خاص: عرب 48

ـ 1 ـ

كنت في  الثامنة عشرة، آخر عهدي بالطفولة، شاباً في مقتبل العمر، وكانت تلك الأيام من حزيران قد سبقت موعد دخولي امتحان الباكلوريا بأسبوع كامل، إذا أردتَ الدقة، كنت أتقلب يومها بين الإقامة في مدينتي شفشاون (شمال المغرب) التي أذكر أنني كنت بها، صبيحة الهجوم الإسرائيلي الغادر على المطارات العربية في مصر وسوريا، كنت في المقهى، وكان خالياً نسبياً، ذلك الصباح،  فقد صادف أن كان يوم السوق الأسبوعي، وإلى جانبي كان أحد أبناء مدينتي 'عبد الحي ع'. وهو أحد الذين  تابعوا دراستهم الجامعية بالقاهرة، يكاد يكون المهتمَّ الوحيد، إلى حد القلق، بين الزبناء القليلين ضحى ذلك اليوم المشؤوم، وكان  يكبرالطفل المترشح للباكالوريا الذي كنته، سناً ووعياً أيضاً بالضرورة، وكان يستعجل الأخبار، ولا مصادر أمام أبن مدينتي هذا، وكافة أبنائها أيضاً، إلا ما كانت تذيعة القاهرة، ومنها كانت غيرها من الإذاعات تنقل بالرجوع إليها، وكان صوت مذيع بها لا يكف عن بث أخبار كاذبة تصور ما نزل من هزيمة في الساعات الست الأولى  على أنه انتصار، من حيث عدد طائرات العدو التي أسقطها طيراننا، وحصر المسافة الفاصلة بين طلائع جيوشنا لاحتلال 'تل أبيب' في ستين كيلومترليس غير، وأن السيطرة على عاصمة العدو ليست أكثر من مسألة وقت. وهكذا دوختنا أنباء النصر في الساعات الأولى من الخامس من حزيران. 

وظلت الغشاوة التي ألقاها الإعلام الكاذب مهيمنة إلى حين انقشاع التضليل الإعلامي المخدّر.

بعدها أتذكر مساء التاسع من حزيران، بعد أن كنت انتقلت إلى بيت شقيقي بمدينة طنجة، وأنا أتقلب بين شوارعها وأحيائها راجلاً، من 'السوق الداخلي' إلى 'سوق برَّا' إلى 'رأس المصلى' فـ' سور المعكازين'حتى أسفل البولفار، كانت أمواج المذياع تأتيني من أكثر من مكان، مما يعكس قلق الناس بما كان حقاً حرباً عربية، ذات تأثير جماعي شامل،  وهو يعلن  في صوت جهوري عبارة لن أنساها: (يا جماهير شعبنا العربي... ابقوا في الاستماع، الرئيس جمال عبد الناصر سيخاطبكم بعد قليل) وكان هذا الإعلان يطرق مسامع الناس، وأنا أنتقل بين أكثر من حيّ في  طنجة، التي كان يعمُّها ذلك المساء هدوء غريب، حتى كأن لا مذياع يعمل أثناء ذلك، وكأن كل من كان في المدينة ركزوا على أعمالهم التي بين أيديهم لا يكادون يتحدثون حتى إلى أنفسهم، فغريب أمرُ شعبِنا هذا حين ينطوي على جرحه، الذي دل هدوؤه على ما كان ينغل في أعماقه من ألم مبرّح صامت، حتى وهو في مدينة اللهو والمرح والانطلاق على الشاطيء الجميل، فيها بما كان منذ خمسين عاماً، كان شعب طنجة بكل خليط أجناسه وقومياته، يبدو  بمظهر الصابر الذي لا ينظر إلا إلى داخله الذي يرتجُّ ويضطرب، مما يخالف خارجه الذي يكاد لا يقول شيئاً، تحدث جمال، وأعلن ما حل بالجيش من هزيمة، وأعلن تحمله المسؤولية في ما حدث، وهو يقرر تخليه عن منصبه في القيادة، والعودة إلى صفوف الجماهير. وقد كان ماكان من موقف المصريين من هذا القرار.

لكن شعبنا العربي في المغرب، الذي كان يقف موقف المندهش من تراخي قياداته  التي اختار بعضها الهروب إلى الأمام، بالإعلان عن بعث تجريدات من قوات مسلحة للمشاركة في قتال حُسم أمره على الأرض في ساعات الحرب الأولى، منعاً لاندفاع الناس في إعرابهم عن رغبتهم في المقاومة، مثل دهشة المغاربة من خطاب ملكي أعلن فيهم في الأيام الأولى للهزيمة حماية الدولة في المغرب لليهود المغاربة فلذلك بتحريم مسهم بسوء، أو إلحاق أي ضرر بممتلكاتهم، وأمام الذات المغربية العربية الجريحة، فجَّـر هذا الخطاب تُجاه وعي المواطن، بأن' اليهود إخوانكم' واقعاً مراً صعب الابتلاع، كان من الممكن قبوله حقوقياً في مناسبة قومية سياسية أخرى، ليست هي مناسبة النكسة الدموية التي قادت إليها ظروف ومعطيات مكر دولين، تثبت بالملموس براءة القيادة المصرية ووطنيتها، وإن كان لا يغفر لها 'سذاجتها'،  وهي تصدق وعودًا روسية بأن بلادها لن تمس بسوءٍ.

