في ما يلي ترجمةٌ خاصّة بـ"عرب 48" بِتصرُّف:


يبدو أن إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مُصمِّمة على مواجهة بقيّة العالم، مع استثناءات بسيطة، كروسيا وإسرائيل والسعودية على سبيل المثال، فقد شعرت كل دول العالم المتبقية تقريبًا بغضب واحتقار الرئيس الأميركي الحالي.

وشكّكت إدارة ترامب بجدوى العلاقات مع الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، كما أن الدولة العُظمى تخلّت عن الكثير من مبادئ وأركان وقواعد النظام الليبرالي العالمي، الذي شكلته بنفسها.

لا يمكننا القول إن هذه التطورات هي من صنع ترامب لوحده، فهو يتشارك بطريقة تفكيره مع قطاعات ضخمة من الأميركيين الذين يتميزون بمعرفتهم الشحيحة عن العالم الخارجي، أي غير المحدود في الساحل الأميركي، والذين يميلون للاقتناع بأن بلادهم تتعرض لخطرٍ مُحدقٍ دائم.

وتتلخَّص التعبئة التي تقودها إدارة ترامب ضد "العالم الخارجي" باستخدام سياسات "قاسية" للتعامُل مع مزاعمها بأن العالم يتكوَّن من أعداء وحشيين وحلفاء جاحدين، بالجملة التي ما زال ترامب يستخدمها منذ حملته الانتخابية عام 2016؛ "لنجعل أميركا عظيمة مرّة أخرى".

إن هذا التوجه الاستقطابي بالنظر إلى العالم ليس مؤقتًا، ومن المستبعد أن ينتهي في حال إقالة ترامب أو هزيمته بالانتخابات المُقبلة، بل إنه يتأصل بالثقافة السياسية الأميركية بسبب عنصريْن أساسييْن. الأول، الاستثنائية الأميركية، أما الثاني فيرتبط بالثقافة الغربية العامّة التي تعود إلى فترة ما قبل الميلاد في اليونان القديمة.

الاستثنائية الأميركية

يتبع هذا "المذهب" مُعظم الأميركيين حتى وإن كانت توجهاتُهم السياسية الداخلية متناقدة؛ ديمقراطيون وجمهوريون.

وقدَّم الوزير الأميركي السابق، هنري كسنجر، تعريفًا واضحًا لهذا الاعتقاد بأن المبادئ الأميركية هي "عالمية وأن الحكومات التي لا تتبناها تُعتبر غير شرعية تماما. فكرة متجذرة في العقل الأميركي بأنه هناك جزء من العالم يعيش بحالة عدم الرضى المرحلي الذي سيتغير يومًا ما من قبل الولايات المتحدة". ويُترجم هذا التوجه بأنه "لا يُمكن" أن تختلف مصالح الولايات المتحدة عن باقي البشر.

نظر الثقافة الغربية إلى "الشرق"

يميل العالم الغربي إلى تعريف نفسه من خلال أعدائه حقيقيين كانوا أم مُتَخَيَّلين، ويسكن هؤلاء منذ الأزل في النصف الشرقي من الكرة الأرضية، المكان الذي يتسم من وجهة النظر الغربية بـ"البربرية" و"الاستبداد"، أي النقيض من الغرب الديمقراطي "مناصر" الحريات وصانع التكنولوجيا.

التصوُّر السلبي

وادعى المفكر الفلسطيني، إدوارد سعيد، في كتابه "الاستشراق"، أن المجتمعات "المتخلفة" و"المتقدمة" تُعرِّف نفسها من خلال "التصّور السلبي" لهوياتها، أي أن هذه المجتمعات تميل إلى النظر إلى أنفسها من خلال الخصائص/ التفاصيل التي ليست لديها.

وبهذا المعنى، تنظر المجتمعات إلى أنفسها عبر ما يُمثّل نقيضها، ويُوصم المجتمع المناقض بالدونية ويتمّ التعامُل معه على أنه تهديد. ويبدو أن الغرب نظر إلى الشرق بهذه الطريق منذ العصور القديمة.

تعود هذه التفرقة التي تعتمد على مبدأ الانقسام الثنائي الموروث عن الفلسفة الأرسطية. ولم يقتصر هذا الموروث الفكري على تشكيل السياسة الغربية فحسب، بل على الوعي الفكري للغربيين أيضًا.

