في ما يلي ترجمة خاصّة بـ"عرب 48" بتصرّف عن موقع The Economist


استرضاء السياسيّين لأغنى أغنياء العالم المقدرة نسبتهم بنحو 1%، يُعتبر أمرًا طبيعيًا تمامًا في سعيهم لإرضاء الجموع. مع ذلك، فإن المتمردين الشعبوييّن في هذا العصر، يصبون اهتمامهم على "أزمة" الهجرة والسيادة أكثر مما يهتمون للزيادة بمعدلات ضريبة الدخل، مع استثناءات بسيطة. ويبدو أن هذه الظاهرة تعدّت الغرابة لتصبح، ربما، إشارة إلى تصاعد تأثير عدم المساواة الناجم عن الفساد الإداري على الديمقراطيات الغربية.

وينصّ المنطق البسيط على أنه كلما ازدادت نجاعة عملية الدمقرطة لمؤسسات دولة ما، كلما قلّ عدم المساواة فيها. وأن ارتفاع التفاوت بتوزيع الموارد وتمركزها بأيدي قلائل سيؤدّي، بشكل حتمي، إلى تفوق الغالبية المتبقية من الشعب على الأغنياء بسهولة، من خلال عمليّة الاقتراع، كونهم أغلبية ساحقة يُعاني أفرادها من تناقص حصّتهم من الدخل القومي الإجمالي.

ويعتقد بعض باحثي العلوم الاجتماعية أن الأصول التاريخية لتوسّع حقوق الامتياز التي تمنحها الحكومات لرؤوس الأموال، نجمت عن محاولات هذه السلطات البحث عن طرق موثوق بها من أجل طمأنة الناخبين بأن توزيع الموارد سيكون أكثر عدلًا. بل وحاجج المختصان الاقتصاديان، دارون أسيموغلو، وجيمس روبنسون، بأنه في القرن التاسع عشر، واجهت الحكومات الغربية خطر ثورة اشتراكية.

ولم تستطع حكومات ذلك العصر، التي أرادت القضاء على تهديدات الثورة الاشتراكية، تقديم مجرد وعود بأن الموارد سيُعاد توزيعها بشكل عادل، ما اضطرّها إلى وضع ضمانات مؤسساتية. ووجدت أن إعطاء ضمانات موثوقة للناس، تتطلب السماح لنسبة أعلى من السكان بالمشاركة بالعملية الانتخابية.

ويرى باحثون آخرون أن دعم النُخب السياسية لمؤسسات غير قائمة على نظام الأغلبية كانت مغروسة بالنظم الديمقراطية، كمجلس اللوردات في بريطانيا والمجلس الانتخابي الأميركي، يأتي من قناعتهم بأن هذا النوع من المؤسسات يقدّم نموذجًا لميول جموع الناس نحو العدالة، وليس لأن رؤيتهم السياسية أفضل.

لكن الدراسات التي تخصصت في علاقة الديمقراطية بمنسوب عدم العدالة تُشير إلى اضطراب بنتائجها. ويناقش روبنسون وأسيموغلو هذا الموضوع في ورقة بحثية أخرى، بالتّعاون مع الباحثين سوريش نايدو وباسكوال ريستريبو، استنتجوا من خلالها أن النظام الديمقراطي يرفع معدلات الضرائب أكثر ممّا يفعل النظام غير الديمقراطي. لكن هذا لا يُترجم بالضرورة بانخفاض عدم المساواة بالدخل.

وقد يكون أحد أسباب هذا التناقض، أن الناس لا يكترثون كثيرًا بعدم المساواة بالدخل، ولا يطالبون السياسيين بالعمل على تغيير هذا الواقع. لكن الدراسات الاستقصائية تُشير إلى عكس ذلك تمامًا، فقد أظهرت استطلاعات الرأي في هذا الصدّد، أن أكثر من ثلثي الأميركيين والأوروبيين، يعتبرون التصاعد بعدم المساواة، أمرًا مقلقًا من الدرجة الأولى. مع ذلك، فيبدو أن الديمقراطيات الغربية قد وصلت إلى حد لا تستطيع فيه إحراز أي تقدم حقيقي في القضايا الجوهرية سواء كانت مُشكلة عدم المساواة أم مشاكل مُلحة أخرى. لكن هذا المعطى غير مرضٍ، أيضًا.

شهدت الدول الغنية خلال العقد الأخير تحولات كبيرة في نهجها السياسي. وقد تمكنّت الحكومة الأميركية، العام الماضي، من إجراء تغييرات شاملة في قوانين الضرائب، بحيث أصبح توزيع الدخل يميل إلى مصلحة الأغنياء أكثر من قبل. ووجد الباحثان في السياسات الأوروبية، ديري إب، وإنريكو بورغيتو، أن الأجندة السياسية في أوروبا، مؤخرًا، باتت تُعطي اهتمامًا أقل لإعادة توزيع الموارد بشكل عادل، رغم التصاعد الواضح لعدم المساواة. ولا يبدو أن السياسيين الغربيين مهتمون بمعالجة مشكلة عدم المساواة بتوزيع الدخل، رغم أنها تتصاعد طرديًا مع القلق العام تجاهها.