وأذكر لمناسبة إعلان أخوة المغاربة لليهود حكاية كان رواها لنا من كان يكبرنا سِنّاً، عن زمن النكبة، عن أشكال ردود الفعل المحلية سنة 1948 يوم إعلان قيام دولة العدوان: ذلك  أن مواطنا من مدينتي كان يجلس في مقهى كان به أحد أفراد الجالية الإسرائيلية، كما يطيب ' لإخواننا اليهود' في المغرب أن يسموا أنفسهم، فقد فوجيء ابن مدينتي  بــ' الأخ اليهودي'، الذي كان يتابع من إذاعة بعيدة، ربما كانت الببس العربية، يهب واقفاً غير قادر على إخفاء فرحته التي لم يخطر على باله أن يخفيها ولو على سبيل التقية، كما يفعل أي متفرج في كرة القدم على أيامنا هذه،  ولمَّا سأله عما به، أجابه 'الأخ اليهودي':
لقد أعلن قيام دولة إسرائيل!

فما كان من هذا المواطن المغربي البسيط إلا أن انهال على 'الأخ اليهودي' ضرباً عقاباً ـ  والزمن  زمان الحماية الاستعمارية ـ على الأقل لعدم احترام مشاعر الناس القومية من حوله. الأمر الذي جعل اليهودي يفطن إلى ما وقع فيه من عدم إخفاء انفعاله، وينسحب  على الفور من فضاء المقهى الشعبي الذي كان فيه.

ـ 2 ـ

كان اليوم السابق للامتحان  يوم التحاق الطلبة بمدينة تطوان من كل جهات شمال المغرب،التي كان بها مركز الباكالوريا الوحيد الذي يعني الأقاليم الشمالية من الناظور والحسيمة إلى شفشاون والعرائش وأصيلا والقصر الكبير، بكل شعبها العلمية والأدبية والتقنية، باستثناء طنجة التي احتفظت بوضعية مستقلة منذ أيام كانت إدارتها  الدولية .

ولقد كنت دائمًا أعتقد أن خير أبناء مجتمعنا في كل العصور كان الطلبة والتلاميذ.فقد كان اجتماع أبناء المناطق الشمالية  بتطوان بمناسبة الامتحان المذكور، مناسبة ذهبية لانطلاق مظاهرة صاخبة ،جابت رغم القمع والمضايقة الأمنية ، شوارع تطوان بمشاركة أبناء شمال المغرب معلنين احتجاجهم ورفضهم للهزيمة، ورغبتهم في قتال العدو.

و رغم كل ما يمكن قوله عن تواطؤ المغرب الرسمي يبقى أن هذه الفئة من أبناء شعبنا، قد فجّرت بعض عنفوانها في مظاهرة صاخبة معبرة عن إيمانها بعروبتها ووقوفها مع الحق العربي في وجه قوى الاستعمار أذياله من أنظمة التواطؤ والعار.

دخلنا قاعات الامتحان منطويين على ألم كبير، واجتزنا اختباراته دون كبير شعور مع ما كان الجميع يعاني منه، وظهرت النتائج التي توزع الناجحون على إثرها بين جامعات الرباط وفاس، وعلى مدرجات الدروس  الجامعية وأحياء سكنى الطلاب، بدأت تتبلور ردود الفعل الأدبية والعلمية والسياسية والفكرية، في غير انفصال عن معطيات الواقع الوطني والدولي، وما شاع في الواقع العربي، من ردود  فعل تميزت في غالبها بجلد الذات واحتقارها، وإبراز مظاهر تخلفنا  واعتبارها تعبيراً عن تأخر ذاتي لا سبيل إلى تجاوزه،  وإعلان استسلام بعض الاتجاهات  للقوى السائدة  على مستوى العالم. والانتصار لسيادة المتشككين في إمكانات العرب، والانتقاص من جدارتنا في إمكان انتصارنا يومًا  على واقع الهزيمة المدَوّية.

لكن قبل التحاقي بأشهرٍ قليلة بالجامعة كنت أتابع ما ينشر في صحافتنا الأدبية، وإن أنْسَ  لا أنْسَ صوت الشاعر المغربي المرحوم محمد بن دفعة وهو يهدر رافضاً الهزيمة:
آلو ..غولدا
صمَتَ العربُ
صمْتاً ما كانَ بْعادةِ مَن
أقصى ما يصنعه الخُطَبُ
وكذلك صوت الشاعر عبد الرفيع جواهري، وهو يقرأ على الشاشة ،لاواعداً ألا ينسى تاريخ خامس من يونيو (حزيران) خامس يونيو خمس في يَدِي.
وفي نفس أشهر الصيف التالية تابع مهرجان الشعر المغرب الحديث بشفشاون دورته الثالثة، و التي كانت قد خصصت كامل أعمالها لفلسطين  السليبة، التي ظلت دائمًا في جوهر القضايا العربية المطروحة خلال الخمسين سنة الأخيرة، بل وقبل نكسة يونيو1967  لا أعادها الله.

استمر تفاعل الأدب المغربي شعرًا ونثرًا وفكرًا وسياسة وفنونًا تشكيلية، في أعمال دلَّـتْ على أن الذات المغربية جزء من الذات العربية الواحدة ،وأن كل ما يجري علينا في موقفنا من ذاتنا، اعتدادا أو احتقاراً وجلد ذات، إنما يعبر عن أننا أمة واحدة لا انفصام مثل ما عبرت عنه أطروحة الفيلسوف المغربي عبد الله العروت في كتابه الرائد (الإيديولوجيا العربية المعاصرة).

وقد قضت معطيات الثقافة والأرض والتاريخ  بأن يكون للوطن العربي جناحان، لا سبيل إلى التغلب عليه ما لم يقيدا ويشلاّ معاً، فكانت الهزيمة تآمراً على العربي في المشرق والمغرب، إلى أن يقيض له التاريخ موعداً آتياً لا ريب فيه، لن تخطئه الإرادة العربية ، هو موعدها  التحرروالتقدم عما قريب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحمد بنميمون ـ شاعر وقاص من المغرب