ويتأصل هذا الفكر بالوعي الغربي منذ الحروب الإغريقية الفارسية، حيث استُخدم الوصف "بربري" من قِبَل اليونانيين القدماء لوصف كل من لم يتكلم لغتهم، وكل الذين اختلفوا معهم بالعادات والتقاليد وطريقة التفكير.

الأعداء الشرقيون

قد يكون الإغريقيون هم أول من ابتكروا هذا التمييز بينهم وبين جيرانهم الآسيويين، انطلاقا من مفاهيم تتعلق بحكم مجتمعاتهم والعلاقة التي تربط السكان ببعضهم، ونَبَع ذلك من حربهم مع الفرس حيث تنامت النزعة اليونانية النرجسية عبر المقارنات مع خصائص الفرس السلبية، وتم التعبير عنها أيضًا بالثقافة والفن كالملحميات المسرحية على سبيل المثال.

واعتبرت هذا الملحميات أن الإغريقيين تفوقوا على أعدائهم لأنهم متحدون وأحرار ومنضبطون وعمليون بسبب قيمهم الديمقراطية، على عكس الفرس الذين خسروا لأنهم كانوا عكس ذلك في ظل حكم الرجل الواحد الاستبدادي.

ولم يتغير هذا الفكر المخطط له خلال القرون التي تلت تلك الحقبة. ونمت الفكرة بأن الشرق يُعبر عن السلبية والنقيض للمثالية، وتم تناولها بمنهجية بالتأريخ والأدب.

الدين الجديد

عظَّم صعود الإسلام من هذا التوجه الاستقطابي. وسرعان ما تحول "الدين الجديد" إلى رمز لـ"الإرهاب" و"الدمار". وتصدرت الإمبراطورية العثمانية قائمة أعداء أوروبا و"المسيحية" لما يزيد عن أربعة قرون. وللمفارقة، أعادت أوروبا اكتشافها للإرث الإغريقي الذي ساهم في خلق ثنائية الغرب والشرق من خلال العلماء المسلمين.

وعزّز الاستعمار الأوروبي في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، من قيمة "الذات" الغربية، التي تجلّت بالمقولة الشهيرة "عبء الرجل الأبيض". وأنعشت فكرة "تهديد الشرق" في أواخر القرن الماضي من خلال الإسلام "الراديكالي". أما اليوم، فيبدو أن "الأعداء الشرقيين" يتنامون، ويُنظر إلى روسيا والصين وجميع الدول المسلمة كخطر بشكل متفاوت.

ولا يتلخص التوجه الغربي بالنظرة الدونية إلى الثقافات والحضارات الشرقية، بل في تصوّر العلاقة بمصطلحات مانوية (الخير والشر) أيضا، إن عدم تغيير النبرة الغربية التعريفية للعالم بشكل كبير، يُعتبر أمرًا مثيرا للدهشة حقًا.

تُعتبر عبارة "محور الشر" إرثا سياسيا خلفه الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش الابن، إلّا أن السياسي الإنجليزي، أوليفر كروميل، قد يكون أول من استخدمها عام 1656، عندما وصف الشعوب "الغريبة" وغير اللبرالية" بها، كتعبير على أنها "تُهدد" طريقة الحياة الإنجليزية.

وبنفس الروح، يُبرر الغرب "تميزه" عن "الآخرين" باستغلال مصطلحات كالديمقراطية والحرية. ويمكن اعتبار تطبيق الغرب لهذه النظرية بالشكل الانتقائي ومعيار مزدوج، أحد المشاكل الأساسية التي نُعاني منها اليوم، مما يُقلل من مصداقية النظام اللبرالي العالمي.

فبالنسبة للدول الغربية، هناك دكتاتور سيء وآخر سيء. وتُعامل هذه الدول مع انتهاكات حقوق الإنسان بوجهات نظر مختلفة تفاوتت بالحدّة بحسب مرتكب الجريمة. ويمنح الغرب صكوك "الشرعية" للعملية الانتخابية التي تتماهى معه فقط.

وعاملت هذه الأنظمة كل من حاول أن يُفسر الحرية والديمقراطية بتأطير يحيد قليلا عن "الدليل" الغربي له، بدرجة متساوية مع العدو "الشرير" الذي يستحيل التفاوض أو العيش معه.

روَّج بوش بمساعدة الإعلام التقليدي الأميركي إلى أن هجمات 11 أيلول/سبتمبر عام 2001، تنبع من "الكره" الموجَّه لطريقة عيش المجتمعات الغربية، ورغم أن هذا الادعاء قد يعرض بعضا من الحقيقة، إلا أن هذه المجتمعات الغربية لم تشك ولو للحظة باحتمالية "كره" الغرب لما ارتكبه بحق الشعوب الأخرى، لكن ليس لما هو عليه.