ويعتقد الباحثان إب وبورغيتو، أن هناك تفسيرا آخر لهذه الظاهرة، فبدلًا من أن تضغط مشكلة عدم المساواة المتصاعدة على السياسيين لتغيير هذا الواقع وتقليل الفجوات في توزيع الدخل على المواطنين، فإنه من المحتمل أن تعاظمَ المشكلة، يعزز من قوّة الأغنياء، ما يمكنهم من التصدي للإرادة الشعبية.

واستنتج الباحثون في العلوم السياسية، بنجامين بيج ولاري بارتيلس وجيسون سيرايت، عبر فحص أهواء الأميركيين المُقدرة ثروتاهم بما يزيد عن 40 مليون دولار، أن هؤلاء يفضلون تخفيض الحكومة الأميركية من إنفاقها على شبكات الأمان الاجتماعي الرئيسية (بخلاف غالبة الجمهور)، إضافة إلى أنه غالبًا ما يكون هؤلاء منخرطين في السياسية أكثر من الأميركيين العاديين. أي أن ارتباطهم بشكل ما مع المسؤولين المنتخبين أكثر احتمالًا من الآخرين.

وأظهرت بيانات تحليلية للباحث ليي دروتمان، أن أقل من 30 ألف أميركي ساهموا بربع التبرعات السياسية على مستوى الولايات المتحدة، بالإضافة إلى أنهم موّلوا، من جيوبهم الخاصّة، أكثر من 80% من الحملات الانتخابية للأحزاب السياسية المختلفة. ملوحًا بأنهم يحتكرون السياسة الأميركية.

ولا تقتصر العلاقة بين مركزية الثروات والقوة السياسية على الإنفاق السياسي فحسب، ولا على الولايات المتحدة وحدها، فيملك الأغنياء طرقا شتى لصقل الرأي العام، على سبيل المثال، يُمكنهم تمويل مراكز التفكير "غير السياسية"، أو شراء المنابر الإعلامية. ورغم أنهم يستخدمون قوّتهم (الاقتصادية) للتأثير على نتيجة عمليّة انتخابية معيّنة، إلّا أنهم يستخدمونها، غالبًا، بطرق أكثر دهاءً، في تشكيل الرأي العام حول المشاكل التي "يجدر" الانتباه إليها.

وعرض الباحثان إب وبوغيتو، تحليلاتهما، أمام 9 برلمانات أوروبية بين الأعوام 1941 و2014. وخلصت نتائج هذه التحليلات، إلى أن التصاعد في عدم المساواة يقترن بتركيز الأجندات السياسية على قضايا تتعلق بـ"النظام الاجتماعي" كالجريمة والهجرة، أما القضايا الأكثر إلحاحًا، كالعدالة الاقتصادية وغيرها يتم إقصاؤها تمامًا.

وعزا الباحثان نتائج أبحاثهما إلى ما وصفاه "بقوة الأجندة السلبية" للأغنياء، حيث أنه كلما تعاظمت ثرواتهم، يتمتعون بقدرة أعلى على الضغط على السياسيين للدفع بمواضيع معيّنة إلى الفضاء العام على حساب قضايا أخرى.

إنّ الأدلة التي تُثبت أن تعاظم مركزية الثروات يدفع باتجاه مركزية القوة، تُثير القلق بشكل جاد. فإنها تُشير إلى أن احتمال الحد من عدم المساواة يتقلص بشكل مستمر رغم أنه يُصبح أكثر إلحاحًا. ويعني ذلك تطوّر حلقة مُفرغة من عدم المساواة المتزايدة، مصحوبة بفقدان المساءلة الديمقراطية. ويعتقد بعض العلماء، أن هذا هو المسار الإنساني الطبيعي الذي "أثبته" على مدى التاريخ، فتتصاعد عدم المساواة حتى حصول الكوارث، كالثورات والحروب.

وجهة النظر هذه مُتشائمة بشكل مُفرط، فالأغنياء أقوياء، لكنهم ليسوا منيعين، ولا يتماثلون برغبتهم في إبعاد مسألة سياسات توزيع الموارد عن الأجندة السياسية بشكل كلّي. يُضاف إلى ذلك، أن الديمقراطيات الغربية ما زالت فعّالة، وفي حال أراد القادة السياسيون تغيير هذا الواقع، فقد يتوصلون إلى أن إعادة التوزيع ستفوز بصندوق الاقتراع.

اقرأ/ي أيضًا | قوة أفريقية صاعدة... هل تسد أثيوبيا الفراغ؟