في ما يلي ترجمةٌ خاصّة بـ"عرب 48":


غامر ثلاثة صحافيّين روس بالذهاب إلى جمهورية أفريقيا الوسطى المُمَزقة بالنزاعات المُسلحة، في إطار بحث استقصائيّ عن تدخل عسكري للكرملين في أفريقيا وسورية، ومناطق أخرى في العالم، والذي يُجسّد على أرض الواقع باستخدام المرتزقة أو تمويل فصائل مسلحة.

ولم يمر سوى ثلاثة أيام على وصولهم إلى منطقة النزاع، حتى لاقوا حتفهم جراء إطلاق الرصاص عليهم من قِبَل ما يُفترض أن يكون عصابة من "قطاع الطرق".

وتوجّه الصحافيون الثلاثة، أورخان دزيمال وألكسندر راستورغيف وكيريل رادشينكو، إلى البلد الذي كان بأكمله مستعمرةً فرنسية في السابق، في سبيل التحقيق بنشاط قوة عسكرية خاصة تُدعى "مجموعة فاغنر" الممولة من قبل عميل مخابرات روسي سابق، تربطه علاقة بأحد مساعدي الرئيس الروسي، فلاديمر بوتين.

سلَّطت عملية القتل هذه أو الاغتيال، الضوءَ، على المجموعات العسكريّة الخاصة التي يبدو أن روسيا تتعاقد معها كجزءٍ من سعيها الأكبر؛ من أجل استعادة دورها كقوة عُظمى في العالم وبسط نفوذها مُجددًا في أفريقيا بعد أن فقدته مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991.

ودفعت إدارة بوتين منذ تسَلُّمها الحكم، باتجاه استرجاعِ حضورها في المناطق التي خسرتها عقِب تفكُّك الاتحاد السوفييتيّ، ليس فقط من الدول التي كانت تحت سلطتها، بل في مناطق بعيدة عن إقليمها، كانت تتدخل بها روسيا الشيوعية أثناء حربها الباردة ضد الحلف الرأسمالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة، بهدف مُجابهة التدخل الغربي المضاد، مثل سورية وأفريقيا.

ووسَّعتْ موسكو عملها الدبلوماسي والعسكري في دول أفريقيَّة أخرى كالسودان مثلًا، حيث دعمت رئيسها الحالي، عمر البشير، "المنبوذ" من الغرب، حتى أن الأخير اقترح على بوتين بناءَ قاعدة عسكرية روسية على الساحل السوداني في البحر الأحمر.

وقُتل الصحافيون الثلاثة، أثناء توجُّههم من العاصمة بانغيي إلى بلدة سيبوت، قُبَيل وصولهم إلى مبتغاهم بمسافة قصيرة، حيث كانوا يريدون الوصول إليها للتحقيق بمصداقيةِ تقرير الأمم المتحدة الصادر بشأنها، والذي نصَّ على أن روسيا نشرت "متدربين" عسكريين لدعم قوات الأمن المحلية، في ما صرّحتْ وزارة الخارجية الروسية أن معظم الذين أرسلتهم هم من المدنيين إضافة إلى خمس شخصيات عسكرية فقط.

ورغم صعوبة إثبات المعلومات في بلد يُعاني من الفوضى كأفريقيا الوسطى، قال "مختصون" غربيون إن الأشخاص الذين وصفتهم الخارجية بالـ"مدنيين" منتسبون لمجموعة "فاغنر"، وهي شركة حماية خاصة مرتبطة برجل الأعمال الروسي المُقرَّب من بوتين،  يفغيني بريجوزين.

الرئيس الروسي بوتين مع رئيس أفريقيا الوسطى فواستين أرتشانغو توقادرا

وأثارت هذه المجموعة شكوك بعض "المختصين" بسبب عدم اتباعها للبيروقراطية الرسمية الطبيعية، حيث أنها لا تملك مثلًا رقم هاتف أو مكتب أو حتى موقع إلكتروني، الأمر الذي يُشير ربما إلى أنها ليست شركة حماية خاصة، بل مجرد ذراع عسكري روسي تستخدمه المخابرات في عمليات لا تريد الحكومة الإفصاح عنها، لكنها أيضًا، من النوع الذي يوفر فرصًا لجني الأموال إلى أشخاص تربطهم علاقة وطيدة بالدولة.

وعمل الصحافيّون في سعيهم وراء المعلومات، تحت رعاية مؤسسة إعلامية مُمَوّلة من البليونير الروسي المنفي، ميخائيل ب. خودوركوفسكي، وأبدت المؤسسة استغرابها من عملية القتل، إذ إن المُسلّحين الذي يُفترض أنهم لصوص، استهدفوا المركبة التي كانت تقل الصحافيين الثلاثة فقط، ولم يمسّوا بسيارة أخرى.

وخطَّط الصحافيون التوجه إلى منطقة التنقيب عن الذهب بالقرب من نداسيما شرقي سيبوت، حيث شوهد مواطنون روس في المنطقة، ولكنهم قاموا فجأة بتغيير خطّ سيرهم ثم توجهوا شمالا.

وتحتجز سلطات أفريقيا الوسطى، الشاهدَ الوحيد على الحادثة، وهو مواطن لديها وكان يقود السيارة التي أُطلق النار عليها ونجى بـ"أعجوبة".

وقال الباحث في المؤسسة الحقوقية العالمية "هيومن راتس ووتش"، لويس مادج، إن تفاصيل الحادثة "غير منطقية"، خصوصًا أنه يعرف الطريق التي وقع بها الهجوم المُسلّح ولم يمضِ وقت طويل منذ آخر مرّة استخدمه.