سُنت هذه "السياسات" قبل أن يصل ترامب إلى البيت الأبيض بعقود طويلة. وأصبح التوجه إلى تعريف "الآخر" على أنه "شرير" وليس مختلف ببساطة، نهجا متأصلا في الفكر الغربي التقليدي وفي لغته أيضا.

الأعداء الجدد

ويبدو استسهال تعريف واشنطن لـ"التهديدات" الجديدة، في بعض الأحيان في منتهى السخف، فقد أدرجت منذ بداية القرن الحالي، دولا كبنما، والجمهورية الصربية، وجزيرة غرينادا الصغيرة، ومجموعة من المتطرفين الأفغان الذين يعيشون في كهف وعدة دول إسلامية مُمزقة؛ على أنها تُمثّل تهديدًا واضحًا ومباشرًا للأمن القومي الأميركي.

ونجحت الولايات المتحدة عبر التوسع "الذكي" لحلف الناتو عَقِب انهيار الاتحاد السوفييتي، بإعادة تعريفه كعدو مركزي بما سُمي بـ"الاتحاد الروسي"، أما في الفترة الحالية، تم إحياء الاصطفاف القديم للشرق والغرب باستخدام السياسات الاقتصادية الهجومية ضد الصين وبلطجة الدولار.

الأسطورة الثنائية

يُعاني الوضع الدولي في واقعنا اليوم من "رُهاب" بشكل أصبح فيه أي نقاش واقعي عن قضايا مركزية كروسيا والصين والقضية الفلسطينية وإيران، شبه مستحيل.

ويُصنَّف التعبير عن القلق بالرواية التقليدية حول النشاط الروسي في العالم اليوم، إلى "جاسوسية" لصالح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتُوصَف الإشارة إلى أن الفائض التجاري لصالح الصين هو في الغالب نتاج عمليات "إخراج" صناعة الشركات الغربية الضخمة من حيّز التوطين، بالغباء. ويُتَّهم منتقد بعض "الممارسات الإسرائيلية" المشبوهة باللاسامية. فيما يُتفه التذكير بأن إيران احترمت اتفاق لوزان النووي الذي عقدته مع بقية دول العالم عام 2015، أو "الادعاء" بأن حقوق الفلسطينيين مدعومة بموجب القانون الدولي، بوصف "دعم الإرهاب".

وينبع هذا التفكير الثنائي الذي يفضي إلى فكرة "إما أن تكون معنا أو ضدنا"، من الاستثنائية الأميركية والسعي الغربي الدؤوب إلى تعريف ذاته من خلال "الأعداء الشرقيين".

عندما تبدأ المؤسسات السياسية الغربية بتصديق دعاياتها الترويجية، وتقود أفرادها للإيمان فيها كما فعلت الولايات المتحدة عند غزوها للعراق بزعمها أن البلد يحتوي على "أسلحة دمار شامل"، تزداد احتمالية "إساءة التقدير" ما يؤدي إلى تعاظُم "الصراعات".

أسئلة جوهرية

لماذا يحتاج الغرب إلى الشعور الأبدي بالإيمان بعدد كبيرٍ من القصص غير المُدعَّمة بحقائق وتخيّل تهديدات كثيرة من أجل تبرير سياسات أمنها القومي؟

لماذا تقوم هذه الدول بالبحث المستمر عن الأعداء وإظهارهم بهدف إثبات و"حماية" القيم الغربية الليبرالية رغم أنها قوية جوهريا و"صالحة"؟

تُشير المدارس الفكرية عادة إلى أن أسباب ذلك تكمن في سعي المجتمع الصناعي الأميركي الدائم لتطوير نفسه وامتلاك القوة، والإجابة صائبة لكنها ليست شاملة، فيخاف الغربيون من إجابة مُقلقة أكثر من الأولى، وتكمن في أن التهديد الحقيقي للغرب يقع ضمن المجتمعات الغربية، وإن اختزالها في ترامب الذي تسلم منصبه حديثا، يُعتبر أمرا منقوصا.

يجلس العدو داخل هذه المجتمعات، فهو مدفون في أعماق ضمائر أفرادها، وقد يكون الاقتناع بذلك على درجة عالية من الصعوبة، مما يدفعنا مضطرّين للبحث عنه في الخارج.

اقرأ/ي أيضًا | في أفريقيا... جرائم غامضة تُشير إلى الكرملين