إن الحكومة الأميركية قد أُحرجت بفضيحة ما، كاستهداف الشرطة لعدد كبير من المواطنين ذوي البشرة السوداء، تتظاهر الحكومة بأنها لم تعلم عن المشكلة مسبقًا، وتُشكل لجنة تحقيق في الواقعة، والتي تدعي بدورها أنها ستقوم بمعالجة الموضوع، وهذا غير صحيح على الإطلاق.

ولا يقتصر هذا النمط من الوظائف على الحكومات فقط، فإن الشركات الكبرى تفعل هذا، والبنوك كذلك أيضًا، فإنها دائمًا تقوم بخلق لجان داخلية لتُحقق بتصرفات غير قانونية تقوم بها بشكل ممنهج.

وتنتهي الأقسام الخمسة بنمط "مانحي المهمات"، ويندرج تحت هذا النوع من الوظائف، الأشخاص الذين يأمرون موظفين آخرين بالقيام بهمات ليست ضرورية أو المشرفين على عمال لا يحتاجون لإشراف. مثلًا على ذلك، الإدارة التنفيذية التي تكمن مهمتها في "إرشاد" عمال مهنيين يعلمون ماهية عملهم، عبر إخبارهم بما يجب أن يفعلوه، عن طريق عقد اجتماعات لا معنى لها، أو وضع أهداف يقوم الموظفين بالعمل نحو تحقيقها أصلًا.

وفي ما يتعلق بالتقييم الذاتي للقيمة الاجتماعية التي يشعر بها العاملون بالمهن التافهة، فإنه من الناحية الأولى، قالناس مقتنعون بأن السوق يُحدد قيمة المنتج، وأصبح هذا الأمر واقعيًا في غالبية الدول حول العالم. وبهذا المعنى ففي أغلب الأحيان، لا يتساءل بائعو منتج ما أو مقدّمو خدمات معينة عن قيمة عملهم، بل ولا يرونه تافهًا، انطلاقًا من الفكرة السائدة التي تنص على أنه، إن كان هناك سوق لشيء ما، فإن الناس يحتاجونه. مما يُحقق المنطق الرأسمالي.

لكن من الناحية الأخرى، فبإمكان هؤلاء الأشخاص أن يلاحظوا أنهم يتلقون مبالغ ضخمة سنويًا، لبيع منتوجات لا قيمة لها. وهذا يعني، أن السوق ليس دائمًا على حق. ومن الواضح أن سوق العمل لا يعمل دائمًا بطريقة منطقية اقتصاديًا.

اقرأ/ي أيضًا | بهجة بافتتاح كأس العالم وبوتين يتبنّى سياسات جديدة