أصدرت وزارة الخارجية الروسية بيانا عبَّرتْ فيه عن "أسفها" لمقتل مواطنيها الثلاثة، لكن لهجة البيان كادت أن تلوم الضحايا على ذهابهم إلى أفريقيا الوسطى بسبب عدم إصدارهم تصريحًا رسميًا يُثبت أنهم صحافيّون وليسوا سيّاحًا.

وكانت وزارة الخزانة الأميركية قد فرضت عقوبات على شركة المرتزقة المعروفة أيضا باسم "بي إم سي فاغنر"، بعد اتهامها بتوظيف جنود وإرسالهم لمساندة الانفصاليين الأوكرانيين الموالين للروس بالقتال ضد القوات الحكومية في منطقتَي دونتيسك ولوهنسك الأوكرانيتين، عام 2014.

وأُرسل مُجنّدو "فاغنر" إلى سورية أيضًا، حيث قُتل العشرات منهم أو ربما المئات في شباط/ فبراير الماضي، أثناء القتال ضد القوات الأميركية.

وتوضّحت نوايا روسيا لإعادة نفوذها للقارة الأفريقية بعد "غياب" دام لسنوات طويلة، في تشرين الأول/أكتوبر الماضي عقب لقاء جمع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، برئيس أفريقيا الوسطى، فواستين أرتشانغو توقادرا، في منتجعٍ روسيّ على ساحل البحر الأسود.

وأعلن الطرفان في بيان رسميّ مُوَحَّد؛ عن احتمال شراكة البلدين في استكشاف الموارد المعدنية والتعاون العملي في "مجالات أخرى"، وعيّن توقادرا عقِب هذا الاجتماع، المواطنَ الروسيّ فاليري زاخاروف، مستشارًا للأمن القومي.

وفيما صرَّحت السلطات الروسية ونظيرتها المحلية في جمهورية أفريقيا الوسطى، أن مقتل الصحافيين الثلاثة مساء 30 تموز/يوليو الماضي، كان نتيجة "هجوم عشوائي قاده لصوص في دولة تُعاني من العنف"، إلّا أنه ليس هناك أدلة تدعم هذا الادعاء.

وأحدثت عملية القتل تساؤلات كبيرة في روسيا حول الحقيقة من ورائها، لا سيّما أن الكثير من الصحافيين الروس الذين عارضوا سياسات الكرملين، قُتلوا أو توفوا بظروف غامضة خلال الأعوام الأخيرة.

ورغم توجيه مُعظم أصابع الاتهام إلى مجموعة "فاغنر" التي كانت أصلًا محور البحث الاستقصائي للصحافيين المقتولين، إلّا أن القصة دخلت في منافسة مع نظريةّ بديلة روّجت لها جهة إعلامية أفريقية غامضة، تُفيد بأن حكومة البلد الذي كان يستعمر أفريقيا الوسطى سابقا، فرنسا، هي من خطط للعملية بهدف توجيه رسالة تحذيرية لروسيا حتى تُوقف تدخُّلها في أفريقيا الوسطى التي ما زالت تعتبرها ملكا لها.

واعتبرت فرنسا مستعمرتها السابقة التي نالت استقلالها عام 1960، كـ"غنيمتها المحفوظة" في أفريقيا، منذ عقود، فقد اعتادت فرنسا -حتى بعد ادّعائِها الخروج من أفريقيا الوسطى- إرسال قوات عسكرية للعاصمة بانغي، بهدف "حماية" الجمهوريّة أو إسقاط حكام لها لم تعتبرهم "صالحين".

مع ذلك، فقد فقدت فرنسا في الأعوام الأخيرة "أفضليتها" في أفريقيا الوسطى، مما ضعضع قوّتها في السيطرة السياسية والاقتصادية على الدولة التي يُعاني غالبية سكانها من الفقر المُدقع، خصوصا بعد أن عطل العنف المستشري فيها عمل المشروع التجاري الفرنسي الأكبر فيها، وهو منجم كبير لليورانيوم في باكوما، مما أدى إلى لجوء القادة المحليين إلى روسيا من أجل توفير حماية إضافية لهم.

وكانت الأمم المتحدة التي تمتلك قوّة "لحفظ السلام" في أفريقيا الوسطى، قد فرضت حظرا شاملا على الأسلحة فيها عام 2013، لكنها "خففته" في أواخر عام 2017 بعد طلب روسي. ومنذ أيار/يناير الماضي، تصل أطنان من المعدات العسكرية الروسية إلى مطر بانغي.

وأصدرت الأمم المتحدة تقريرًا في تموز/يوليو الماضي، أفادت فيه أن معدات عسكرية روسية غير مصرح عنها وصلت إلى أفريقيا الوسطى في مطلع العام الحالي لكنها لم تتمكن من معرفة "محتواها" حتى الآن.

ويُعزّز الغموض الذي يحوم حول الشحنات الروسية إلى بانغي مخاوفَ بعض مسؤولي الأمم المتحدة والدبلوماسيين الغربيين بأن روسيا، رغم اهتمامها "الحقيقي" بالمساهمة في "الجهود الدولية" الرامية إلى تحقيق الاستقرار في جمهورية أفريقيا الوسطى، لها أيضا جدولُ أعمالٍ مستقل خاص بها.

(الكاتب: Andrew Higgins and Ivan Nechepurenko)

اقرأ/ي أيضًا | إردوغان للأميركيين: سنبحث عن أصدقاء وحلفاء جدد